الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء: 47] وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ يُوزَنُ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقُسْطَاسُ: الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَيُقَالُ: الْقِسْطُ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ، وَهْوَ الْعَادِلُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُ، فَهْوَ الْجَائِرُ.
(وأن أعمال بني آدم وقولَهم يوزنُ): يشير بذلك إلى الردِّ على المعتزلة في إنكارهم الميزانَ، ومذهبُ أهل السنة الإيمانُ به، وأنه حق؛ لقوله تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8]؛ أي: وزنُ الأعمال يومئذ الحق، {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 6، 7]، إلى غير ذلك من الآيات، والأخبار الدالة عليه، وقد عرفه بعضهم بقوله: ما تُعرف به مقاديرُ الأعمال؛ لأن الأعمالَ أعراضٌ يستحيلُ بقاؤها، فلا توصف بالخفةِ والثقل، لكن لما وردَ الدليلُ على ثبوته، وجبَ أن نعتقده، ونَكِلَ علمَ ذلك إلى الله تعالى، ولا نشتغل بكيفيته، بل نقول: إن الله تعالى قادر على أن يعرف عباده مقاديرَ أعمالهم يوم القيامة بأي طريق شاء، ويكون ذلك ميزاناً لأعمال العبادة، على أن الموازين لا يجب أن تكون متماثلة، بل تختلف باختلاف الموزونات، ألا ترى أن الموازين غير متماثلة، بل تختلف باختلاف الموزونات؟ ألا ترى أن ميزان الحنطة والشعير ليس كميزان الذهب والفضة، وميزان أهل النحو ليس ميزان غيرهم؟
وما قالوا: من أن الله تعالى يخلق من كلِّ حسنةٍ نوراً، ومن كلِّ سيئةٍ ظُلْمَةً، فتوزن تلك الأنوارُ والظُّلَم، غيرُ سديد؛ لأن الموزون حينئذ غيرُ الأعمال، هكذا قرره بعضهم.
وصرَّحَ غيرُ واحدٍ بإجماع أهل السنة على أن الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة.
قال: وإن الميزان له لِسان وكِفَّتان، وإن الأعمال تمثل وتوزن.
وحكى الزركشي عن بعضهم: أن رجحانَ الوزن في الآخرةِ بصعودِ الراجح، عكس الوزن في الدنيا، وهو غريب (1).
ويقال: القِسْط مصدرٌ للمُقْسِط؛ يريد: بحذف الزائد، وإلا، فالمصدرُ الجاري عليه من غير حذف هو الإسقاط، لا القِسْط.
* * *
3063 -
(7563) - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِشْكَابٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "كلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيم".
(كلمتان): خبرٌ مقدَّم.
(وخفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن): صفة، والمبتدأ هو قوله:"سبحانَ اللهِ وبحمدهِ، سبحانَ اللهِ العظيمِ".
فإن قلت: المبتدأ مرفوع، وسبحانَ اللهِ في المحلين مرفوعٌ، أو معرب منصوبٌ، فكيف وقع مبتدأ مع ذلك؟
(1) انظر "التوضيح"(33/ 589).
قلت: المرادُ لفظُهما محكيٌّ.
فإن قلت: كلمتان مثنى، والمخبَرُ عنه غيرُ متعدد؛ ضرورةَ أنه ليس ثَمَّ حرفُ عطفٍ يجمعهما، ألا ترى أنه لا يصحُّ قولك: زيدٌ عمرٌو قائمان.
قلت: هو على حذف العاطف؛ أي: "سبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم، كلمتان خفيفتان على اللسان"، إلى آخره.
وحُذِفَ ناصبُ "سبحانَ الله" على الوجوب؛ لأنَّه من المصادر التي وقع تبيين مفعولها بالإضافة.
قال الرضي: وإنما حُذف؛ إبانةً لقصدِ الدوام واللزوم بحذفِ ما هو موضوعٌ للحدوث والتجدُّد (1).
قلت: وقع له في باب الميزان من شرح الحاجبية ما ناقض هذا، وذلك أنه قال: الأصل في السلام عليكم: سلَّمَكَ الله سلاماً، ثم حذف الفعل لكثرة الاستعمال، فبقي المصدرُ منصوباً، وكان النصبُ يدل على الفعل، والفعلُ يدل على الحدوث، فلما قصدوا دوامَ نزولِ سلام الله عليه واستمراره، أزالوا النصبَ الدال على الحدوث، فرفعوا سلام (2).
وهذا الذي قاله هنا هو الحق، والأولُ غير مَرْضِيٍّ.
وقد نص أهلُ المعاني على أنه من جملة الأسباب المقتضية لتقديم المسند تشويقَ السامع إلى المبتدأ، بأن يكون في المسنَد المقدَّمِ طولُ تشويق النفس إلى ذكر المسند إليه، فيكون أوقعَ في النفس، وأدخلَ في
(1) انظر: "شرح الرضي على الكافية"(1/ 306).
(2)
المرجع السابق، (1/ 236).
القول؛ لأن الحاصلَ بعدَ الطلب أعزُّ من المنساقِ بلا تعب، ولا يخفى أن ما ذكره القوم متحقق في هذا الحديث، بل هو أحسنُ من المثال الذي أورده بكثير، وهو قول الشاعر:
ثَلاثةٌ (1) تُشْرِقُ الدُّنْيَا بِبَهْجَتِهَا
…
شَمْسُ الضُّحَى وَأَبُو إِسْحَاقَ وَالقَمَرُ
وفيه السجعُ، والمطابقة.
ولقد أحسنَ البخاريُّ رحمه الله حيثُ افتتحَ كتابَه بحديث: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"؛ إشعاراً لنفِسه بالإخلاص في جمعِ هذا الكتاب، وخَتَمَه بما يقتضي أن أعمالَ العبدِ وأقوالَه توزَنُ؛ رجاءَ أن يكون تأليفُه هذا من الحسنات التي توضَعُ في ميزانه، حَقَّقَ اللهُ رجاءَهُ، ونفعَنا بما فيه، ورزقَنا عِلْمَه والعملَ به على أحسنِ الوجوه وأكملِها، والحمدُ لله وحدَه، وسبحانَ اللهِ وبحمدِه، سبحانَ اللهِ العظيم، وليكنْ هذا آخرَ تعليقِ المصابيح، ومنتهى ما رَوَّحْنا به القلوبَ من فوائدِ هذا الكتاب، فحَبَّذَا هو من جامع، وحَبَّذا هي من تراويح على أَنَّا انتهينا إلى هذا الموضع، وفؤادُ المصابيح بالتلهُّب على بَسْطِ العبارة محدود، ولسانُها يتلو في جوابه هذا الجامع سورة النور، ويدُ الإسراع تدفع في صدر التأني، وتمنعُ أقدامَ الآمالِ أن تسلكَ ما تشاء من خلق التمني، والآلام قد ألمَّت بالجسد من كل مكان، وأَجْلَبَتْ فيه بَخْيلِها ورَجِلِها بحسب الإمكان، والله المسؤول أن يطوي شُقَّةَ البَيْن، ويُرينا بعدَ أهوال البحر ما تَقَرُّ به العينُ، بمنِّه وكرمِه.
(1) في "م" و"ج": "ثلاثٌ"، والصواب ما أثبت.
وكان انتهاء هذا التأليف بِزَبيد من بلاد اليمن قبلَ ظهر يوم الثلاثاء العاشرِ من شهر ربيعٍ الأولِ سنةَ عشرين وثمانِ مئة، على يد مؤلفه العبدِ الفقيرِ إلى الله تعالى محمدِ بنِ أبي بكرِ بنِ عمرَ بنِ أبي بكرٍ المخزوميِّ الدمامينيِّ المالكيِّ، حامداً لله ربَّ العالمين، ومصلِّياً على رسوله محمدٍ خاتمِ النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومسلماً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان فراغ من نساخة هذا التأليف المبارك في الخامس عشر من شهر ربيع الأول سنة أربع وسبعين وثماني مئة، أحسن الله عاقبتها ببلدة كهمايت من نسخة على نسخة نصه.
* * *