الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانت ولادته سنة اثنتين وثلاثين وخمسمئة بواسط، وتوفي ليلة الأحد، السادس والعشرين من شعبان سنة اثنتي عشرة وستمئة ببغداد ودفن من الغد بالوردية.
ومنهم:
41- زيد بن الحسين بن زيد بن الحسن بن سعيد الكندي
«13»
أبو اليمن تاج الدين البغدادي المؤلف والمنشأ، الدمشقي الدار والوفاة، المقرئ والنحوي الأديب. وهو الذي تضرب به النحاة المثل، وتضرب عنه الملل. بلغ شأو القدما، وزاد عليهم زيادة الألف والنون في بعض الأسما. أجمل بذكره المشاهير، فانسلخ أبو الأسود من جلدته، ويئس الكسائي من حدته، وفرّ الفرّاء، وعرف أن سبب موت سيبويه ممّا ضرب زيدا عمرا.
وعذر جمر نفطويه إذا أصبح وهو جامد، والمازني إذا لم يذكروا وقبله زيد وعمرو وبكر وخالد. أعملت الركائب إليه السير، وعرف الخير منه، فسميّ زيد الخير. تقدّم في الدولة الناصرية الصلاحية من أولها، وأثرى من تموّلها، وكان له من بني أيوب ما زاد في زهوه وأكرم به لذلك ونحوه. وكان عليه طريقنا في رواية أكثر كتب الأدب وتلقيها ممن كتب.
وهي على جلالته وعلمه الذي يسم منكره بجهالته ما خلا من غمز غامز، وذكر نقص، وما هو عايز؛ إلا أنه تلي شيطان ساء قرينا، وقال ولم يرقب دينا.
قال ابن خلكان: كان أوحد عصره في فنون الآداب، وعلوّ السماع، وشهرته تغني عن الإطناب في وصفه. أخذ عن الشريف الشجري وابن الخشّاب، وأبي منصور الجواليقي، وصحب عزّ الدين فرّخشاه «1» بن شاهنشاه ابن أيّوب، وهو أبن أخي الملك صلاح الدين.
واختصّ به وسافر معه إلى مصر واقتنى من كتب خزانتها كل نفيس.
قال ابن الجيمي: كنت بالقاهرة، فكتب إليّ الشيخ أبو اليمن من دمشق أبياتا:[الخفيف]
أيها الصّاحب المحافظ قد حمّ
…
لتنا من وفاء عهدك دينا
نحن بالشام رهن شوق إليكم
…
هل لديكم بمصر شوق إلينا
قد عجزنا عن أن ترونا لديكم
…
وعجزتم عن أن نراكم لدينا
حفظ الله عهد من حفظ العه
…
د أوفى به كما قد وفينا
قال: فكتبت إليه من أبيات: [الخفيف]
أيّها السّاكنون بالشّام من كن
…
دة إنّا بعهدكم ما وفينا
لو قضينا حقّ المودّة كنّا
…
بحبّنا بعد بعدكم قد قضينا
وكتب إليه ابن الدهان الفرضي: [البسيط]
يا زيد زادك ربّي من مواهبه
…
نعمى يقصّر عن إدراكها الأمل
لا غيّر الله حالا قد حباك بها
…
ما دام بين النّحاة الحال والبدل
النّحو أنت أحقّ العالمين به
…
أليس باسمك فيه تضرب المثل
ومن شعر الكندي وقد طعن في السنّ: [الطويل]
أرى المرء يهوى أن تطول حياته
…
وفي طولها إرهان ذلّ وإرهاق
تمنّيت في عصر الشّبيبة أنّني
…
أعمّر والأعمار لا شكّ أرزاق
فلمّا أتاني ما تمنّيت ساءني
…
من العمر ما قد كنت أهوى وأشتاق
يخيّل لي فكري إذا كنت جالسا
…
ركوعي على الأعناق والسّير إعناق «1»
ويذكرني منه النسيم وروضة
…
حفائر يعلوها من الترب أطباق
وها أنا في إحدى وتسعين حجّة
…
لها فيّ إرعاد مخوف وإبراق
يقولون ترياق لمثلك نافع
…
وما لي إلا رحمة الله ترياق «2»
وقوله: [الطويل]
عليك حقوق للمعالي وأنعم
…
وأنت بها إن لم يحدّث بها رهن
حملت يدا من جود أفضل ذي يد
…
هي المنّ لا يغتال رونقها المنّ
تو خّاك عزّ الدّين بالفضل باديا
…
وحازك من وسميّ «1» نائله مزن
فريضا إذا شتم الرواة فريضة
…
تمنت له لو أنّها للورى أذن
إذا شامت الهيجاء سيف انتقامه
…
فليس له إلا رقاب العدا جفن
عنت لك سادات الشجاعة والنّدى
…
ومن ذا الّذي يرنو إليك ولا يعنو
وقوله: [البسيط]
لولا ثقالة طبع فيّ أعرفها
…
وحدي وإن أغفلتها خبرة الناس
لزرت لا أجعل الأعياب محمدة
…
ولا أزال طفيليّا بإيناسي
لكن علمت نداي أنه خلق
…
وماله غير ترك النّاس من آسي
واعذر فشعري كطبعي لست أنكره
…
النّفس نفسي والأنفاس أنفاسي
وله: [الطويل]
فرخشاه عزّ الدين مكتفل العلا
…
وباعث روح الجود والجود دارج
لئن حالت الأقدار دون ازدياره
…
وسدّت بأعذار إليه المباهج
فمن ذكره عندي خيال مسامر
…
ومن شوقه بين الجوانح لا عج
وكم عاشق يدنو المزار وقلبه
…
يكابد أثقال النّوى ويعالج
وقوله: [مخلع البسيط]
ربّ مليح الدلال غرّ «2»
…
داني الهوى صدره سليم
يسلبني عن ضنا فؤادي
…
وهو بأسبابه عليم
رغبت عنه إلى وداد
…
على زوال الرّضا يقيم
محتضر بالوفاء باق
…
يرنم «1» رضوا ولا يريم «2»
من ماجد الجود أريحيّ
…
نصاب آبائه كريم
معشره في الوغى أسود
…
وفي صميم العلا قروم
وفي الهدى والنّدى ملاذ
…
فهم نجوم وهم غيوم
وله: [البسيط]
بدا النّوى لكؤوس الوصل خادجة
…
ما راق إلا وللتفريق ترنيق «3»
يا من تكدّر صفو العيش بعدهم
…
اليوم أيقنت أنّ الوصل راووق «4»
أستودع الله ربعا دون ساكنه
…
لواحد العيش تغريب وتشريق
ولا سقى واصبا أصغو لزخرفه
…
فإنه غمر الأحباب فاروق
وله: [الطويل]
بملكك فخر الدين رثّت ممالك
…
تقضّت بأطراف الرماح العدا عنها
نهاها عن الرّشد المخالف حقبة
…
فكنت له بالسّيف عن غيّه أنهى
بك اليمن الكبرى تضاعف يمنها
…
فما يبلغ الوصل المحيط لها فيها
يمينا لقد حازت بمجدك سؤددا
…
على المدن أضعاف الذي حزته منها
وله: [الطويل]
ذريني وخلقي ما أهمّ فإنني
…
رأيت الذي اقنو الذي أنا أبدل «5»
عجبت لمن ينتابه الموت غيلة
…
تروح به أو تغتدي كيف ينحل
وهب أنه ممن محا الموت آمن
…
مسرّته بالعيش لا تتبدل
أليس ترى أنّ الذي خلق الورى
…
بأرزاقهم ما عمّروا يتكفّل
وله: [الخفيف]
أرعينا بكت بدمع فعيني
…
عوض الدّمع قد بكت بالسّواد
أعوزتني الدّواة عند كتابي
…
فأقامته لي مقام المداد
وله: [الخفيف]
لا مني في اختصار كتبي حبيب
…
فرّقت بينه الليالي وبيني
كيف لي قد أطلت لكنّ عذري
…
فيه أنّ المداد إنسان عيني «1»
وله: [الخفيف]
أيها الغمّ هل بذا القلب فرحه
…
من غضوب ما زلت أطلب صلحه
يتجنّى ظلما ويمزح بالهج
…
ر ومن ذا يطيق بالهجر مزحه
كلّ يوم يجني ذنوبا وعذري
…
واقفا يرتجي رضاه وصفحه
طال ليلي مذ غبت عنه فما (م)
…
أبصر إلّا يوم التواصل صبحه
لا مني فيه ناصح غير أنّي
…
لست ذا سلوة فأقبل نصحه
ما ألذّ القبول لو نفحتني
…
بالهنا من علا فرّخشاه نفحه
منحتني خدمة علياه فكا
…
نت لديّ أشرف منحه
أخرستني عن مدحه بلساني
…
ثم أملت من حسن حالي مدحه
لم تر النّفس فرجة من سرور
…
في بعادي ولا رأى الجسم صحّه
بك أبصرت حسن وجه زماني
…
حين غيري رأى بغيرك قبحه
وله: [الطويل]
أيا مالكي رقّي وليس بفرصة
…
لنفسي إني بعد ملكي أعتق
لقد غشيتني حيرة في فراقكم
…
تكاد لها نفس التحمّل تزهق
فوالله ما أدري إذا ما ذكرتكم
…
وقد حال بعد بيننا وتفرّق
أأعلن بالشكوى إليكم من النّوى
…
وما فعلت إني إذن متملّق
أأسكت أي أنّي جليد وصابر
…
على فقدكم إني إذن متخلّق
سلام عليكم من مشوق لسانه
…
بغير حديث عنكم ليس ينطق
وله: [الطويل]
أيا مالكا يقري صوارم عزمه
…
إذا حلّ خطب بالكرامة نازل
أينكر إن ماجت بلادك مرّة
…
بزلزلة ترتجّ منها المنازل
وأنت الذي هدّ الطّغاة ببأسه
…
ففي كلّ قلب من سطاه زلازل
سرت رعدة الأجسام فيما اعترتهم
…
إلى الدّار منهم فاعترتها الأكافل «1»
وله: [الطويل]
على جوجر «2» من شاطئ النيل منزل
…
..........
به ملك تزهى الصوارم والقنا
…
به والوغى تزهى به والكتائب
عظيم فلا ترجى الطوائل عنده
…
ولكنّه ترجى لديه الرّغائب
جواد بكى والبحر ينضب خجلة
…
به وتحرّى أن تصوب السّحائب
ومن عبر أنّ الأحبّة أهله
…
وإنيّ عنه بالعوائق غائب
فداؤك عزّ الدين كلّ مؤمّل
…
لفضل وعنه من جنابك جادب
وهنّئت بالنّجل السّعيد الذي له
…
تزقّ من اليوم العلا والمراتب
يلوح من المهد المجلّل ذكره
…
كما لاح نجم في الدجنّة ثاقب
فلازلت للأحرار مولى وموئلا
…
تحاذر إلا في ذراك العواقب
وله: [البسيط]
قدّست من مرتد بالملك مؤتزر
…
بالكبرياء ولكن بالورى رؤف
يشكو مطال اللّيالي كلّما وعدت
…
بأن تزيل وصالا من نوى قذف
بالله أحلف أيمانا مغلّظة
…
والله يعلم حسن الصّدق في حلفي
لو نلت في بعدك الدنيا بأجمعها
…
ما كان في حرزها بالبعد عنك يفي
وله: [الطويل]
علقت بتسحار اللّواحظ فاتن
…
كأنّ بعينيه بقايا خماره
يكسّر إعراضي بتكسير طرفه
…
إذا ظلّ طرفي حائرا في احوراره
وله: [البسيط]
لم يسأل الله من جلّى مواهبه
…
إلا وكنت له في السؤل أوّله
ولم يزر بابك الأعلى ليخدمه
…
إلّا وقد رفض الأدمى وأهمله
وله: [البسيط]
بالله أحلف أيمانا مغلّظة
…
وبالكتاب الذي يتلى ويعتقد
لو أن ألف لسان لي أبثّ بها
…
شوقي إليك لما استوعبت ما أجد
وإن يكن ابطأت يوما مكاتبتي
…
فما على مثل ودّي ذاك ينتقد
أنا الذي ليس يحصى ما أكابده
…
من الصّبابة لا وصف ولا عدد
الصّحف لا تسع الشّكوى فاذكرها
…
ولا المطايا بأعباء الهوى تجد
لم يخل ربعك من رسلي ومن كتبي
…
إلا وذكرك مملوء به الخلد
ولست أنكر تقصيري على شغفي
…
لكن على حسن ظنّي، فيك أعتمد
وله: [الطويل]
بنفسي من أعلقت ظنّي بحبله
…
فأصبح لي من ذروة المجد غارب
تعمّد إيناسي إلى أن ألفته
…
كأني له من ضجعة المجد صاحب
وأدنى سراري من سرائر قلبه
…
فلم يبق من دون الضّميرين حاجب
وكان عصا موسى لديّ وداده
…
أصلّي ولي ما عشت فيه مآرب
ولا عجب أن غيّر الدّهر صاحبا
…
وكل تصاريف الزّمان عجائب
وما كان ذنبي غير أني ذخرته
…
لدهري إلا أنّي للدهر تائب
ولست على هجرانه الدّهر ناكبا
…
على الودّ لكني على الوصل ناكب «1»
سأمنحه هجرا كما هو مشته
…
فإنّي فيما يشتهيه لراغب
وإن هو بعدي جرّب النّاس كلّهم
…
ليحظى بمثلي قد رمته التّجارب
وله أيضا: [الطويل]
قدمت فلم أترك لذي قدم حكما
…
كذلك عادى في العدا والنّدى قدما
إذا وطئ الضّرغام أرضا تطانفت
…
خطا وحشها عنه فوسّعها هزما «2»
كما مرّ باز بالفضاء محلّق
…
رأته بغاث الطّير حتفا لها حمّا
وإن أك في صدر من العمر شاردا
…
فكم نفر عن همّتي لقن الهمّا
سبقت إلى غايات كلّ فضيلة
…
تعزّ على طلّابها العرب والعجما
وملّكني رقّ المناقب أنّني
…
أحطت بآداب الورى كلّها علما
فما منصب ممن ترقّت به العلا
…
ترى فرقه من أخمصي فوقه وصما
أبى لي مجدي أن يراني شاعرا
…
يريه منانا أخذ جائزة غنما
ولكنّني أهدي الثّناء لأهله
…
وأكبره عن أن أملّكه قدما
فآونة نثرا يحلّ [به] الحيا
…
وآونة تنشا العقول بها نظما
قريضا هو السّحر الحلال بيانه
…
تروق معانيه ولو ضمن الشّتما
تعظّم إلا عن عظيم محلّه
…
يعظّم ما فيه من الحكمة العظمى
هو الفضل في الإنسان أمّا أعزّه
…
فنقص إذا ما سامه الذلّ والهضما
ولولا على الملك الّذي عزّ مثله
…
على الدهر فرّخشاه ذي الشرف الأسمى
لأظمأني ثغر المراد ولم أرد
…
به موردا عذبا ولا مشربا جمّا
وجدت به من كنت لولا لقاؤه
…
يئست لعيني أن ترى مثله قرما
مليكا رأيت المجد والفهم عنده
…
ولم أر خلقا جمّع المجد والفهما
متى عزّ أفراد المعالي فإنهّ
…
لأوّل من يسمى وآخر من يسمى
إذا قوله والفعل في ملّة جرى
…
يبدّيه في الآراء مقتضبا حكما
رأيت العقول الباهرات بهيرة
…
فأفضلها ما كان بالحكم مؤتما
أرى فيه مولى كلّ مولى رأيته
…
مناقب إلا عن نقيبته تحمى
يحاول كتمان العطاء بجهده
…
ويأبى شروق الشّمس أن يألف الكتما
تصوب على ظنّ العفاة يمينه
…
كما أرعفت في الحرب أرماحه الصمّا
تناهى وغالى في الشّجاعة والنّدى
…
فأقنى الورى حربا وأعناقهم سلما
حوى من أبيه فخره بعد جدّه
…
ومن عمّه الفخر الذي شاع بل عمّا
وبالله ما احتاجت مفاخر نفسه
…
إلى نسب يبدي أبا، لا ولا عمّا
رويدك عزّ الدين لم تبق همّة
…
ترقّى إلى حيث التقينا ولا وهما
ملكت على الأملاك في كلّ ساعة
…
غدا عجزهم عنها عليهم بها وسما
وحزت العلا حتى كأنك أقسمت
…
سجاياك لا خلّيت منها لهم قسما
وأوتيت حكم الشّيب في رنق الصّبا
…
كما فقتهم رأيا ولم تبلغ الحلما
أقلني من بعد المعاني ولفظها
…
وخذ بيدي إن زلّ فكري أو غمّا
فقرّك لا بل ندّ خاطرك الذي
…
تدقّ معانيه إذا ما رمى أصمى «1»
وأنت الذي لو سمت كلّ مهذّب
…
يخافك في فهم لسمّيتهم ظلما
ولست بمدحي تستزيد قمامة
…
ولكن لي من مدحك الشرف الفخما
بقيت على الأيام في ظل نعمة
…
بها البؤس للطاغي وللطائع النّعما
مراضيك تستدعى وراجيك يرتجى
…
وعونك يستعدى وغيّك يستهما
وله: [الطويل]
ومذ قيل لي تشكو سقام جفونه
…
تغيّض بي وجدي وجفّ غرامي
فقير غريب في المناصل حمرة
…
وغير عجيب في الجفون سقام
وكتب إليه ركن الدين الوهراني:
وصلت رقعة مولاي تاج الدين أطال الله بقاه بلفظ أحسن من نور يفتحه الصّبا، وخط كبيض العطايا في سواد المطالب. يشهد من رآه وسمعه أنه رجل عليّ الهمّة، ريّان من الحكمة والأدب. ولولا تفاضحه في أول لفظه فيه، وهي قوله: ما نقبا، فإنّها وإن كانت فضيحة عربية نطق بها الكتاب العزيز فإنها تقبله الحركة قليلة الاستعمال، لم يأت بعدها ما يناسبها من اللغة، كأنّها من حديث سكان نجد وتهامة، عليها روائح الشيح والقيصوم «1» .
فلو أنّ الشنفرى يخاطب عمر بن برّاق بها فما فهمها إلا بعد جهد جهيد. إنّها لا ينطق بها اللسان حتى ينخلع منك الفك مع ما فيها من الندّ يصرم، والرفاعة المعجونة بالتبصرم ولأجل ذلك جاوبتها الألسن بأنواع من الضراط.
فصل منها:
وأما كلامه على بيت المتنبي فلله درّه لقد جاءه ثابت الأصول سالم الفصول في نهاية ما يكون من الحسن والإتقان، وفرح الخادم به فرحا عظيما، كالخصيّ المفتخر بإحليل مولاه، وعرضه على طالبيه من أهل الأدب، فانتقده عليه أفضلهم وزيّف أكثر كلامه. وقال: المتنبي في واد وهذا المتكلم في واد. لعمري لقد حكم بالشهوة ومال مع الهوى: [الكامل]
كضرائر «2» الحسناء قلن لوجهها
…
حسدا وبغيا إنه لدميم
حتى سجد له عجبا، وقام به وجدا. ورقص عليه طربا. والفضل ما شهدت به الاعداء.
فالحمد لله الذي حقّق فيه الأمل، ونصر به الخاطر، ولم يخيّب فيه الظنّ والسلام.
فصل منها:
أليس يعلم بسعادته أن الإنسان إذا تعصب لا يحسن العالم جعله أوحد الزمان، ونصر بخاطره بالحق الباطل. ولا يشتهي أن يظهر من ذلك الشخص إلا الحسن الجميل؛ فلأجل هذا عيب عليه الخادم في قوله: تحرّك الحار العزيزي وشاه ظهور ذلك ما كان يحتاج إلى تأكيد. وأظنّه، ودام الله عزّه، خاف أن يقول: الحرارة العزيزية، فيشبه كلامه كلام العامة والسّوقة، وكوادن «1» الأطبّة، وجهّال الطبيعيين، فتخطّى هذه الطبقة إلى رتبة الفارابي وابن سينا، فحمل على أفلاطون عشرة آلاف حمار. يا مولاي تاج الدين لا تجرد على المدين الأنجس.
فصل: وأما تعريضه لخادمه بالقيادة وعتبه له على زواج النساء العواهر، فسيدنا معدود في ذلك؛ لأنه لم يذق حلاوة هذه الصناعة ولا تطعّم بنعيمها. ولو أنّه، أدام الله عزّه، خرج من بيته يوما، ولم ينزل لبيته إلا ثمن الخز والخبز، ورجع بعد ساعة وجد فيها المكائب الرفخة والسنبوسك المورّد والفراخ المصوص، والدجاج المسمّن والقناني المزوّقة والفاكهة النبيلة، والرياحين الطريّة، فيربع في الصدور، وجلس على بطون الفرش. وظهور المخادّ وهشم الثرائد، وفقء عيون البيض، وقطع قلوب الخسّ وأخذ الملآن وردّ الفارغ. واقترح الأصوات، واستعاد الغناء. ولم يخرج في هذا كلّه إلا التغافل وحسن الحظ، وقلّة الفضول لعشق هذه الحالة.
ودخل فيها بجملته، وسأل الله تعالى أن يحييه قوادا ويميته قوّادا ويحشره في زمرة القوادين. ويظن الخادم فيما يتلوه عليه من الأساطير كجالب التمر إلى هجر «2» . وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. [البسيط]
وابن اللّبون إذا ما كنّ في قرن
…
لم يستطع صولة البزل القناعيس «1»
ومهما فضّل من جهل النساء العواهر الحسان فلا يجهل أن أكل الحلاوة مع الناس خير من أكل الجزاء مفردا.
فصل: وأمّا اتّهامه للخادم بأنه استقرض منه البقيار «2» للبيع أنّه استعرض به للطلب، فقد حلف على نفي التهمة، وهو لا يصدقه، فما بقي إلا الكلاب على عيال من رآه أهلا لذلك قط. ويحمل الحمير على أم الذي يعطيه إيّاه أبدا. ولا شك أن الخوف على البقيار غلب عليه، حتى لو كتب إليه الخادم لا إله إلا الله. قال: هذا تعريض بالبقيار، كما قال تعالى:«يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ «3» »
، إذا رأى غير شيء ظّنه رجلا، فكيف يجوز للوهراني أن يطلب بقيارا جديدا من رجل بغدادي الحسب، تاجر المكتسب أشعري المذهب. كندي الأصل. وهذه الخلال لا تجتمع في كريم قط. ألا ترى أن أول من اجتمعت فيه ملك كندة امرؤ القيس بن حجر، وهو القائل يوم دارة جلجل، وقد نحر ناقة تساوي ثلاثة دنانير لنساء فيهن محبوبته:[الطويل]
ويوم نحرت للعذارى مطيّتي
…
فواعجبا من رحلها المتحمّل
فظلّ العذارى يرتمين بلحمها
…
وشحم كهدّاب الدّمقس المفتّل «4»
فلو كانت محبوبته عاقلة شحّمت وجوه العذارى بشحمها، وأدخلت ما بقي منها في استها. وهذا أبو الأسود الدؤلي شاعر مفلق، وهو أول من تكلّم في النحو. خرج ليلة من داره فسمع حمارا له يعتلف، فقال: إني لنائم في فراشي وأنت تسرّي «5» في مالي؟ والله لا بقيت لي في ملك. وأصبح به إلى السوق فباعه بأبخس الأثمان. وهذا أبو الطيب المتنبي،
شاعر كندي، لمّا أفرغت بين يديه الجائزه المشهورة، وأمر بردّها إلى كيسها، فعلقت قطعة منها في خلال الحصير، فجعل يعالجها ويقول:[الطويل]
تبدّت لنا كالشّمس تحت غمامة
…
بدا حاجب منها وطنّت بحاجب
ولمّا ظفر بها، وخاف العتب من الحاضرين، قال: لا تحقروها فإنّها تحضير المائدة. فكان عذره أنجس من ذنبه. ولو بيع هذا لطال، ودع عنك هذا كله لو كان الخادم ممّن يهون عليه التبذل لكدي بني شادي الذين هم فتيان الجود وبرامكة الزمان، لا سيّما المولى عزّ الدين أدام الله نعمته، الذي يمينه أندى من الغمام، وعزيمته أمضى من الحسام، ووجهه أبهى من البدر ليلة التمام. وهو على الحقيقة نهر للجود من ماء السماء ابن بحر السماح. [الكامل]
ورث المكارم من أبيه وجدّه
…
كالرّمح أنبوب على أنبوب «1»
وأي رجل أخسّ وأعتى من رجل يكدي الكندي الذي لقبه أبى أن يأخذ ويترك المولى عزّ الدين الذي لقبه أبو المواهب. وما هو في ذلك إلا كرجل ورد على هذا النيل فتركه ناحية، وحفر إلى جانبه في أرض صلبة سبخة كبريتية، لعلّه أن يخرج له ماء ملحا زعاقا «2» ، ويترك الماء العذب الزلال بغير كلفة ولا عناء. وأنشد:[المتقارب]
وإني وتركي ندى الأكرمين
…
وقدحي بكفّي زندا شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء
…
وملبسة بيض أخرى جناحا
كأني أدام الله عزّه إذا قرأ هذا البيت قال: أحسنت. وهذا ممّا كنّا فيه، لمّا يئس من العبد رجع إلى المولى. والله لا تمّ لي معي مضرب أبدا يئيس الأمن، كما ظنّ. والوهراني ما هو مجنونا يطمع فيّ فيمن يسمع قولك. ويرجع إلى رأيك، وأنت الغالب على أمر، امرأة الواهراني طالق ثلاثا البتة، لا آخذ منه درهما أبدا. وأشهد أنّ ماله عليه حرام، كالدم والميتة ولحم الخنزير.