الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحال، فخرج سائحا كالهائم على وجهه؛ حتى أتى مصر وكان له عكّاز يتوكأ عليه، وكان فيه سيف على عادة الفقراء المتجولين، فرأى نصرانيا نازعه في بعض الأمر، فاخترط السيف وضربه به، فأنهي أمره إلى السلطان وحمل عليه كريم الدين لتعصبه للنصرانية. ولم يزل به، حتى أمر السلطان به فقتل، وكان قد أتى خبره الفقراء المتصوفة بمصر والقاهرة فجسروا وطلعوا إلى القلعة ليخاطبوا السلطان فيه، فما وصلوا، حتى قضي الأمر فأخذوه، وتولّوا غسله وتجهيزه، والصلاة عليه ودفنه.
ومنهم:
53- علي بن داود
«13»
ابن يحيى بن كامل بن يحيى بن جبارة بن عبد الملك بن يحيى بن عبد الملك بن موسى بن جبارة بن محمد بن زكرياء بن كليب بن جميل بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي الحنفي، أبو الحسن نجم الدين الفجفاري. علامة علما، وعمامة سما، ولسان عرب وبيان أدب، وملقي دروس، ومبقي سحب عنبر على كافور طروس. وفارس منبر وغارس موعظة في قلب من برّ. عرض عليه منصب القضا فلم يقابله بالارتضا زهدا في منصبه وكرها أن يسرح في مجدبه أو مخصبه. هذا مع كيف ممهد للمحاضر، ولطف منشط للمناظر، وحسن إقبال على الجليس وبشر، لولا أنه حنفي المذهب لما نظره بالبرق من يقيس. وكان ملجأ لمؤمل، ومنجى لسائر متحمل، وصار موئلا يثاب ومؤملا لديه حسن مآب، تتخذه الطلبة ثمالا وترد إليه خفافا وتصدر ثقالا. لم تزل تشدّ به افتقارها، وتوسق منه أوقارها «1» . ولم يبرح على هذا حتى أمسى بلدي المنايا، سلّوا ممزّعا، وقسما موزعا، بعد أن كان إنسان عين، وآي جمال وزين. مزنه سحاب، ومزيّه
صحاب. بعد مفرعا وينشر أحسن من ثوب السماء مجزعا؛ ولكنها المنيّات وحوادث الدهر والبليّات.
شيخ أهل دمشق في عصره، خصوصا في العربيّة. قرأ عليه الطلبة وانتفع به الجماعة، وله النظم والنثر والكتابة المليحة القويّة المنسوبة.
قال أبو الصفاء الصفدي «1» : وله التبدير الحلو والتدريب الزايد، يكثر من ذلك في كلامه، ويشحن أشغاله الطلبة بالزوايد، ويورد لهم النوادر والحكايات الظريفة والوقائع الغريبة المضحكة. سمعته يوما يقول لمنصور الكتبي رحمه الله تعالى: يا شيخ منصور، هذا أوان الحج، اشتر لك منهم مئتي جراب، وارمها خلف ظهرك إلى وقت موسمها تكسب فيها جملة. فقال: والله الذي يشتغل عليك في العلم يحفظ منك جرابا قدره عشر مرّات.
وقال أبو الصفاء الصفدي: حكى لي نور الدين علي بن إسماعيل الصفدي، قال: أنشد الشيخ نجم الدين يوما لغزا للجماعة وهم بين يديه في الحلقة يشتغلون: [الرجز]
يا أيها الحبر الذي
…
علم العروض به امتزج «2»
ابن لنا دائرة
…
فيها بسيط وهزج
ففكّر الجماعة فيها زمانا، فقال واحد منهم: هذا في الساقية. فقال له: درت فيها زمانا حتى ظهرت لك. يريد أنه ثور يدور في الساقية.
وقرأ القرآن على ابن المطرّز، وأخذ الفقه عن ابن الحريري والصدر علي، وكذلك أخذ الفرائض عنه، وأصول الفقه والهيئة على ابن جماعة، وعن جلال الدين الجاري الأصول خاصة، والنحو عن الفزاري والتونسي، والبلاغة عن ابن النحوية، والمنطق والجدل عن السرّاج الرومي. وسمع الحديث من ابن الدرجي وجمال الدين الزواوي وشرف الدين البارزي.
كتبت إليه: [المنسرح]
من زاخر البحر يلقط الدرر
…
ومن فروج الغمامة المطر
ومن جنى الدّوح كلّ مانعة
…
كأنها الشّهد واسمها النمر
ومن بديع الرّياض لا عجب
…
إذا اجتنى من خلالها الزهر
ومن سنا النجم كلّ لامعة
…
غرّا تجلّى بنورها البصر
نجم على هدي وفاض ندى
…
وهكذا النجم بل هو القمر
حبر أعار الربيع حلّته
…
حسنا إلام هذه الحبر «1»
مكمّل والبحار تشبهه
…
لكنها من نداه تختصر
فواضل لا يعدّ أيسرها
…
والرمل في العدّ ليس ينحصر
زادت على حاتم مكارمه
…
ما حاتم عند جوده بشر
هذا عليّ وذو الفقار له
…
من حلّة اللفظ هذه الفقر
فتى قريش ورأس سؤددها
…
ما ضرّ رايته إن نأت مضر
لا يبلغ المدح فيه غايته
…
أستغفر الله حيث أعتذر
من مثله والسماء موضعه
…
والزاهر النجم رهطه الزّهر
أنعم بعيش النعمان حيث أتى
…
وهو له في الحتوف ينتصر
وقوله الفصل فوق منبره
…
لا الطول يسيء به ولا القصر
لو يحضر الفارقي خطبته
…
لمّا تعدّى لسانه الحصر
وأبيض الوجه يوم قاصده
…
فمن أبو الأسود الذي ذكروا
لو أنشد الغرّ من قصائده
…
ليلا لطالت في دهمه الغرر
ولا لعبد الرحيم واجده
…
شبيه إنشائه ولا الدّرر
إن لم تعدّوها فدونكم
…
ممّا ادّعيناه البحث والنظر
يا طالبا في العلا طريقته
…
أقصر وإلا سوف تقتصر
ويا مطيل المدى ليلحقه
…
البرق في السّبق ماله أثر
يا ابن البهاليل من بني أسد
…
ومن سطاه الناب والظفر
يا ابن الزبير الذي يفلّ به
…
حدّ المواضي وكلّها زبر
لكنا بالنّهى محجبة
…
أنّى نراها وحجبها الفكر
وجاء يا ابن الزبير يخطبها
…
إليك كفؤ وجدّه عمر
وأنت من لا يردّ سائله
…
وها أنا للجواب منتظر
فكتب إليّ: [المنسرح]
يا منعما رمت شكر أنعمه
…
فحال بيني وبينه الحصر
وأنفق الفكر واللسان معا
…
عليّ واستعصيا ولا وزر
وأظهر العجز عن قيامهما
…
بشكر ما لا يحصى ومنحصر
وبان لي في الإباء عذرهما
…
ودافع الحق بالهوى بطر
والحرّ من دأبه وعادته
…
يرقّ للحر حين يعتذر
وكيف لي بالذي أروم إذا
…
لم يسعد النطق لا ولا الفكر
لكنني للحسود أذكر ما
…
يخرج من ذاك صدره الوجر «1»
سحب أياد سحّت على جرز
…
فأنبت الشكر سحّها الحصر
وغادرت من نميرها غدرا
…
لا جنّ «2» ماؤها ولا كدر
أضحت ظلال الوداد وارفة
…
به تهادى وأينع الثمر
في ضمن ذاك الحيا عقود ندى
…
أصدافها السود حشوها الدّرر
يشرق منها الدجى مفصّلة
…
بعنبر عرف طيبه عطر
تنعم ريّاه أنف كل فتى
…
أذابه في حلى العلا غرر
وليس فيما وصفته عجب
…
سيول غيث يزيدها بحر
يا ملبس الطّرس من بلاغته
…
حلّة وشي بقوسها فقر
وغارسا فيه كل عارقة «1»
…
فرائد الجوهري لها ثمر
تودّ زهر النجوم من حسد
…
لو أنّها في غصونها زهر
إذا تأملتها يقابلني
…
من كل وجه من أفقها قمر
هذا وكم قلّدت عقود علا
…
يمناك قيلا تحفّه زمر
وكم أمور أودعتها فغدت
…
تشبه أرواح معشر قبر
مالي وعدّي لما حويت وهل
…
بالعدّ تحصى الرمال والمطر
لكن جداي لبعضها منن
…
حمّلتها عاتقي لها خطر
وحثّني نحوها مقالك لي
…
بأنني للجواب منتظر
فسبقها سير وجهها يدها
…
يمنعها كشفة لك الحقر
وكيف لا والذي آتيك به
…
وطرفها بالحياء منكسر
هدية جلّ ثمرها حشف
…
إلى كريم جنابه هجر «2»
فاقبل يسيري ولا تلم كرما
…
منا فقا في ذراعه قصر
قد أعجزته عن القيام بما
…
يلزم حالان الضعف والكبر
ومن نظمه قوله في المنثور: [الطويل]
ولم أر في المنثور عرفا ومنظرا
…
وفرط سخاء في جميع البدائع
تراه إذا السارون مرّوا بغفلة
…
عليه مشيرا نحوهم بالأصابع
وقوله وقد طلب منه في جارية اسمها قلوب: [السريع]
عاتبني في حبّكم عاذل
…
يزعم نصحي وهو فيه كذوب
وقال ما في قلبك اذكره لي
…
فقلت في قلبي المعنّى قلوب
وقوله: [السريع]
حاولت من أهواه في قتله
…
فقال ما يشفق من عارضي
فقلت يا بدر الدجى مذهبي
…
أنّي لا اعتدّ بالعارضي
وقوله: [السريع]
أضمرت في القلب هوى شادن
…
مشتغل في النحو لا ينصف
وصفت ما أضمرت يوما له
…
فقال لي المضمر لا يوصف
وقوله، صدر كتاب إلى ابن نصحان حين سافر إلى البلاد المصرية:[الكامل]
يا غائبا قد كنت أحسب قلبه
…
بسوى دمشق وأهله لا يعلق
إن كان صدّك نيل مصر وأهلها
…
عنهم فلا غرو إلا العدو والأرق
وقوله من أبيات أجاب بها الفاضل تاج الدين اليماني: [المديد]
أقبلت تختال في حلل
…
وشيها من صنعة اليمن
فرعها يملي خلائطها
…
ما يقول القرط في الأذن
ومن خطبه التي تلج القلوب، وتخرج إلى الإقلاع والإقلال من الذنوب قوله:
أيها الناس تأنّسوا في المكارم وسارعوا إلى المغانم، وجانبوا مكاسب المآثم؛ فإنها معادم.
وأيقظوا عيون العزائم فإنّها نوائم، واغتنموا أوقات الطاعات فإنها مواسم. هذا، عباد الله شعبان وأخذه بكم ركائبه، مملوءة بمتاجر أعمالكم حقائبه، فالسعيد من زكّى فيه بالإخلاص مكاسب أعماله، والشقيّ من أضحت زيوف المعاصي رأس مال آماله. سحقا له من مغبون. ما أخسر صفقته! ومدلج في دياجي الأطماع ما أبعد شقّته! باع الباقي بما يفنى، واعتاض عن النفيس العالي بالأدنى. تبرّجت له الدنيا فأخلد إليها، وضمنت له كواذب الآمال سلامته المآل فاعتمد عليها؛ حتى إذا استرجعت منه الأيام ما وهبت، وأخلفته الآمال المواعد وكذبت، ورأى وجود أمانيه عدما، وصحة ظنونه سقما، عضّ على يديه ندما، وبكى بذلّ الدموع بالدما، واستصرخ فلم يجد مسعدا ووجد منسي أعماله حاضرا، ولا يظلم ربك أحدا.
وقوله:
اغتنموا أيام المهل قبل انقراضها. وداووا سقم النفوس بذكر هجوم الأجل قبل استحكام أمراضها، وروّضوها عن جماحها في الشهوات فإنّه لا نهاية لأعراضها. واعملوا ليوم لا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود عن والده. ولا محيد لمن غلبت عليه الشّقوة عن مناهل عذابه وموارده، وابتهلوا إلى ربّكم في أوقات البركات؛ فما حرم فيها من قصده بركة مقاصده.
ومنها الخطبة التي خطب بها أول جمعة أقيمت بالجامع السيفي يشكر كافل الممالك الشامية، وهي:
الحمد لله منشئ أصناف الأمم وصانعها، ومؤلف أشلائها بعد العدم وجامعها، ومنطق جوارحها بما اخترجت وسامعها، وباعث هممها على الخير ووازعها «1» ، ومجري سوابق آمالها في ميدان آجالها، نحو مطامع مطامعها الذي أجزل مواهب السعادة لمن شيّد بيوت العبادة، وشكر صنيع من قدح بالإحسان زناده؛ فوعده الحسنى وزيادة. وفضّل بقاع الأرض بعضها على بعض، فاعل في الشرف محلّها، وناط بها أسباب السيادة فاتخذها صالح عباده معاهد للعبادة. فطوبى لمن حلّها، وادّخر من القرب نفائس يحق في مثلها التنافس، ثم وفّق لها قوما كانوا أحقّ بها وأهلها.
أحمده على ما أسبغ من نعم زكت مغارسها فصفت ملابسها، وأولاه من منن صيغت مشارعها فنمت مراتعها. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. شهادة أحكم الإخلاص بالقلب معاقدها، وصفّي من شوائب أكدار الشكوك مواردها، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، والكفر مخصبة مراتعه أهله بالأشقياء مرابعه، قد مدّ في الأرض خطاه، وتجاوز الحدّ في الطغيان وتخطّاه. فلم يزل صلى الله عليه وسلم يهيج بنانه بجنوب الحق
وضاه، وبيد طغاته رطى «1» الأثمان وشباه «2» ؛ حتى أصبح وارف زرعه غثاء، وأمسى أنس ربعه قواء «3» صلى الله عليه وعلى آله غدوة ومساء، صلاة يبلغهم بها من النعيم المقيم أملا، ويحقّق لهم رجاء.
أيها الناس جدّوا في الطاعة قبل تعذّر الاستطاعة، وجذّوا حبائل الأطماع بمدى القناعة.
فكم أطلعكم الدهر تقلّبه على الحقائق فاغفلتم اطّلاعه، وكم أسمعكم لسان حوادثه أبلغ المواعظ لو وعيتم إسماعه! فيالها غفلة شاملة، وأمنية باطلة وأطماعا كاذبة. وآمالا خابية وقلوبا عن العظات لاهية، وأسبابا من التعلّلات واهية، فوجهوا رحمكم الله إلى جهة الاعتبار عيون أفكارهم، وانبوا إلى تأمل الإشارات عنه أسماعكم وأبصارهم؛ فإن من استمع بخطوب الأيام غني عن خطب الأنام، ومن اقترع معالق الآثام استأذن على الانتقام.
ومن خطبة في رأس السنة:
الحمد لله الذي لا تدرك عظمته ثواقب الأفهام، ولا يحيط بمعارف عوارفه خطوات الأوهام، ولا يبلغ مدى شكر نعمه محامد الأيام. الذي طرّز بعسجد الشمس حواشي الأيام، ورصّع بجواهر النجوم حلّة الظلام، وفصّل بلجين الأهلة عقود الشهور والأعوام. أحمده على نعمه الجلائل العظام، ومننه الشوامل الجسام. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له شهادة لا ينقص لها تمام، ولا يحقر لها ذمام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله وسوق الباطل قد قام، ومحبّ الضلال قد هام، وطرف الرشد قد نام، وأفق الحقّ قد عام. فجرّد سيف العزم وسام «4» ، وعنّف على الغي ولام، واقتاد الخليفة إلى السعادة بكل زمام. صلى الله عليه وعلى آله الخير الكرام، صلاة لا انفصام لمسابغها ولا انفصام.
وقوله في خطبة عيد الأضحى:
الحمد لله العظيم شأنه، العزيز سلطانه، القديم إحسانه، الذي أسمع دعوته إلى عرفات عرفاته من كل طريق. قلّبتها قلوب أولي الإنابة، مسرعة في الإجابة، ووافتها من كل فجّ عميق. حمده على نعمته التي أحلّت مغنى الغنى فتحلّت بفرائد الأجياد، ومننه التي بلغت منى المنى، وكل الأيّام بها أعياد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا يخلق «1» الملوان «2» جديدها، ولا تنال يد الشك مشيدها. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أرسله رحمة للبرايا، ومحذرا من سوء عواقب الخطايا، فطهّر من رجسها السجايا، وساق إلى محلها الهدايا، وبعث الهمم على الضحايا صلى الله عليه وعلى آله المنزّهين عن الدنايا، صلاة لا تنفكّ سعادة في البكر والعشايا.