الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحاولات في القديم
يرى الشيخ محمد أبو زهرة (أن الطوسي (1) كان بشخصه أول من حاول التقريب الفكري والنفسي بين طائفة الاثني عشرية وجمهور المسلمين) (2) ، بينما يرى د. محمود بسيوني فوده أن دعوة التقريب لها جذورها القديمة التي تمتد في نظره إلى القرن السادس الهجري وبالتحديد إلى شخصية الطبرسي (3) ، ويرى أن هذا الرجل أول من وضع اللبنات الأولى للتقريب بين أهل السنّة والشيعة في صورة علمية متسامحة ونفسية هادئة تركز على إزالة الهوة بين المسلمين (4) . ويعني فودة بدعوة التقريب التي ينسبها للطبرسي هو ما سلكه في تفسيره «مجمع البيان» من تفسير لآيات القرآن معتمداً فيه على مصادر الفريقين ومتجنباً بعض "مظاهر الغلو" المعهودة عند الروافض في الاعتقاد والتفسير. وقد سبقه إلى هذا المنهج الطوسي في تفسيره «التبيان» ، وقد اعترف الطبرسي أنه يسير على نفس أسلوب الطوسي في التفسير. فمنهجهما في هذا واحد، ومعنى ذلك أن الطوسي أسبق في هذا المجال، وأن هذا يتفق مع رأي أبي زهرة.
(1) وهو شيخ الشيعة الملقب عندهم بشيخ الطائفة، وصاحب كتابين من أصولهم الأربعة في الحديث، وكتابين من أصولهم الأربعة في الرجال (ومضى التعريف به ص 122) .
(2)
محمد أبو زهرة: «الإمام الصادق» : ص 464.
(3)
هو شيخ الشيعة الملقب عندهم بـ "أمين الإسلام"، وصاحب تفسير «مجمع البيان» . أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (مضى التعريف به ص 90.
(4)
محمود بسيوني محمد فودة: «الطبرسي مفسراً» ص 10 (رسالة دكتوراه لم تنشر) .
وقد اعترف أحد كبار شيوخ الشيعة في القديم "ابن طاوس" وأحد كبار الشيعة في العصور الأخيرة "النوري الطبرسي"(ت 1320هـ) أن تفسير التبيان للطوسي موضوع على أسلوب التقية وعلى غاية المداراة للمخالفين - كما سبق - (1) ، ومن الدليل أنه وضع على التقية أن الطوسي هذا يرفض الاحتجاج بروايات أهل السنّة، بل يرفض روايات زيد بن علي بن الحسين (وهو من كبار أئمة أهل البيت وأجمع أهل السنّة على أنه من ثقات المسلمين، ولكن الطوسي يرفض روايته (2) لأنه ليس بجعفري، فكيف مع هذا يحتج الطوسي بروايات أهل السنّة في تفسيره «التبيان» إلا على أساس التقية ومحاولة نشر التشيع بين أهل السنّة بالاحتجاج على أصوله من روايتهم؟.
فكانت حقيقة محاولة "الطوسي" في التقريب هو نشر عقيدة "الرافضة" بين جمهور المسلمين. وفي «البحار» للمجلسي - وهو أحد مصادرهم الثمانية في الحديث - باب مستقل في النهي عن الأخذ بروايات السنّة إلا في حالة الاحتجاج عليهم (3) . وقد سار الطبرسي على منوال الطوسي ومسلكه - كما أسلفنا (4) -.
وإذا كان الشيخ أبو زهرة يرى أن الطوسي الرافضي كان أول من دعا للتقريب فهذا صحيح باعتبار أنه قدم منهجاً في هذا السبيل، وإلا فإن التاريخ يشير إلى حصول محاولات للتقارب بين السنّة والشيعة في القرن الخامس الهجري حدثت أثناء الصراع العنيف الذي نشب
(1) ص 244 من هذا البحث.
(2)
انظر: ص 338 من هذا البحث.
(3)
انظر هذا البحث: ص 56.
(4)
انظر هذا البحث: ص 245.
بين الطائفتين في بغداد، والذي بدأ في سنة 338هـ في ربيع الأول منها وذلك بحدوث فتنة بين أهل السنّة والشيعة (1) لأول مرة في تاريخ بغداد (2) ، ثم توالت الفتن بينهما (3) بعد ذلك.
ومحاولات التقريب التي وقعت للقضاء على ذلك الصراع الدموي العنيف لا نعلم عن تفاصيلها شيئاً، فهي مجرد "إشارات" نقلها بعض المؤرخين. فمثلاً قال ابن كثير:
في سنة 437 (اتفق أهل السنّة والشيعة على مواجهة اليهود في بغداد وقاموا بنهب دورهم وإحراق الكنيسة العتيقة التي لهم)(4) ولم يفصل أكثر من ذلك، والأقرب أن هذا الاتفاق جرى من عوام الفريقين، ذلك أن صنيعهم مع أهل الكتاب لا يتفق ومبادئ الإسلام في حقوق أهل الذمة. ولكن هذا "الاتفاق" ما لبث أن انتهى سريعاً، ففي سنة 439 (وقعت فتنة بين الروافض والسنّة ببغداد قتل فيها خلق كثير)(5) .
لكن بعد ذلك حدث وفاق وتصالح مرة أخرى، فيذكر ابن كثير أنه في سنة 442هـ (اصطلح الروافض والسنة ببغداد وذهبوا كلهم لزيارة مشهد علي ومشهد الحسين، وترضوا - أي الروافض - في الكرخ على الصحابة كلهم وترحموا عليهم، وصلوا في مساجد السنّة،
(1) ابن كثير: «البداية والنهاية» : (11/221) .
(2)
عبد الرزاق الحصان: «المهدي والمهدوية» : ص 74.
(3)
انظر مثلاً: حوادث سنة 406، 408، 421، 422، 425، 439، 443، 444، 445، 447، 478، 481، 482، 486، 510. في «البداية والنهاية» وغيرها.
(4)
ابن كثير: «البداية والنهاية» : (12/54) .
(5)
المصدر السابق: (12/56) .
وتواد الفريقان وتحابوا (1) . قال ابن كثير: وهذا عجيب جداً إلا أن يكون من باب التقية) (2) .
وأقول: إن الدليل على أنه تقية أنه بعد ذلك بسنة واحدة ـ أي في سنة 443 ـ قام الروافض ونصبوا أبراجاً وكتبوا عليها بالذهب: (محمد وعلي خير البشر فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر)(3) . وهذا تكفير لمن قدم الخلفاء الثلاثة على علي وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنزيل لعلي رضي الله عنه منزلة أفضل الرسل والأنبياء. فبسبب صنيع الرافضة هذا اشتعلت الفتنة بين الفريقين ووقعت الحرب بينهما (4) .
ثم عاد التصالح بين الفريقين مرة ثالثة، وأشار إلى ذلك بعض المؤرخين بقوله: وفي سنة 488هـ (اصطلح أهل الكرخ من الرافضة والسنّة مع بقية المحال، تزاوروا وتواصلوا وتواكلوا وكان هذا من العجائب)(5) .
هذا ما ذكرته كتب التاريخ التي اطلعنا عليها من حوادث الوفاق والتآلف، وكانت هذه "المحاولات" في خضم الأحداث الكبيرة العنيفة من الصراع بين الطائفتين أشبه ما تكون بومضة برق في ليل
(1) المصدر السابق: (12/56)، وراجع: ابن الجوزي: «المنتظم» : (8/145)، الذهبي:«العبر» : (3/199) .
(2)
ابن كثير: «البداية والنهاية» : (12/61)، وقال الذهبي معلقاً على هذا الاتفاق:(وهذا شيء لم يعهد من دهر) . الذهبي: «العبر» : (3/199) .
(3)
، (4) انظر ابن الجوزي:«المنتظم» : (8/149)، ابن كثير:«البداية والنهاية» : (12/62) .
(5)
ابن الجوزي: «المنتظم» : (9/87)، ابن كثير:«البداية والنهاية» : (12/149) .
بهيم، ما تلبث أن تنتهي. ونقول - من غير تحيز أو تعصب - بأن أسباب الصراع والفتن - في الغالب - مصدره وسببه الروافض نتيجة لسبهم وتكفيرهم للصحابة في مآتمهم السنوية "عاشوراء"، وهذا واضح لمن يستقرئ التاريخ.. فكان استفزازهم لأهل السنّة و"شنائعهم" تقضي على كل محاولة "وفاق".
وإذا كان ما مضى ذكره من محاولات كانت - كما يظهر - تتم عن طريق "القاعدة الشعبية"، فإن هناك بعض المحاولات عن طريق "القمة" أو "القيادة السياسية"، ومن ذلك ما قام به "المأمون" من توليته العهد "لعلي الرضا"(1) ، والذي يزعم التشيع له وأتباعه طوائف من الروافض وغيرهم (2) . وذلك أن المأمون رأى أن علياً الرضا خير أهل البيت - يعني في زمنه - وليس في بني العباس مثله في علمه ودينه (3) ، فقلده ولاية العهد، وقد يكون في صنيع المأمون لو تحققت نتيجته امتصاصاً للنقمة، وتحقيقاً للمودة من قطاع كبير يزعم أحقية "الرضا" للخلافة وتفويتاً للفرصة أمام الأعداء الذين يستغلون دعوى التشيع لأهل البيت من أجل تحقيق أغراض لهم ضد
(1) علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي العلوي الملقب بالرضا، وقد روى الحديث عن أبيه وغيره وعنه جماعة منهم أبو الصلت الهروي وأبو عثمان المازني. قال ابن المسعاني: والخلل في رواياته من رواته، فإنه ما روى عنه إلا متروك. توفي بطوس سنة 203هـ. انظر: السمعاني: «الأنساب» : (6/140)، ابن تيمية:«منهاج السنّة» : (2/155) وما بعدها ط 1، ابن كثير:«البداية والنهاية» : (10/250)، الذهبي:«الكاشف» : (2/296) .
(2)
وكان توليته العهد يوم الإثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة 201هـ. انظر: «تاريخ خليفة بن خياط» : ص 470، «تاريخ اليعقوبي» :(2/448)، «تاريخ الطبري» :(10/243)، ابن كثير:«البداية» : (10/247) .
(3)
ابن كثير: «البداية والنهاية» : (10/247) .
الإسلام والمسلمين، ولكن وفاة الرضا (ت 203هـ) حالت دون ذلك. وقيل إنه مات مسموماً (1) .
لكن أكبر محاولة وأهمها للتقريب على أساس اتباع الحق هو ما حدث بين الطائفتين في القرن الثاني عشر في اجتماع بين ممثلي الطائفتين برئاسة علامة العراق "عبد الله السويدي" وإشراف وتدبير "نادر شاه"(2)، وهو ما سنتحدث عنه فيما يلي:
مؤتمر النجف:
وصفه محب الدين الخطيب بأنه (أعظم مؤتمر عقد في تاريخ المسلمين للتفاهم بين الشيعة وأهل السنّة المحمدية)(3)، وقال أنه:(كان الأول من نوعه في المجتمع الإسلامي) .
وأحداث هذا المؤتمر تضمنتها مذكرات علامة العراق عبد الله السويدي والتي سماها: «النفحة المسكية في الرحلة المكية» والتي لا تزال مخطوطة (4) ، كما تضمنها كتاب ابنه "عبد الرحمن بن عبد الله
(1) السمعاني: «الأنساب» : (6/139)، وزعم الروافض أن المأمون دس له السم. انظر: عباس الموسوي: «الموجز من حياة أئمة أهل البيت» : ص 91.
(2)
نادر شاه: نادر قولي تسمى بنادر طهماسب قولي خان تيمنا، وهو مؤسس أسرة أفغار. عرف بالشجاعة الفائقة، وترقى في رتب الجيش وعلا مقامه بانتصاراته على الأفغانيين والترك. في عهد الأسرة الصفوية جعل نفسه شاه فارس عند وفاة عباس آخر عاهل في هذه الأسرة، وتوفي سنة 1747، وكانت ولادته سنة 1688م. «الموسوعة العربية الميسرة» : ص 1814، بروكلمان:«تاريخ الشعوب الإسلامية» : ص 525.
(3)
مجلة «الفتح» : المجلد 17، ص 665.
(4)
يوجد منه نسخة في مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة رقم (269) .
السويدي" والمسمى: «حديقة الزوراء في سيرة الوزراء» أو «تاريخ بغداد» في القسم الذي لم يطبع من الكتاب (1)، وقد أفردت أحداث هذا المؤتمر (من مذكرات السويدي) بكتاب سُمّي:«الحجج القطعية لاتفاق الفرق الإسلامية» ، وطبعته مطبعة السعادة بالقاهرة عام 1323هـ، ثم نشره محب الدين الخطيب باسم «مؤتمر النجف» 1367هـ، وكان قد نشره قبل ذلك على صفحات مجلة «الفتح» بعنوان أعظم مؤتمر في تاريخ المسلمين للتفاهم بين الشيعة وأهل السنة المحمدية (2) .
وفيما يلي: تعريف بالشيخ السويدي عماد هذا المؤتمر، وتلخيص وعرض لأهم أحداثه ومقرراته (3) .
(1) يوجد منه نسخة مصورة في معمل التاريخ بكلية اللغة العربية بالرياض، لا تحمل رقماً ولا إشارة لجهة تصويرها.
(2)
ثم طبع بعد ذلك بمطبعة البصرى ببغداد، ثم طبعته المطبعة السلفية بالقاهرة مع الخطوط العريضة.
(3)
وكنت قد رأيت إخراجه محققاً ضمن صفحات هذا البحث، إلا أن المشرف اقترح علي العدول عن هذه الفكرة والاكتفاء بتلخيص أحداثه.