المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب العشرونفي مسامرة أهل النعيم - مطالع البدور ومنازل السرور

[الغزولي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولفي تخير المكان المتخذ للبنيان

- ‌الباب الثانيفي أحكام وضعه وسعة بنائه وبقاء الشرف والذكر ببقائه

- ‌الباب الثالثفي اختيار الجار والصبر على أذاه وحسن الجوار

- ‌الباب الرابعفي الباب

- ‌الباب الخامسفي ذم الحجاب

- ‌الباب السادسفي الخادم والدهليز

- ‌الباب السابعفي البركة والفوارة والدواليب وما فيهن من كلام وجيز

- ‌الباب الثامنفي الباذهنج وترتيبه

- ‌الباب التاسعفي النسيم ولطافة هبوبه

- ‌الباب العاشرفي الفرش والمساند والأرائك

- ‌الباب الحادي عشرفي الأراييح الطيبة والمروحة وما شاكل ذلك

- ‌الباب الثاني عشرفي الطيور المسمعة

- ‌الباب الثالث عشرفي الشطرنج والنرد وما فيهما من محاسن مجموعة

- ‌الباب الرابع عشرفي الشمعة والفانوس والسراج

- ‌الباب الخامس عشرفي الخضروات والرياحين

- ‌الباب السادس عشرفي الروضات والبساتين

- ‌الباب السابع عشرفي آنية الراح

- ‌الباب الثامن عشرفيما يستجلب بها الأفراح

- ‌الباب التاسع عشرفي الصاحب والنديم

- ‌الباب العشرونفي مسامرة أهل النعيم

- ‌الباب الحادي والعشرونفي الشعراء المجيدين

- ‌الباب الثاني والعشرونفي الحذاق المطربين

- ‌الباب الثالث والعشرونفي الغلمان

- ‌الباب الرابع والعشرون في الجوارى ذات الألحان قال الثعالبي في تحفة الأرواح وموائد السرور والأفراح إن كان أجود منه وذلك مع الروية وقال أفلاطون: غناء الملاح تحرك فيه الشهوة والطرب وغناء القباح يحرك فيه الطرب لا الشهوة وقد قيل أحسن الناس غناء من تشبه بالنساء من الرجال ومن تشبه بالرجال من النساء وما أحسن قول القائل:جائت بوجه كأنه قمر…على قوم كأنه غصن

- ‌الباب الخمس والعشرون في الباءة

- ‌الباب السادس والعشرونفي الحمام وما غزى مغزاه

- ‌الباب السابع والعشرونفي النار والطباخ والقدور

- ‌الباب الثامن والعشرونفي الأسماك واللحوم والجزور

- ‌الباب التاسع والعشرونفيما تحتاج إليه الأطعمة من البقول في السفرة

- ‌الباب الثلاثون في الخوان والمائدة وما فيهما من كلام مقبول

- ‌الباب الحادي والثلاثونفي الوكيرة والأطعمة المشتهاة

- ‌الباب الثاني والثلاثونفي الماء وما جرى مجراه

- ‌الباب الثالث والثلاثونفي المشروب والحلواء

- ‌الباب الرابع والثلاثونفي بيت الخلاء المطلوب

- ‌الباب الخامس والثلاثونفي نبلاء الأطباء

- ‌الباب السادس والثلاثون في الحساب والوزراء اعلم أن الوزير مشتق اسمه من حمل الوزر عمن خدمه وحمل الوزير لا يكون إلا بسلامة من الوزير لا يكون إلا بسلامة من الوزير في خلقته وخلائقه أما في خلقته فإنه يكون تام الصورة حسن الهيئة متناسب الأعضاء صحيح الحواس وأما في خلائقه فهو أن يكون بعيد الهمة سامي الرأي ذكي الذهن جيد الحدس صادق الفراسة رحب الصدر كامل المروءة عارفاً بموارد الأمور ومصادرها فإذا كان كذلك كان أفضل عدد المملكة لأنه يصون الملك عن التبذل ويرفعه عن الدناءة ويغوص له عن الفكرة ومنزلته منزلة الآلة يتوصل بها إلى نيل بغيته وبمنزلة الذي يحرز المدينة من دخول الآفة ومنزلة الجارح الذي يصيد لطعمة صاحبه وليس كل أحد وإن أصلح لهذه المنزلة يصلح لكل سلطان ما لم يكن معروفاً بالإخلاص لمن خدمه والمحبة لمن استنصحه والإيثار لمن قربه وقال الثعالبي في يواقيت المواقيت، الوزارة اسم جامع للمجد والشرف والمروءة وهي تلو الملك والإمارة والرتب العلياء والدرجة الكبرى بعدهما، قال المنصور النميري يمدح يحيى البرمكي:ولو علمت فرق الوزارة رتبة…تنال بمجد في الحياة لنالها

- ‌الباب السابع والثلاثون في كتاب الإنشاء وهو فصلانالفصل الأول: فيما يحتاج إليه كاتب الإنشاء من الأخلاق والأدوات والآلات

- ‌الباب الثامن والثلاثون في الهدايا والتحف النفيسة الأثمانذكر ابن بدرون في شرحه لقصيدة ابن عبدون عند ذكر كسرى وبنائه للسور المذكور في الباب السادس من هذا الكتاب ولما بنى كسرى هذا السور هادته الملوك وراسلته، فمنهم ملك الصين كتب إليه من يعقوب ملك الصين صاحب قصر الدار والجوهر الذي في قصره نهران يسقيان العود والكافور والذي توجد رائحة قصره على فرسخين والذي تخدمه بنات ألف ملك والذي في مربطه ألف فيل أبيض إلى أخيه كسرى أنوشروان وأهدى إليه فارساً من در منضد علينا الفارس والفرس من ياقوت أحمر وقائم سيفه من الزمرد منضد بالجوهري وثوباً حريرا صينياً وفيه صورة الملك على إيوانه وعليه حلته وتاجه وعلى رأسه الخدام بأيديهم المذاب المصورة من ذهب تحمله جارية تغيب في شعرها يتلألأ جمالها وغير ذلك مما تهديه الملوك إلى أمثالها

- ‌الباب التاسع والثلاثون في خواص الأحجار وكيانها في المعادنقال الفاضل أبو العباس شهاب الدين أحمد بن يوسف التيشاء: في الجوهر اسم عام يطلق على الكبير والصغير منه فما كان كبيراً فهو الدر وما كان صغيراً فهو اللؤلؤ المسمى حباً ويسمى أيضاً اللؤلؤ الدق ولؤلؤ النظم وحيوان الجوهر الذي يتكون فيه كبيره وصغيره يسمى باليونانية أسطوروس يعلو لحم ذلك الحيوان صدفتان ملازمتان لجسمه والذي يلي الصدفتين من لحمه أسود ولهذا الحيوان فم وأذنان وشحم يلي الفم من داخلهما إلى غاية الصدفتين والباقي رغوة وصدفة وماء

- ‌الباب الأربعون في خزائن السلاح والكنائنسأل عمر بن الخطاب (عمرو بن معدي كرب عن السلاح فقال ما تقول في الرمح قال أخوك وربما خانك فانقصف، قال فما تقول في الترس قال هو المجن وعليه تدور الدوائر، قال فالنبل قال منايا تخطئ وتصيب، قال فما تقول في الدرع قال مفشلة للراجل مغلة للفارس وإنها لحصن حصين، قال فما تقول في السيف قال هنالك لا أم لك يا أمير المؤمنين فعلاه عمر بالدرة وقال له تقول لا أم لك قال الحمى أصرعتني

- ‌الباب الحادي والأربعون في الكتب وجمعها وفضل اتخاذها ونفعهاقال ابن الخشاب ملغزا فيها:

- ‌الباب الثاني والأربعونفي الخيل والدواب ونفعها

- ‌الباب الثالث والأربعونفي مصائد الملوك وما فيها من نظم السلوك

- ‌الباب الرابع والأربعونفي خطائر الوحوش الجليلة المقداد

- ‌الباب الخامس والأربعون في الأسد النبل والزرافة والفيل

- ‌الباب السادس والأربعون في الحمام وما في وصفها من بديع النظام

- ‌الباب السابع والأربعون في الحصون والقصور والآثار وما قيل فيها من رائق الأشعار

- ‌الباب الثامن والأربعون في الحنين إلى الأوطان وتذكر من بها من القطانروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوتا فارتاع فقيل له في ذلك فقال ظننت أن ساكنا أزعج من منزله، وجاء أيضا حب الوطن من الإيمان وقال ابن عباس (لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى أحد الرزق وكانت العرب إذا سافرت أخذت معها من تربة بلدها تستنشق ريحها وتطرحه في الماء إذا شربته وهكذا كان المتفلسف من البرامكة إذا سافر أخذ معه من تربة مولده في جراب يتدواى به ولما غزا اسفندبار بلاد الخرز اعتل بها فقيل له ما تشتهي قال شربة من دجلة وشميما من تراب اصطخر فأتي به بعد أيام بماء وقبضة من تراب وقيل له هذا من ماء دجلة ومن تربة أرضك فشرب واشتم بالوهم فنقه من علته

- ‌الباب التاسع والأربعونفي دار سكنت كثيرة الحشرات قليلة الخير عديمة النبات

- ‌الباب الخمسونفي وصف الجنان وما فيها من حور وولدان

الفصل: ‌الباب العشرونفي مسامرة أهل النعيم

وخر صريعاً للجبين موسداً

فوسدته واخترت حملي على الهجر

وأيقنت أن السكر طار بلبه

فأغرق من شمتي وقال ولم يدر

وزال لسان كان إذا كان صاحيا

يقلبه في كل فن من الشعر

وقال أبو نواس رحمة الله عليه:

ولست النديم صدق

وقد أخذ الشراب بوجنتيه

تناولها وإلا لم أذقها

فيأخذها وقد ثقلت عليه

ولكني آخذ الكأس عنه

وأصرفها بعبسة حاجبيه

وإن رام الوساد لنوم سكر

دفعت وسادتي أيضاً إليه

وهذا ما حبت له وإني

أبر له من والديه

ولله در الصاحب بن عباد: قد حملت أوزار السكر على ظهور الخمر.

وتلطف من قال:

طويت بساط الشراب

على ما فيه من خطأ وصواب

وقال أيضاً:

تعلم في مرافقة النديم

مطاوعة الأراكة للنسيم

وعاشره بأخلاقي فإني

وحقك عبد رق للنديم

أعاطيه أحاديثي وكأسي

فيسكر بالحديث وبالقديم

وقال ابن المعتز:

ونداماي في شباب وحسن

أتلفت ما لهم نفوس كرام

بين أقداحهم حديث قصير

هو سحر وما سواه كلام

وغناء يستعجل الراح بالرا

ح كما ناح في الغصون الحمام

فكان السقاة بين الندامى

الفات بين السطور قيام

وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله:

بروحي نديم يشهد العقل أنه

قضى العمر باللذات وهو خبير

تذكر مزج الكأس عند وفاته

فأوصى لها بالثلث وهو كثير

وأنشدني من لفظه لنفسه أقضى القضاة بدر الدين محمد المخزومي:

ورب نهار فيه نادمت أغيدا

فما كان أحلاه حديثاً وأحسنا

منادمة فيها منادى فحبذا

نهار تقضي بالحديث وبالمنا

كتب إلى الحسن بن وهب صديق له من أهل الأدب فصلاًُ من كتاب قال فيه وقد قسمك الله بين طرفي وقلبي ففي مشهدك أنس قلبي يرويه طرفي وفي بعدك لهو طرفى يذكر قلبي، فأجابه الرجل: فهمت كتابك الذي أخبرت فيه ما أخبرت فسيان عندك على هذا رأيتني أم لم ترني إذا كان بعضك يؤنس بعضاً وحضور أعضائك تنوب لك عن حضوري لكنني أراك فيخشع قلبي وأغيب عنك فيدمع طرفي فسيان بين متن سلا أبدا ومن حزن دهره.

سئل إسحاق الموصلي عن عدد الندماء فقال واحد هم واثنان غم وثلاثة نظام وأربعة تمام وخمسة مجلس وستة زحام وسبعة موكب وثمانية سوق وتسعة جيش وعشرة نعوذ بالله من شرهم وضرهم.

قال أبو العينا: رب وحشة أنفع من أنيس ووحدة أمتع من جليس.

وقال الجاحظ:

أرى للكأس حقاً لا أراه

لغير الكأس إلا للنديم

هو القطب الذي دارت عليه

رحا اللذات في الزمن القديم

وكتب المرحوم فتح الدين محمد بن الشهيد إلى القاضي أمين الدين ابن الأنفي المالكي تغمده الله برحمته وكان قد تأخر عن زيارته:

حتام في سجن الصدود

سرور عبدك يحتبس

معنى الجفاء فهمته

قد زدت في المعنى قبس

وأغث بأناس الرضا

نفسي فما فيها نفس

يا مالك بأبيك زر

نروى لزيارة عن أنس

اقرأ ألم نشرح فكم

نلقاك تقرأ في عبس

العمر أنفس أن تعي

ش نهار همك كالغلس

إن الحياة لغفوة

والعيش طيف يختلس

‌الباب العشرون

في مسامرة أهل النعيم

الليلة الأولى:

ص: 88

حكى أنه كان بمدينة بغداد رجل من أولاد النعيم ورث من أبيه مالاً جزيلاً وكان قينة فأنفق عليها أشياء ثم اشترها وكانت تحبه كما يحبها ولم يزل ينفق عليها ماله وهو في أكل وشرب إلى أن لم يبق له شيء وأفلس فطلب معاشاً يعيش فلم يقدر على شيء، وكان الفتى في أيام سعادته يحضر القينة في صناعة الغناء لتزداد في صناعتها فبلغت في الصناعة الغاية التي لم يدركها أحد سواها وكان الفتى قد علم من صناعة الغناء مثلها وأوفى فاستشار بعض إخوانه ومعارفه فقالوا له ما نعرف لك معاشاً أصلح من أن تغنى أنت والجارية فتأخذ على ذلك المال الكثير وتأكل وتشرب وأنت كل يوم طيب العيش فأنف من ذلك وعاد إليها فأخبرها بما أشير به عليه وأعلمها أن الموت أحب إليه من ذلك فصبرت معه على الشدة ثم قالت لقد رأيت لك رأياً قال ما هو قالت تبيعني فإنه يحصل لك من ثمني ما إن تعيش فيه عيشا طيبا وتتخلص من هذه الشدة وأخلص أنا وأحصل على نعمة فإن مثلي لا يشتريه إلا ذو نعمة أكون السبب في رجوعي إليك قال فحملها على السوق فكان أول من أعرضها عليه فتى هاشميا من أهل البصرة ظريف أديب كريم النفس واسع الحال فاشتراها بألف وخمسمائة دينار عينا فقال الرجل حين لفظت بالبيع وقبضت المال ندمت غاية الندامة وبكيت أشد بكاء وصارت الجارية في أقبح من صورتي وجهدت في الإقالة فلم يكن إلى ذلك سبيل وأخذت الدنانير في الكيس ومضيت لا أدري إلى أين أذهب لأن بيتي موحش منها وورد على من البكا واللطم والنحيب شيء لا أصفه قال فدخلت بعض المساجد وجلست أبكى فيه وأفكر فيما نابني وفيما عملت بنفسي فحملتني عيني وتركت الكيس تحت رأسي كالمخدة ونمت فلم أشعر إلا بإنسان قد جذبه من تحت رأسي ومضى يهرول فانتبهت فزعاً فطلبت الكيس فوجدته قد أخذ فقمت أريد أجري وراءه وإذا برجلي مربوطة في حبل والحبل في وتد فوقعت على وجهي ورأسي وقلت فارقت من أحب وذهب المال فكيف حالي فزاد بي الأمر إلى أن جئت إلى الدجلة ووضعت ثوبي على وجهي ورميت روحي في الدجلة ففطن الحاضرون لي وأن ذلك لغيظ نالنى فرموا أرواحهم خلفي فشالوني وسألوني عن أمري فأخبرتهم خبري فصرت بين راحم ومستجهل إلى أن جاءني شيخ منهم فأخذ بغصتي وقال لي يا هذا ذهب مالك وتذهب نفسك وتكون من أهل النار فثق بالله العظيم قم معي فأرني بيتك فما فارقني حملني إلى منزلي وقعد عندي حتى رأى السكون فيّ فشكرته وأنصرف فكدت أقتل نفسي فتذكرت الآخرة والنار فخرجت من بيتي هارباً إلى بعض أصدقائي القدماء فأخبرته بخبري وما جرى عليّ فبكى لي رحمة وأعطاني خمسين ديناراً وقال أقبل رأيي وأخرج الساعة من بغداد وأجعل هذه نفقة لك إلى حيث تجد قلبك تشاغل وأنت من أولاد الكتاب وخطك جيد وأدبك بارع فاقصد من شئت من العمال فأطرح نفسك عليه فلعله أن يستخلفك في شيء تنتفع به وتعيش معه ولعل الله عز وجل أن يجمع عليك جاريتك فعملت على هذا وجئت إلى الكتبين وقد قوي حالي وزال عني بعض الهم واعتمدت على أنني أقصد واسط لأنه كان لي بها أقرب فإذا زلال مقدم وجراية كبيرة وقماش فاخر ينقل إلى الزلال فسألتهم أن يحملوني إلى واسط فقالوا هذا الزلال لرجل هاشمي ولا يمكننا حملك على هذه الصورة فسألتهم أن يحملوني وأرغبتهم في الأجرة فقالوا إذا كان فقالوا إذا كان ولابد أخلع هذه الثياب التي عليك وألبس ثياب الملاحين وأجلس معنا كأنك واحد منا فرجعت واشتريت من ثياب الملاحين وجئت إلى الزلال بعد أن اشتريت خبزاً وما يصلح للسفر وجلست معهم فما كان إلا ساعة حتى رأيت جاريتي بعينها ومعها جاريتان يخدمانها فسهل على ما كان بي وقلت أراها وأسمع غناءها من هنا إلى البصرة واعتقدت أن أجعل قصدي البصرة وطمعت أن أدخل مولاها وأصير من ندمائه وقلت لعلها لا تخليني من المراد وكنت واثقاً بها فلم يكن أسرع من أن جاء الفتى الهاشمي راكباً ومعه عدة ركبان فنزلوا في الزلال وانحدروا فلما صار عند كلوادى أخرج الطعام وأكل والجارية وأكل الباقون على وسط الزلال وأطعم الملاحين ثم أقبل على الجارية فقال لها كم هذه المدافعة عن الغناء ولزوم الحزن والبكاء لست أنت أول من فارق مولا كان لها محباً فعملت ما كان عندها من أمري ثم ضربت ستارة في جانب الزلال واستدعى اللذين يأكلون ناحية جلس معهم خارج الستارة فسألت عنهم فإذا هم أخوته ثم أخرج الصواني فيها

ص: 89

الخماسيات والحردادبات من المحكم مملوءة شراباً ففرقت عليهم وقدمت لهم الأنقال وما شاكل ذلك وما زالوا يرفقون بالجارية إلى أن استدعت وبالعود وأصلحته واندفعت تغني من البعيد الأول وهو:

بأن الخليط بمن عرفت فأدلجوا

عمدا بمن أهواه لم يتحرجوا

وغدت كأن على ترائبي نحرها

جمر الغضا في ساعة تتأجج

ثم غلبها البكاء ورمت العود وقطعت عن الغناء وتنغص على القوم مشربهم ووقعت أنا مغشياً على فظن القوم أني قد صرعت بعضهم يقرأ في أذني وأفقت بعد ساعة فلم يزالوا يدارونها ويرفقون بها ويسألونها إلى أن أصلحت العود واندفعت تغني في البعيد الثاني:

فوقفت أندب للذين تحملوا

وكأن قلبي بالشفار يقطع

فدخلت دارهم أسائل عنهم

والدار خالية المنازل بلقع

ثم شهقت شهقة كادت تتلف وارتفع بكاؤها وصرخت أنا ووقعت مغشياً عليّ وتبرم الملاحون مني وقالوا كيف حملتم هذا المجنون فقال بعضهم إذا بلغتم بعض القرى فأخرجوه وأريحونا منه فجاءني من ذلك أمر عظيم ثم وضعت على نفسي الصبر والتجلد وقلت أعمل الحيلة في أن أعملها بمكاني من الزلال لتمنع من إخراجي وبلغنا إلى قريب ضيعة فقال صاحب الزلال اصعدوا بنا إلى الشط فطرحوا القماش وطلعوا وكان مساء فطلع الملاحون وخلا الزلال فقمت حتى صرت خلف الستارة فغيرت طريقة العود عما كانت عليه إلى طريقة أخرى وكانت تعلمها مني فرجعت إلى موضعي من الزلال وفرغ القوم من حوائجهم في الشط ورجعوا والقمر قد انبسط فقال لها مولاها بالله عليك لا تنغصى علينا عيشنا ولم يزلوا إلى أن أخذت العود وجسته وشهقت حتى ظنوا أن روحها قد طلعت وقالت والله مولاي معي في الزلال فقال لها مولاها والله يا هذه لو كان معنا ما منعته من معاشرتنا ولعله كان يخف ما بك وننتفع بغنائك ولكن هذا بعيد قالت هذا مما لا أسمعه مولاي معنا الهاشمي فنسأل الملاحين قالت أفعل فسأل الملاحين وقال هل حملتم معكم أحداً قالوا لا وأشفقت أن ينقطع السؤال فصحت نعم هو ذا أنا فقالت كلام مولاي والله فجاءني الغلمان فحملوني إلى الرجل حملاً فلما رآني عرفني وقال ويحك ما هذا الزي وما الذي أصابك إلى أن صرت إلى هذه الحالة قال فصدقته عن أمري وبكيت وأعلى نحيب الجارية من خلاف الستارة وبكى هو وإخوته بكاءً شديداً رقة لنا قال لي يا هذا والله ما وطئت الجارية ولا سمعت لها غناء إلا اليوم وأنا رجل موسع ولله الحمد وإنما وردت بغداد لسماع الغناء وطلب أرزاقي من أمير المؤمنين وقد بلغت الأمرين مما أردت ولما علمت أني أريد الرجوع إلى وطني قلت أسمع من غناء بغداد شيئاً فاشتريت هذه الجارية لأصبر بها عند مغنيات لي بالبصرة وإذا كنتما على أن هذه الجارية إذا وصلت إلى البصرة أعتقتها وأزوجك إياها وأجري عليكما ما يكفيكما وزيادة ولكن على شريطة أنني إذا أردت الاجتماع تضرب لها ستارة وتغني من خلفها ونحن مع بعضنا لا تبخل علينا بذلك وأنت من جملت إخواني وندماني ففرحت بذلك ثم أدخل رأسه إلى الجارية وقال يرضيك ذلك فأخذت تدعو له وتشكره ثم استدعى غلامه فقال خذ بيد الغلام ومده بثياب وبخره وقدمه إلينا بعد أن يأكل شيئاً وفعل لي الغلام ما أمر به وعدت إليه فحط بين يدي مثل ما بين أيديهما من الشراب والنقل ثم اندفعت الجارية تغني بانبساط وهو:

عيروني بأن سفحت دموعي

حين هم الحبيب بالتوديع

زعموا أنني تهتكت في الحب?

ب ما أريد غير مطيع

لم يذوقوا طعم الفراق ولا ما

أحرقت لوعة الأسى من ضلوع

كيف لا أسفح الدموع على رسم

عفا بعد ساكن وجموع

هب إن كتمت حالي لا تخفي

زفرات المتيم المصدوع

إنما يعرف الغرام لمن لا

ح عليه الغرام بين الربوع

فطرب القوم من ذلك طرباً شديداً وزاد فرح الفتى بذلك فلما رأيته على ما هو عليه من الفرح أخذت العود من الجارية وأصلحته وضربت به في أحسن صنعة وغناء واندفعت أقول:

أسأل العرف إن سألت كريما

لم يزل يعرف الغنى واليسارا

فسؤال الكريم يورث عزا

وسؤال اللئيم يورث عارا

وإذا لم يكن من الذل بد

فالق بالذل إن لقيت الكبارا

ليس إجلالك الكريم بذل

إنما الذل أن تجل الصغارا

ص: 90

ففرح القوم وزاد فرحهم وأنسوا بي غاية الإيناس ولم نزل على مسرة وسرور وغبطة وحبور وأنا أغني ساعة وهي تغني ساعة كذلك على أن جئنا إلى بعض الشطوط فارسي الزلال وصعد من الزلال كل من فيه وقضوا حوائجهم وصعدت أنا أيضاً وكنت سكراناً فقعدت أبول فأخذتني عيني فنمت وطلع القوم وانحدر الزلال ولم يعلموا بي وهم سكارى وكنت دفعت النفقة التي معي إلى الجارية ولم يبقى معي حبة واحدة وأن القوم انحدروا ووصلوا إلى البصرة ولم أنتبه أنا إلا من حر الشمس فجئت إلى الشط فلم أرحسا وقد كنت أجللت الرجل أن أسأله بمن يعرف وأين داره من البصرة فبقيت على شاطئ نهر معتلا كأول يوم بدأت في المحبة وكأن من كنت فيه مناما واجتازت بي سماوية فحملت فيها ودخلت إلى البصرة وما كنت دخلتها قط فنزلت خانا وبقيت متحيراً لا أدري ما أعمل ولم يتجه لي معاش إلى أن أجتاز بي يوما إنسان كنت أعرفه ببغداد فتبعته لأكشف له حالي وأسترفده ثم أنفت من ذلك ودخل منزله فعرفته وجئت إلى بقال على باب الخان الذي نزلته فأعطيته دانقا وأخذت منه دواة وورقة وجلست أكتب إليه رقعة فاستحسن خطي البقال ورأى ثوبي دنساً فسألني عن أمري فأخبرته أني رجل غريب فقير قد تعذر على التصرف وما بقي معي شيء فقال تعمل معي كل يوم بنصف درهم وطعامك وكسوتك وتضبط لي حساب دكاني فقلت له نعم قال لي اصعد فصعدت وخرقت الرقعة وجلست معه ودبرت أمره وضبطت دخله وخرجه فلما كان بعد شهر رأى الرجل دخله زائداً وخرجه ناقصاً فحمدني وبقيت معه كذلك شهوراً ثم جعل لي كل يوم درهما ولم يزل حالي يقوى معه على أن حال الحول فناله مني الصلاح فدعاني على أن تزوجت بابنته وشاركني في الدكان ففعلت ودخلت بزوجتي ولزمت الدكان والحال يقوى إلا أني في خلال ذلك مكسور النفس ميت النشاط ظاهر الحزن وكان البقال يشرب فربما جذبني إلى مساعدته فأمتنع وأظهر ذلك حزناً مني واستمرت بي الحال على هذا سنتين وأكثر فلما كان في بعض الأيام إذا قوم يجتازون بطعام وشراب وكل أحد على ذلك فسألت الشيخ عن القصة فقال لي هذا اليوم عيد الشعانين يخرج أهل الطرب واللعب والشراب والقينات إلى نهر الأبلة فيرون النصارى ويشربون ويتفرجون فدعتني نفسي إلى هذا وقلت لعلي أقف لأصحابي على خبر فقلت للبقال كنت أريد النظر إلى هؤلاء قال لي شأنك وأصلح لي طعاماً وشراباً وسلم إلى غلاما وسفينة فخرجت فأكلت وبدأت بالشراب حتى وصلت إلى الأبلة وابتدأ الناس ينصرفون وعزمت على الانصراف وإذا أنا بالزلال بعينه في وسط الناس سائراً في نهر الأبلة فتأملت وإذا بأصحابي على سطحه ومعهم عدة مغنيات فحين رأيتهم لم أتمالك فرحاً وصحت بهم فلما رأوني عرفوني وأخذوني إليهم وقالوا لي أنت حي وعانقوني وفرحوا بي وسألوني عن قصتي فأخبرتهم بها على أتم شرح وقالوا إنا لما فقدناك في الحال وقع لنا أنك قد سكرت ووقعت في الماء وغرقت فخرجت الجارية من ثيابها وكسرت عودها وقطعت شعرها ولطمت وجهها وأقبلت على البكاء والنحيب ولم نقدر نمنعها من ذلك ووردنا البصرة فقلت لها ما تحبين أن يعمل بك فقد كنا وعدنا مولاك بوعد تمنعنا المروءة من استخدامك بعده وسماع غناك قالت يا مولاي تملكني من القوت اليسير ولباس ثياب الشعر السواد وأن اعمل قبرا في جنب من الدار وأجلس عنده وأتوب عن الغناء فملكناها من ذلك وهي جالسة عنده إلى الآن فأخذوني معهم ومضوا بي فلما دخلت إلى الدار ورأيتها على تلك الصورة ورأتني شهقت شهقة عظيمة من ظننت أنها تعيش فاعتنقنا عناقاً طويلاً ثم افترقنا ثم قال مولاها تأخذها قلت نعم أعتقها كما وعدت وزوجني بها ففعل ذلك ودفع إلينا ثياباً كثيرة وفرشاً وقماشاً وآلة وحمل إليّ خمسمائة دينار وقال هذا مقدار ما أردت أجريه عليك في كل شهر منذ أول دخول البصرة وقد اجتمع طول هذه المدة فخذه والجراية متسابقة في كل شهر وشيء آخر لكسوتك وكسوة الجارية والشرط في المنادمة وسماع الجارية ومن وراء السترة وقد وهبت لك الدار الفلانية قال فحملت إلى الدار فإذا قد غمرت بالفرش والقماش وجميع ما أصاحبه وحملت إليها الجارية وجئت إلى البقال فحدثته الحديث وسألته أن يجعلني في حل من طلاقه لابنته بغير ذنب ودفعت إليه مهرها وما يلزمني من أمرها وأقمت مع الهاشمي على ذلك الحال سنين وصرت رب ضيعة ونعمة وعادت حالتي إلى قريب ما كنت فيه أنا

ص: 91

والجارية وفرج الله الكريم عنا وسهل لنا الأمور بالإحسان وهذا ما كان من حديثهم والحمد لله حمداً كثيراً.

الليلة الثانية

حدث أبو العباس بن يزيد النحوي المعروف بالمبرد قال حدثنا محمد بن عامر الحنفي وكان من سادات بكر بن وائل وأدركته شيخاً كبير القامة مملقا وكان إذا فاض إملاقه شيئاً جاد به وقد كان ولي قديماً شرطة البصرة فحدثني هذا الحديث الذي نذكره ووقع لي من غيرنا ناحيته ولا أذكر ما بينهما من الزيادة والنقصان إلا أن معاني الحديث مجموعة فيما أذكر لك: ذكر أن فتيانا كانوا مجتمعين في نظام واحد كلهم أبناء نعمة وكلهم شرد عن أهله وقنع بأصحابه فذكر ذاكر منهم قال عنا قد اكترينا دارا مشرفة على الطريق ببغداد المعمورة بالناس فكنا نفلس أحياناً ونوسر أحياناً على مقدار ما يملق الواحد من أهله وكنا لا نستنكر أن تقع مؤننا على واحد منا إذا أمكنه ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول وكنا إذا أيسرنا أكلنا ودعونا الملهين والملهيات وكنا في أسفل الدار فإذا عدمنا الطرب فمجلسنا غرفة لنا نتمتع منها بالنظر إلى الناس وكنا لا نخلو من نبيذ في عسر ولا يسر فإنا كذلك يوما إذا بفتى يستأذن علينا فقلنا له اصعد فإذا رجل نظيف حلو الوجه سري الهمة يظهر عليه أنه من أبناء النعم فأقبل علينا وقال إني سمعت باجتماعكم وألفتكم وحسن منادمتكم حتى كأنكم أدخلتم جمعياً في قالب واحد فأحببت أن أكون واحداً منكم فلا تحتشموني قال فصادف ذلك منا إقتارا من القوت وكثرة من النبيذ وقد كان قال لغلامه أول ما يأذنوا لي أن أكون كأحدهم هات ما عندك فغاب عنا غير كثير ثم إذا هو أتى بسلة خيزران وفيها طعام مطبوخ من جدي وفراخ ورقاق وأشنان ومحلب داخله فأصبنا من ذلك ثم أفضينا في شربنا وانبسط الرجل وإذا هو أحيى خلق الله إذا حدث وأحسنهم استماعا إذا حدث وأمسكهم عن الملاحات إذا خولف ثم أفضينا في شربنا وانبسط الرجل فإذا هو أحسن الناس خُلقا خَلقا وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه فيظهر لنا ألا نريد غيره ونرى ذاك في إشراق وجهه ونسبه فلم يمكن منا غير معرفة الكنية فإنا سألناه عنها فقال أبو الفضل فقال لنا يوما بعد اتصال الأنس ألا أخبركم كيف عرفتكم قلنا إنا لنحب ذاك قال أحببت في جواركم جارية وكان سيدها ذا عزائم وكنت أجلس لها في الطريق التمس اجتيازها فأراها حتى أخلفني الجلوس على الطريق ورأيت غرفتكم هذه فسألت عن خبرها فخبرت عن ائتلافكم ومساعدة بعضكم بعضاً فكان الدخول فيما أنتم فيه آثر عندي من الجارية فسألناه عنها فخبرنا، قلنا ما نحيد عنها لك حتى نظفرك بها فقال يا أخوتي إني والله على ما ترون مني من شدة المحبة والكلف بها ما قدرت فيها حراما قط ولا تقديري ألا مطاولتها ومصايرتها إلى أن يمن الله بثروة فاشتريها وأقام معنا شهرين ونحن على غاية الاغتباط بقربه والسرور بصحبته ثم اختلس منا فنالنا لفراقه كل ممض ولوعة مؤلمة ولم نعرف منزلا نلتمسه منه فكدر علينا من العيش ما كان طاب لنا به وقبح عندنا ما كان حسن بقربه وجعلنا لا نرى سروراً ولا غماً إلا إذا ذكرنا اتصال الأنس والسرور بحضوره والغم بمفارقته فكنا كما قال القائل:

يذكرينهم كل خير رأيته

وشر فما أنفك منهم على ذكرى

ص: 92

فغاب عنا زهاء عشرين يوماً ثم بينما نحن مجتازون من الرصافة إذا به قد طلع في موكب نبيل وزي جليل فحيث بصرنا به انحط عن دابته وانحط غلمانه ثم قال يا إخوتي إني والله ما هنا لي عيش بعدكم ولست أماطلكم بخبري حتى آتى المنزل ولكن ميلوا بنا إلى المسجد فملنا معه فقال أعرفكم أولاً بنفسي أنا العباس بن الأحنف وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم فإذا المسودة محيطة بي فمضى إلى دار أمير المؤمنين فصرت إلى يحيى بن خالد فقال لي ويحك يا عباس إنما أخبرتك من طرفاء الشعر لقرب مأخذك وحسن مأينك وأن الذي ندبتك له من شأنك وقد عرفت خطرات الخلفاء وإني أخبرك أن ماردة هي الغالية على أمير المؤمنين اليوم وأنه جرى بينهما عتاب فهي بدلالة المعشوق تأبى أن تعتذر وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك وقد رمت الأمر من قبلهما فأعياني وهو أحرى أن تسقره الصبابة فقل شعراً يسهل عليه هذه السبيل فقضى كلامه ثم دعاه أمير المؤمنين فصار إليه وأعطيت دواة وقرطاسا فاعتراني الزمع وأذهب عني كل قافية ثم انفتح لي شيء والرسل بين يدي فجاءتني أربعة أبيات رضيتها وقعت صحيحة المعنى سهلة الألفاظ ملائمة لما طلب مني فقلت لأحد الرسل أبلغ الوزير أني قد قلت أربعة أبيات فإن كان فيها مقنع وجهت بها فرجع إلى الرسول بأن هاتها ففي أقل منها مقنع وفي ذهاب الرسول ورجوعه قلت بيتين من غير ذلك الروي وكتبت الأربعة الأبيات في صدر الرقعة وعقبت بالبيتين فكتبت:

العاشقان كلاهما متعتب

وكلاهما متوجد متغضب

صدت مغاضبة وصد مغاضبا

فكلاهما مما يعالج متعب

راجع أحبتك الذين هجرتهم

إن المتيم قل ما يتجنب

إن التجنب إن تطول منكما

دب السلولة فعز المطلب

وكتبت تحت ذلك:

لا بد للعشاق من وقفة

يكون بين الصد والصرم

حتى إذا ما الهجر تمادى به

راجع من تهوى على رغم

ص: 93

ثم وجهت بالكتاب إلى يحيى بن خالد فرفعه يحيى إلى الرشيد فقال والله ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه من هذا والله لكأني قصدت به فقال له يحيى فأنت والله المقصود به هذا يقوله العباس بن الأحنف في هذه القصة فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قوله راجع من تهوى على الرغم استغرب ضاحكاً حتى سمعت ضحكه ثم قال أي والله أراجع على رغم يا غلام هات النعل فنهض وأذهله السرور عن أن يأمر لي بشيء فدعاني يحيى فقال لي إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة وأذهل أمير المؤمنين السرور عن أن يأمر لي بشيء قلت لكن هذا الخبر ما وقع مني بموافقة ثم جاء فساره فنهض وثبت مكاني ثم نهضت بنهوضه فقال لي يا عباس أمسيت أملي الناس أتدري ما سارني به هذا الرسول قلت لا قال قد ذكرني ماردة بلغت أمير المؤمنين لما علمت بمحبته فقالت يا أمير المؤمنين كيف فأعطاها الشعر وقال فعلت شيئاً بعد قالت إذا والله لا أجلس حتى يكافئ قال فأمير المؤمنين قائم لقيامها وأنا قائم بقيام أمير المؤمنين وهما يتناظران في صلتك فهذا كله لك ما لي من هذا كله ألا الصلة ثم قال هذا أحسن من شعرك فأمر أمير المؤمنين بمال كثير وأمرت ماردة بمال دونه وأمر الوزير بمال دون ما أمرت به وحملت على ما ترون من الظهر ثم قال الوزير من تمام اليد قبلك ألا ترجع من الدار حتى يؤتي لك بهذا المال ضياعاً فاشتريت لي ضياع بعشرين ألف دينار ودفع إلى بقية المال فهذا الخبر الذي عاقني عنكم فهلموا حتى أقاسمكم الضياع وأفرق فيكم المال فقلنا له هناك الله بمالك وكلنا راجع إلى نعمة من الله فأقسم وأقسمنا قال فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها فمشينا إلى صاحبها وكانت جارية جميلة حلواء بلا تبخس شيئاً أكثر ما فيها ظرف اللسان وتأدية الرسائل وكانت تساوي على وجهها مائة وخمسين دينار فلما رآني مولاها أسامني فيها خمسمائة دينار فأوحيناه بالعجب فحط مائة ثم حط مائة وقال العباس يا فتيان إني والله أقسم أحتشم بعد ما قلتم ولكنها حاجة في نفسي بها يتم سروري فإن ساعدتم فعلت قلنا له قل قال هذه الجارية أنا عاينتها منذ دهر وأريد أيثار نفسي بها يتم سروري فإن ساعدتم فأكره أن تنظر إلى بعين كن قد ماكس في ثمنها فأعطيه فيها خمسمائة دينار كما سأل قلنا فإنه قد حط مائتين قال وإن فعل فصادفنا من مولاها رجلاً حراً فأخذ ثلاثمائة دينار وجهزنا بالمائتين فما زال لنا محبا إلى أن فرق الموت بيننا.

الليلة الثالثة

حدث عبد الرحمن بن عمر الفهري عن رجال سماهم قال أمر المأمون أن يحمل إليه عشرة أناس من البصرة كانوا يرمون بالزندقة عنده فحملوا إليه فبينما أحد الطفيليين جائزا إذ رآهم مجتمعين فقال ما اجتمع هؤلاء ألا لوليمة فأنل معهم ودخل في جملتهم ومضى بهم المتوكلون إلى البحر فأطلعوهم في زورق قد أعد لهم فقال الطفيلي كأنها نزهة فأصعد معهم في الزورق فلم يكن بأسرع من أن قيد القوم فقيدوا الطفيلي معهم فعلم أنه قد وقع ورام الخلاص قلم يقدر ثم دفع الملاح وساروا إلى أن وصلوا بغداد وحملوا على دخول المأمون فأمر بضرب أعناقهم فاستدعوا بأسمائهم رجلاً رجلاً وهو يقتل حتى لم يبق ألا الطفيلي وفرغت العدة فقال المأمون للمتوكلين بهم ما هذا قالوا يا أمير المؤمنين ما ندري غير أ، اوجدناه مع القوم فجئنا به فقال له امأمون ما قصتك ويلك فقال يا أمير المؤمنين امرأته طالق إن كان يعرف من أقوالهم شيئاً ولا يعرف غير لا إله إلا الله محمد رسول الله وإنما رأيتهم مجتمعين فظننت أنهم يدعون إلى مأدبة أو دعوة فالتحقت بهم قال فضحك المأمون ثم قال بلغ من شؤم التطفيل إلى أن أدخل صاحبه هذا المدخل لقد سلم هذا الجاهل من الموت ولكن يؤدب حتى يتوب.

قال وكان إبراهيم بن المهدي حاضراً يومئذ فقال يا أمير المؤمنين هبه لي وأحدثك بحديث عن نفسي في التطفيل عجيب، قال قد وهبته لك، هات حديثك، قال:

ص: 94

يا أمير المؤمنين خرجت يوماً متنكراً أنظر إلى سكك بغداد فاستهوى بي التفرج وانتهى بي المشي إلى موضع شممت فيه روايح طعام وأبازير قد تاقت نفسي إليها ووقفت يا أمير المؤمنين لا أقدر على المضي فرجعت بصرى فإذا شباك ومن خلفه كف ومعصم ما رأيت أحسن منه فوقفت حائراً ونسيت روايح الطعام بذلك الكف والمعصم فأخذت في أعمال الحيلة في الوصول فنظرت فإذا بخياط قريب من ذلك الموضع فقدمت إليه وسلمت عليه فرد علي فقلت يا سيدي لمن هذه الدار قال يا سيدي لرجل من البزازين قلت فما اسمه قال فلان ابن فلان قلت هو ممن يشرب الخمر قال نعم وأظن اليوم عنده وليس ينادم إلا تجاراً مثله فبينما نحن في الكلام إذ أقبل رجلان راكبان فقال هؤلاء ندماؤه فقلت ما أسماؤهما وما كناهما فقال فلان وفلان فحركت دابتي فلحقتهما وقلت جعلت فداكما قد استبطأكما أبو فلان أعزه الله وسايرتهما حتى أتيا الباب فدخلت ودخلا فلما رآني صاحب المنزل معهما لم يشك في أني منهما بسبيل فرحب بي وأجلسني في أفضل المواضع ثم جئ بالمائدة ونقل إليها الألوان فكان طعمها يا أمير المؤمنين أطيب من رائحتها فقلت في نفسي هذه الألوان قد من الله على ببلوغ الغرض منها يبقى الكف والمعصم ثم جئ بالضوء فغسلنا ثم نقلنا إلى مجلس المنادمة فإذا هو أشكل منزل وأظرفه في سائر أموره وجعل صاحب المنزل يلطف ويقبل عليّ في الحديث لظنه أني ضيف لاضيافه وهم على مثل ذلك يظنون أن إكرامه لي عن معرفة متقدمة وصداقة حتى شربنا أقداحا خرجت علينا جارية كأنها غصن بان في غاية الظرف وحسن الهيئة فسلمت غير خجلة وأتيت لها وسادة فجلست وأتى بعود فأخذته وحبسته أحسن حبس واندفعت تغني فغنت:

توهمها طرفي فأصبح خدها

وفيه مكان الوهم من نظري أثر

وصافحها كفي فآلم كفها

فمن لمس كفي في أناملها عقر

فهيجت يا أمير المؤمنين بلبالي وطربت لحسن شعرها وحذقها ثم اندفعت فغنت أيضاً:

أشرت إليها هل عرفت مودتي

فردت بطرف العين إني على العهد

فحدت عن الإظهار حفظاً لسرها

وحادت عن الإظهار حفظاً على عهد

فجاءني من الطرب ما لم أملك معه نفسي وطرب القوم طرباً شديداً ثم غنت:

أليس عجيبا أن بيتا يضمن

وإياك لا تخلو ولا تتكلم

سوى أعين تبدي سرائر نفس

وتقطيع أنفاس على النار تضرم

إشارة أفواه وغمز حواجب

وتكسير أجفان وكف تسلم

فحسدتها على حذقها يا أمير المؤمنين وأصابتها معنى الشعر لأنها لم تخرج من الفن الذي ابتدأت فيه فقلت قد بقي عليك يا جارية شيء فرمت بالعود وقالت متى كنتم تحضرون في مجالسكم البغضاء فندمت على ما كان مني ورأيت القوم كأنهم تنكروا بي فقلت في نفسي فاتني جميع ما أملت أن لم أتلافي قضيتي فقلت أثم عود قالوا نعم فأتيت بعود مليح الصنعة فأصلحت ما أردت ثم اندفعت فغنيت:

ما للمنازل لا تجيب حزينا

أصم أم قدم الليل البلا فبلينا

روح الفتية دوحة مذكورة

إن مت متنا وإن حييت حيينا

فما استتميت يا أمير المؤمنين حتى وثبت الجارية على رجلي تقبلها وتقول معذرة إليك والله ما علمت مكانكم ولا سمعت مثل هذه الصنعة من أحد ثم زاد القوم في إكرامي وتبجيلي وطربوا غاية الطرب وشربوا بالطاسات، فلما رأيت طربهم اندفعت فغنيت:

أبي الله أن تمسين لا تذكرينني

وقد سمحت عيناي من ذكرك الدما

إلى الله أشكو بخلها وسماحتي

لها عسل مني وتبدي علقما

فردى مصاب القلب أنت قتلته

فلا تتركيه ذاهب العقل مغرما

إلى الله أشكو أنها أجنبية

أكون لها ما عشت بالود محرما

فرأيت من طرب القوم شيئاً خشيت أنهم فارقوا عقولهم فأمسكت عنهم ساعة ثم راجعت أمرهم لما هدأت نفوسهم واندفعت وغنيت:

هذا محبك مطويا على كمده

صب مدامعه تجري على جسده

له يد تسأل الرحمن راجية

مماته ويد أخرى على كبده

يا من رأى كفا مستنهريا دفقا

كانت منيته في طرفه ويده

ص: 95

فجعلت الجارية تصيح هذا والله الغناء لا ما نحن فيه وشرب القوم وسكروا وبقي في صاحب المنزل مسكة لجودة شربه فأمر غلمانهم بحفظهم إلى منازلهم وانصرفوا وخلوت معه وشرب أقداحا ثم قال يا سيدي ذهب ما مضى من عمري هدرا إذ لم أكن أعرف مثلك ولم أحاضر رئيسا يشبهك فبالله يا مولاي من أنت لأعرف نديمي فأخذت أروي عليه وهو يقسم علي إلى أن أعلمته من أنا على الحقيقة فوثب قائماً على قدميه وقال لقد عجبت أن يكون هذا الفعل إلا لمثلك ولقد أسدى الزمان إلى يد ألا أقوم بشكرها ومتى طمعت بأن يزورني ذو الخلافة في منزلي وينادمني ما هذا ألا في المنام فلا أتممت ليلتي ألا قائماً بين يديك إذ كنت أحقر أن أجالس ذا الخلافة فأقسمت عليه إلى أن جلس ثم أخذ يسألني ما السبب في حضوري عنده بألطف معنى فأخبرته يا أمير المؤمنين بالقصة من أولها إلى آخرها وما سترت منها شيئاً ثم قلت أما الطعام فنلت منه بغيتي وأما الكف والمعصم إن شاء الله ثم قال يا فلانة قولي لفلانة جارية له تنزل وجعل يستدعي واحدة واحدة ويعرضها علي وأنا لا أدري صاحبتي إلى أن قال والله ما بقي غير أمي وأختي والله لينزلن فعجبت من كرمه وسعة صدره فقلت جعلت فداك ابدأ بالأخت فقال حباً وكرامة ثم نزلت أخته فأراني يدها فإذا هي التي رأيتها فقلت حسبك هذه الجارية فأمر غلمانه لوقته واستدعى عشرة مشايخ سماهم لهم ثم قام فأخرج بدرتين عشرين ألف درهم وحضرت المشايخ فقال لهم هذا سيدي إبراهيم بن المهدي يخطب مني أختي فلانة وأشهدكم أني قد زوجتها له وأمهرتها له عشر آلاف درهم فقلت له قبلت ورضيت النكاح فشهدوا علينا ثم دفع البدرة الواحدة إلى أخته والأخرى فرقها على المشايخ ثم قال أعذروا فهذا ما حضر فشكروا ودعوا له وانصرفوا ثم قال يا سيدي أمهد لك بعض البيوت وتنام مع أهلك فاحتشمني وما رأيت من كرمه واستحييت أن أخلوا بها داره فقلت بل أحضر عمارية وأجهزها وأحملها إلى منزلي فوحقك يا أمير المؤمنين لقد حمل إليّ من الجهاز ما ضاقت عنه بيوتنا على سعتها فأولدتها هذا الغلام القائم بين يديك يا أمير المؤمنين فعجب المأمون من كرم هذا الرجل فقال لله دره ما سمعت قط بمثله ثم أطلق الطفيلي بإجارة إبراهيم وأمر بإحضار الرجل ليشاهده فأحضر بين يديه فاستنطقه فأعجبه وصار من جملة خواصه ومحاضرته.

الليلة الرابعة

ص: 96

حدث غير الهلالي قال كان من فتيان بني هلال فتى يقال له بشر بن عبد الله وكان يعرف بالأشتر وكان من سادات بني هلال أحسنهم وجها وأسخاهم كفا وكان مغرماً بجارية من قومه تدعى جيدا وكانت بارعة الجمال والكمال ثم اشتهر أمره وأمرها وظهر خبرهما بين أهليهما إلى أن كانت بين الفريقين ثم افترقوا وأبعدت منازلهم فقال غير فلما طال على الأشتر الفراق وتمادى البعد جاءني فقال يا غير هل لك من خبر ثم ما عندي ألا ما أجبته فقال تساعدني على زيارة جيد فقد أذهب الشوق روحي فقلت نعم بالحب والكرامة فانهض بنا إذا شئت وركبت وسرنا يومنا وليلتنا والغد حتى إذا كان العشاء أنخنا راحلتنا في شعب قريب من الفريق فقال يا غير أذهب فتأنس بالناس وأذكر أن لقيت أحداً أنك صاحب ضالة ولا تعرض بذكرى بين شفة ولا لسان إلى أن تلقى جاريتها فلانة ترعى غنمهم فأقرئها مني السلام وسلها عن الخبر وأعلمها بموضعي قال فخرجت لأعدو إلى ما أمرني به حتى لقيت الجارية وأبلغتها الرسالة وأعلمتها مكانة وسألتها عن الخبر وأعلمتها بموضعي فقالت هي والله مشدد عليها تحفظ بها ولكن مواعدكم أوائل الشجرات اللواتي عند أعقاب البيوت مع صلاة العشاء قال فانصرف إلى صاحبي فأعلمته الخبر ثم نهضت أنا وهو نقود راحلتنا أتينا الموضع في الوقت المعهود فلم نلبث ألا قليلاً وإذا جيد تمشي قريباً منا فوثب الأشتر فصاحبها وسلم عليها وقمت أنا موليا عنهما فقالا نقسم عليك بالله ألا ما رجعت فوالله ما نحن في مكروه ولا بيننا ما يستر عنك فرجعت إليهما وجلست معهما فقال الأشتر ما فيك حيلة يا جيد نتعلل الليلة قالت لا والله ومالي إلى ذلك سبيل إلا أن يرجع الذي عرفت من البلاء والشر فقال لها لا بد من ذلك ولو كان ما عسى أن يكون قالت فهل في صاحبك هذا من خير قلت قولي ما بدا لك فأني انتهى إلى رأيك ولو كان فيه ذهاب روحي فخلعت ثيابها وقالت ألبسها وأعطني ثيابك ففعلت ثم قالت أذهب إلى بيتي وأدخل في سربي فأن زوجي سيأتيك بعد فراغه من الحيلة والقدح مملوء فيقول هاك غبوقك فلا تأخذ منه حتى تطل ذلك عليه ثم خذه أو دعه حتى يضعه ويذهب فلست تراه حتى تصبح إن شاء الله تعالى قال فذهبت ففعلت ما أمرتني به حتى إذا جاء بالقدح لم آخذه حتى نكد عليه ثم أهويت لأخذه منه وأهوى هو ليضعه فاختلفت أيدينا على الإناء فانكفأ القدح وأنهرق اللبن فقال أن هذا لطماح جداً وضرب بيده إلى مقدم البيت واستخرج سوطاً ملويا مثل الثعبان ثم دخل فهتك الستر عليّ ومتع السوط مني تمام عشرين سوطا ثم جاءت أمه وأخته فانتزعاه من يده لا والله ما فعلا ذلك حتى زال عقلي وهممت أن أجبه بالسكين وأن كان فيها الموت فلما خرجوا شددت سترى وقعدت كما كنت فلم البث إلا قليلاً حتى دخلت أم جيد فكلمتني وهي لا تشك أني بنتها واندفعت في البكاء والنحيب وتغطيت بثوبي ووليتها ظهري فقالت يا بنية اتقى الله في نفسك ولا تعرضي بمكروه زوجك فذاك أولى بك وأما الأشتر فذاك آخر الدهر وخرجت من عندي وقالت سأرسل إليك أختك تؤنسك الليلة فما لبثت غير دقيقة وإذا الجارية قد جاءت فجعلت تبكي وتدعو على من ضربني وأنا لا أكلمها ثم انضجعت إلى جنبي فلما استمكنت منها شددت يدي على فيها وقلت يا هذه تلك أختك مع الأشتر وقد قطع ظهري الليلة بسببها وأنت أولى بالستر عليها فاختاري لنفسك ولها ولئن والله تكلمت بكلمة لأصيحن أنا بجهدي حتى تكون الفضيحة شاملتهم فلما سمعت ذلك دفعت يدي عن فيها واهتزت كما يهتز القضيب فلم أزل بها حتى أنست بي فباتت والله معي أحسن رفيق رافقته ولم نزل نتحدث وتضحك مني وما نالني وتمكنت منها تمكن من لو أراد زنية فعلها ولكن الله عصم فله الحمد ولم نزل كذلك حتى طلع الفجر وإذا جيد قد دخلت علينا فلما رأتنا ارتاعت وقالت ويحك من هذه فقلت أختك قالت وما الخبر قلت تخبرك فإنها والله نعم الأخت وأخذت ثيابي ومضيت إلى صاحبي فركبت أنا وهو وحدثته ما أصابني وكشفت له عن ظهري فإذا فيه ضرب رمى الله ضاربه بالنار كل شربة يخرج منها الدم فلما رآني كذلك قال لقد عظم صنعك ووجب شكرك وطالت يدك فلا أحرمني الله مكافأتك ولم يزل شاكراً معترفاً.

الليلة الخامسة

ص: 97

قال الواقدي كان إبراهيم بن المهدي قد ادعى الخلافة لنفسه بالري وأقام مالكها سنة واحد عشر شهراً وأثنى عشر يوماً وله أخبار كثيرة أحسنها عندي ما حكاه لي قال: لما دخل المأمون الري وطلبني أشد الطلب وجعل لمن أتاه بي مائة ألف درهم فخفت على نفسي وتحيرت في أمري فخرجت من داري وقت الظهر وكان يوماً صائفا وما أدري أين أتوجه فمررت على وجهي حتى وقعت في وقاق لا ينفد فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون إن عدت على أثرى يرتاب بي فرأيت في صدر الزقاق عبداً أسود وهو قائم على باب دار فتقدمت إليه فقلت له أعندك موضع أقيم فيه ساعة من نهار فقال نعم وفتح الباب فدخلت إلى دار نظيفة فيه حصيرة نظيفة ومخدة جلد إلا أنها نظيفة ثم أغلق الباب عليّ ومضى لسبيله فتوهمته قد جعل الجعالة فيّ وأنه خرج ليدل على فبقيت على مثل النار قلقا فبينما أنا كذلك إذ أقبل ومعه حمال عليه كل ما يحتاج إليه من خبز ولحم وقدر جديد وحرة نظيفة وكيزان جدد فحط عن الحمال والتفت إلى وقال جعلني الله فداك أنا رجل حجام وأنا أعلم أنك تتقذر مني لما أتولاه من معيشتي فشأنك بما لم تقع عليه يد وكان لي حاجة إلى الطعام فطبخت لنفسي قدرا ما أذكر أني أكلت مثله فلما قضيت أربي من الطعام قال لي هل لك من شراب فأنه يسلي الهم ويطيب العيش ويدفع عن النفس الغم قلت ما أكره ذلك رغبة في أن أؤانسه فأتى بقطرمين جديد لم تمسه يد وجاءني بذتين من شراب مطيبة وقال لي روق نفسك فروقت شراباً نهاية في الجودة وأحضر لي قدحا جديدا وفاكهه ونقلا مختلفة في طسوت فخار جدد ثم قال لي بعد ذلك أتأذن لي جعلت فداك أن أقصد ناحية عنك وآتى بنبيذ لي فأشرب منه سرورا بك فقلت له أفعل فشرب وشربت ثلاثاً ثم دخل إلى خزانته فأخرج عودا مصلحا ثم قال يا سيدي ليس من قدري أن أسألك تغني ولكن قد وجب على مروءتك وحرمتي فإن أردت بأن تشرف عبدك بأن تغني لنفسك فأفعل فقلت ومن أين لك أني أحسن الغناء فقال متعجباً سبحان الله أشهر من ذلك أنت إبراهيم بن المهدي خليفتنا بالأمس الذي جعل المأمون لمن دل عليك مائة ألف درهم فلما قال ذلك عظمت هيبته ومروءته عندي وعلمت أن نخوته أجل من المال الذي بذلته في فتناولت العود فأصلحته وغنيت وقد مر بخاطري فراق أهلي وولدي:

وعسى الذي أهدي ليوسف أهله

وأعزه في السجن وهو أسير

أن يستجيب لنا فيجمع شملنا

والله رب العالمين قدير

فقال يا سيدي أجعل الذي تغنيه ما يقتضيه حالك فقلت نعم فقال غن لي:

أن الذي عقد الذي انعقدت به

عقد المكارة فيك يحسن حلها

فاصبر فإن الله يعقب راحة

ولعلها أن تنجلي ولعلها

فغنيته ولم أكن أحسن لحنه ولكني لحنته وتفاءلت به وحسن عندي إيراده فشرب وشربت وقال غن لي يا سيدي فقلت:

فلا تجزع وأن أعسرت يوما

فقد أيسرت في الزمن الطويل

ولا تيأس فإن اليأس كفر

لعل الله يغني عن قليلي

ولا تظن بربك غير خير

فإن الله أولى بالجميل

وكنت أعرفه فغنيت وشربت فقال الله درك على لله يد إذ آنسني بمثلك وما كنت أحسب أن الزمان يسمح لي بكونك في منزلي فإن رأيت أن تغني لي فقلت:

وإذا تنازعني أقول لها اصبري

موت بريحك أو علو المنبر

ما قد قضى الرحمن فاصطبري له

ولك الأزمان من الذي لم يقدر

فغنيته وحسن في روحي اقتضاءه وآنست به واستظرفته ثم قال لي يا سيدي أتأذن لي أن أغني ما سنح وأن كنت من غير أهل هذه الصناعة فقلت له زيادة في أدبك ومروءتك فأخذ العود وغنى:

شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا

فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا

وذاك لأن النوم يغشى عيونهم

سريعا ولا يغشى النوم لنا أعينا

إذا ما بدا الليل المضر بذي الهوى

جزعنا وهم يستبشرون إذا رنا

فلو أنهم كانوا يلاقون مثلما

نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا

فوالله لقد أحسنت بالبيت قد سرني وذهب عني كل ما كنت فيه من الهلع وسألته أن يغني فغنى:

تعيرنا أنا قليل عدادنا

فقلنا لها أن الكرام قليل

وما ضرنا أنا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل

وإنا لقوم لا نرى القتل سنة

إذا ما رأته عامر وسلول

ص: 98

يقرب حب الموت آجالنا لنا

وتكرهه آجالهم فتطول

فداخلني من الطرب ما لا مزيد عليه إلى أن عاجلني السكر فلم استيقظ إلا بعد المغرب فعاودني فكري في نفاسة هذا الحجام وحسن أدبه وظرفه وكيف اقتضاني من الغناء ما أراد أن يسليني به فقمت وغسلت وجهي وأيقظته وأخذت خريطة كانت صحبتي فيها دنانير كثيرة لها قيمة فرميت بها إليه وقلت له استودعك الله فأني ماض من عندك وأسألك أن تصرف ما في هذه الخريطة على بعض مهماتك ولك عندي المزيد أن أمنت من خوفي فأعادها إلى متنكرا وقال لي يا سيدي أن الصعلوك ما لا قدر له وليس عندكم من ذوي الرياسات ويظن به الظنون الرديئة عن الأخذ آخذ على ما وهبنيه الزمان من قدرك وحلولك عندي ثم أني ألححت عليه فأومي على موسى وقال والله لئن راجعتني فيها لأقتلن نفسي فخشيت عليه وأخذت الخريطة فأعدتها إلى كمي وقد أثقلني حملها فلما انتهيت إلى باب داره معولا إلى المضي قال لي سيدي أن هذا الموضع أخفى لك وليس في مؤنتك ثقلة فأقم عندي إلى أن يفرج الله عنك فرجعت وسألته أن يكون منفقا من الخريطة فلم يفعل وكان يفعل في كل يوم مثل ما فعله في يوم حلولي عنده فأقمت أياما في ألذ عيش فتبرمت من الإقامة في منزلي واحتشمت من التثقيل فتركته وقد مضى بجدد لنا حالنا فقمت وتزينت بزي النساء بالخف والنقاب فخرجت فلما صرت في الطريق داخلني من الخوف أمر شديد وجئت لأعبر الجسر فإذا أنا بالموضع قد رش وصار زلقا فأبصرني جندي ممن كان يخدمني فعرفني وقال هذه حاجة المأمون فتعلق بي فمن حلاوة الروح دفعته هو وفرسه فرميتهما في ذلك الزلق وتبادر الناس لينقذوه فاجتهدت في المشي حتى قطعت الجسر ودخلت زقاقا فوجدت باب دار وامرأة في دهليزه فقلت يا سيدي النساء احقنى دمي فإني رجل خائف فقالت على الرحب وأطلعني إلى غرفة وفرشت لي وقدمت طعاماً وقالت هدئ روعك فما يعلم بك مخلوق عندي ولو أقمت سنة وهي معي في ذلك وإذ بالباب يدق دقاً عنيفاً فخرجت فتحت الباب فإذا بصاحبي الذي دفعته على الجسر وهو مشدود الرأس ودمه يجري على ثيابه وليس معه فرسه فقالت يا هذا ما بالك فقال لها أن حديثي عجيب ظفرت بالفتى وانفلت مني ولو كنت حملته إلى والمأمون لتعجلت لي مائة ألف درهم قالت وما هو قال إبراهيم ابن المهدي لقيته وتعلقت به فدفعني والفرس فأصابني ما ترين قال فأخرجت إليه خرقا فعملتها في جرحه وعصبته وأسقته شراباً ونام عليلاً وطلعت إليّ فقالت أظنك صاحب القصة فقلت نعم فقالت لا بأس عليك ثم جددت الكرامة فأقمت عندها ثلاثا ثم قالت أني خائفة عليك من هذا الرجل لئلا يطلع على أثرك فينم بك فانج بنفسك فسألتها إمهالي إلى الليل ففعلت فلما دخل الليل لبست زي النساء وخرجت من عندها فأتيت إلى بيت مولاة كانت لي فلما رأتني توجعت لي وبكت وحمدت الله على سلامتي وخرجت كأنها تريد السوق والاهتمام في الضيافة وظننت خيراً فما شعرت إلا بإسحاق بن إبراهيم المصلي بنفسه في خيله ورجله والمولاة معه فسلمتني له فرأيت الموت عيانا وحملت إلى المأمون فجلس مجلسا عاما وأدخلني إليه فلما مثلت بين يديه سلمت عليه بالخلافة فقال لا سلم الله عليك ولا رعاك ولا حباك فقلت على رسلك يا أمير المؤمنين أن أولى الثار محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى ومن تناولته أيدي الاغترار بما أمد له من أسباب الرجا لم يأمن من غائلة الدهر وقد جعلك الله فوق كل ذي عفو كما جعل كل ذنب تحت عفوك فإن تأخذ فبحقك وأن تعف فبفضلك ثم أنشدت:

ذنبي إليك عظيم

وأنت أعظم منه

فخذ بحقك أولا

فاصفح بحلمك عنه

إن لم أكن في فعالي

من الكرام فكنه

فرفع رأسه إلى فبدرته وقلت:

أذنبت ذنبا عظيما

وأنت للعفو أهل

فإن عفوت فمن

وإن جزيت فعدل

فرق لي المأمون واستروحت رواح الرحمة في وجهه ثم أقبل على أخيه أبي إسحاق وابنه العباس وجميع من حضر في خاصته وقال ما تقول يا أحمد فقال يا أمير المؤمنين أن قتلته وجدنا مثلك قتل مثله وأن عفوت عنه لم نجد مثلك عفا عن مثله فنكس المأمون رأسه ينكث بأصبعه في الأرض ثم قال متمثلا:

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

فلئن عفوت لاعفون جدالا

ولئن سطوت لأوهين عظمي

ص: 99

فكشفت المقنعة عن رأسي وكبرت تكبيرة عظيمة فقلت عنا والله عفى أمير المؤمنين فقال لا بأس عليك يا عم فقلت يا أمير المؤمنين ذنبي عظيم أعظم من أن أتفوه معه بعذر وعفوك أعظم من أنطق معه بشكر ولكن أقول:

أن الذي خلق المكارم حازها

في صلب آدم والإمام الشافعي

ملئت قلوب الناس منك مهابة

وتظل تكلؤهم بقلب خاشع

فعفوت عمن لم يكن عن مثله

عفو ولم يشفع إليك بشافع

ورحمت أطفالا كأفراخ القطا

وحنين والدة بقلب جازع

رد الحياة على بعد ذهابها

كرم الملك العادل المتواضع

فقال لي المأمون لا تثريب عليك اليوم قد عفوت عنك ورددت عليك ضياعك فقلت رددت مالي ولم تبخل على به وقبل ردك مالي قد رددت دمي:

نأيت عنك وقد خولتني نعما

هما الحياتان من الموت ومن عدم

فلو بذلت دمي أبغي رضاك به

والمال حتى أسل النعل من قدم

ما كان ذاك سوى عارية رجعت

إليك لو لم تعدها كنت لم تلم

وأن جحدتك ما أوليت من نعم

أني إلى اللؤم أولى منك بالكرم

فقال المأمون أن من الكلام كلاما كالدر وهذا منه وأمر لإبراهيم بمال وخلع عليه وقال يا إبراهيم أن أبا إسحاق وأبا العباس أشارا بقتلك فقلت أنهما نصحا لك يا أمير المؤمنين ولكن أبيت إلا ما أنت أهله ودفعت عني ما خفت بما رجوت فقال المأمون قد مات حقدي عليك بحيات عذرك وعفوي عنك وأعظم من عفوي عنك أني لم أجرعك مرار امتنان النافعين ثم سجد المأمون طويلا ثم رفع رأسه وقال يا إبراهيم أتدري لم سجدت فقلت شكر الله الذي أظفرك بعدوك وعدو دولتك فقال ما أردت هذا ولكن شكرا الله على ما ألهمني من العفو عن مثلك فحدثني الآن حديثك فشرحت لهى صورة أمري وما جرى لي مع الحجام والجندي والمرأة والمولاة التي أسلمتني فأمر المأمون بإحضارها وهي في دارها تنتظر الجائزة فقال لها ما حملك على فعلت مع أنعامه عليك فقالت رغبة في المال فقال لها هل لك من ولد أو زوج فقالت لا فأمر بضربها مائة سوط وخلدها في السجن ثم قال أحضروا الجندي وامرأته والمزين فأحضروا فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على ما فعل فقال الرغبة في المال فقال المأمون أنت أولى أن تكون حجاما من أن تكون من أوليائنا ووكل به يلزمه الجلوس في دكان الحجام ليتعلم الحجامة واستخدم زوجته قهرمانة في قصر وقال هذه امرأة عاقلة أديبة تصح للمهمات ثم قال للحجام لقد ظهر من مروءتك ما يجب معه المحافظة عليه وسلم إليه دار الجندي ودابته وخلع عليه وأثبته برزقه وزيادة ألف دينار في كل سنة ولم يزل بخير إلى أن مات.

الليلة السادسة

قال الأمير بدر الدين يوسف المهمندار ابن الأمير سيف الدين أبي المعالي ابن رماح المعروف بمهمندار العرب حكى لي الأمير شجاع الدين محمد الشرزي متولي القاهرة في الأيام الكاملية سنة ثلاثين وستمائة قال بينما أنا عند رجل ببعض بلاد الصعيد فضيفنا وأكرمنا وكان الرجل أسمر شديد السمرة وهو شيخ كبير وحضر له أولاده حسان فيهم صفاء لون فقلنا يا فلان هؤلاء أولاد بيض وأنت شديد السمرة فقال هؤلاء أمهم فرنجية أخذتها في أيام الملك الناصر صلاح الدين وأنا شاب نوبة حطين فقلنا وكيف أخذتها فقال لها حديث عجيب فقلت أتحفنا به فقال:

ص: 100

زرعت كتانا في هذه البلدة وقلعته ونفضته فانصرف عليه خمسمائة دينار فلم يجب أكثر من ذلك فأشير علي بحمله إلى الشام فحملته فلم يجب أكثر من ذلك فقيل لي بعه صبرا لعله يرجع لك حق الطريق فبعت بعضه صبرا إلى ستة أشهر والبعض تركته عندي واكتريت حانوتا أبيع فيه على مهل إلى حين انقضاء الستة أشهر فبينما أنا أبيع وقد مرت بي امرأة فرنجية زوج بعض الخيالة ونساء الفرنج يمشون في الأسواق بلا نقاب فأتت تشتري مني كتانا فرأيت من جمالها ما أبهرني فبعتها وسامحتها ثم انصرفت وعادت إلي بعد أيام فبعتها وسامحتها أكثر من الكرة الأولى فتكررت إلي عندي وعلمت أني أحبها فقلت للعجوز التي معها أنني قد تعلقت بحبها فكيف تتحيلين لي فقالت لها ذلك فقالت تروح أرواحنا الثلاثة أنا وأنت وهو فقلت لها إذا أذهب روحي باجتماعي بها ما هو كثير وحكت لي كلاما كثيرا جرى بينهما واتفق الحال على أن أدفع لها خمسين دينارا صورية وتجيء إليه قال فوزنت خمسين دينارا صورية وسلمتها للعجوز فقالت هيئى لنا موضعك ونحن الليلة عندك قال فمضيت وجهزت ما قدرت عليه من مأكول ومشروب وشمع وحلوى وكانت داري مطلة على البحر وكان الصيف ففرشت لي على سطح الدار وجاءت الفرنجية فأكلنا وشربنا وجن الليل فنمنا تحت السماء والقمر يضيء علينا والنجوم تنظر في البحر فقلت في نفسي أما تستحي من الله وأنت غريب وتحت السماء وعلى البحر وتعصي الله مع نصرانية فتستوجب عذاب النار وعذاب الدنيا اللهم أني أشهدك أني قد عففت عن هذه النصرانية في هذه الليلة حياء منك وخوفا من عقابك ثم نمت إلى الصبح فقامت في السحر وهي غضبي ومضيت ومضيت إلى حانوتي فجلست فيه وإذا هي قد عبرت على هي والعجوز وهي مغضبة وكأنها القمر فهلكت وقلت في نفسي من هو أنت حتى تترك هذه الجارية أنت الجنيد أو السري السقطي ثم لحقت العجوز وقلت أرجعي فقالت وحق المسيح ما نرجع إليك إلا بمائة دينار فقلت نعم ومضيت إلى حانوتي ووزنتها وجاءت إلى ثاني دفعة فلحقتني تلك الفكرة الأولى وعففت عنها وتركتها لله تعالى ثم مضت ومضيت إلى موضعي ثم عبرت على وكلمتني وكانت مستغربة وقالت وحق المسيح ما بقيت تفرح بي عندك إلا بخمسمائة دينار أو تموت كمدا فارتعت لذلك وعزمت أني أغرم ثمن الكتان جميعه وأفدى نفسي فبينما أنا كذلك والمنادي ينادي معاشر المسلمين أن الهدنة التي بيننا وبينكم قد انقضت وقد أمهلنا من هنا من المسلمين إلى جمعة ليقضوا أمورهم وينصرفوا إلى بلادهم فانقطعت عني وأخذت أنا في تحصيل ثمن الكتان الذي لي والمصالحة على ما بقى منه وأخذت معي بضاعة حسنة وخرجت من عكا وأنا في قلبي من الفرنجية ما فيه فوصلت إلى دمشق وبعت البضاعة التي لي بأوفى ثمن لانقطاع وصولها بسبب فراغ الهدنة ومن الله سبحانه وتعالى على بكسب جيد وأخذت أتجر في الجواري عسى أن يذهب ما بقلبي من الفرنجية ولازمت التجارة فيهن فمضى على ثلاث سنين وجرى للسلطان الملك الناصر ما جرى من وقعة حطين وأخذه جميع الملوك وفتحه بلاد الساحل بإذن الله تعالى فطلب مني جارية للملك الناصر وكان عندي جارية حسنة فاشتريت له بمائة دينار فأوصلوا إلى تسعين دينارا وبقيت عشرة دنانير فلم يجدوها في الخزانة ذلك اليوم لأنه أنفق الأموال جميعها فشاوروه على ذلك فقال امضوا به إلى الخزانة التي فيها السبي من نساء الفرنج فخيروه في واحد منهن يأخذها بالعشرة دنانير التي له فأتيت الخزانة فنظرت إليها فعرفت الجارية الفرنجية غريمتي فقلت أعطوني هاتيك فأخذتها ومضيت إلى خيمتي وقلت لها أتعرفينني قالت لا فقلت أنا صاحبك التاجر في المكان الذي جرى له معك ما جرى وأخذت مني الذهب وقلت ما بقيت تبصرني إلا بخمسمائة دينار وقد أخذتك ملكاً بعشرة دنانير فقالت مد يدك أنا أشهد إن لا إله ألا الله وأن محمدا رسول الله فأسلمت وحسن إسلامها فقلت والله لا وصلت إليها إلا بأمر القاضي فرحت إلى ابن شداد وحكيت له ما جرى فعجب وعقد لي عليها وباتت تلك الليلة فحملت ثم دخل العسكر فأتينا إلى دمشق فما كان إلا شهور قلائل وأتى رسول الملك يطلب الأساري والسبايا باتفاق وقع بين الملوك فرد ومن كان أسيراً من الرجال والنساء ولم يبق إلا امرأة الفارس التي عندي فسألوا عنها وألحوا في السؤال والكشف فوشى بها أنها عندي فطلبت مني وحضرت وأنا في شدة وقد تغير لوني

ص: 101

فقالت ما بدا لك وما الذي أصابك قلت جاء رسول الملك وأخذوا الأساري جميعهم وطلبوني فقالت لا بأس عليك أحضرني إليهم وأنا أعرف الذي أقول لهم قال فأخذتها وأحضرتها قدام السلطان الملك الناصر والرسول جالس عن يمينه فقلت هذه المرأة التي عندي فقال لها الملك والرسول تروحين إلى بلادك أم إلى زوجك فقد فك أسرك أنت وغيرك فقالت للسلطان أنا قد أسلمت وحبلت وها بطني كما ترونه وما بقيت الفرنج تنتفع بي فقال لها الرسول يخيرها أيما أحب إليك هذا المسلم أم زوجك الفارس فلان فقالت له كما قالت للسلطان فقال الرسول لمن معه من الفرنج اسمعوا كلامها ثم قال لي الرسول خذ امرأتك وامضي فوليت بها وقد أرسل إلي عاجلاً وقال أن أمها أرسلت لها معي وديعة وقالت أن ابنتي أسيرة وهي عريانة شعثة واشتهي أن ترسل لها هذا الجمدان وتسلمه لها قال فتسلمت الجمدان ومضينا إلى الدار ففتحته فوجدت قماشها بعينه وقد صرته لها أمها ووجدت الصرتين الذهب الخمسين دينار والمائة دينارا كما هما بربطتي لم يتغيرا وهؤلاء الأولاد منها وهي تعيش وهي التي عملت هذا الطعام.

الليلة السابعة

ص: 102

قصة أريب بنت إسحاق زوج عبد الله بن سلام القرشي وكان عبد الله بن سلام هذا والياً لمعاوية على العراق وكانت أريب هذه من أجمل النساء وقتها وأحسنهن أدبا وأكثرهن مالاً وكان يزيد بن معاوية قد سمع بجمالها وبما هي عليه من الأدب وحسن الخلق والخلق ففتن بها فلما عيل صبره استهاج في ذلك مع أحد خصيان معاوية وكان ذلك الخصي خاصاً بمعاوية اسمه رفيف فذكر ذلك رفيف لمعاوية وذكر شغفه بها وأنه ضاق ضرعه بأمرها فبعث معاوية إلى يزيد فاستفسره عن أمره فبعث له شأنه فقال معاوية مهلاً يا يزيد قال له علام تأمرني بالمهل وقد انقطع منها الأمل قال له معاوية فأين حجاك ومروءتك فقال له يزيد قد عيل الحجا ونفد الصبر ولو كان أحد ينتفع به من الهوى لكان أولى الناس بالصبر عليه داود حين ابتلى به قال له اكتم يا بني أمرك فإن البوح به غير نافعك والله بالغ أمره فيك ولا بد مما هو كائن وكانت أريب بنت إسحاق مثلاً في أهل زمانها لجمالها وتمام كمالها وشرفها وكثرة مالها فأخذ معاوية في الحيلة حتى يبلغ يزيد رضاه فيها فكتب معاوية إلي عبد الله بن سلام وكان استعمله على العراق أن أقبل حين تنظر كتابي لأمر فيه حظك أن شاء الله تعالى ولا تتأخر عنه وأجد السير وكان عند معاوية يومئذ بالشام أبو هريرة وأبو الدرداء صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم عليه عبد الله بن سلام الشام أمر معاوية أن ينزل منزلا قد هيأه وأعد فيه نزله ثم قال لأبي هريرة وأبي الدرداء إن الله قد قسم بين عباده نعما أوجب عليهم شكرها وحتم عليهم حفظها فحباني منها عز وجل بأتم الشرف وأفضل الذكر وأوسع على رزقه وجعلني راعي خلقه وأمينه على بلاده والحاكم في أمر عباده ليبلوني أأشكر أم أكفر وأول ما ينبغي للمرء أن يتفقده وينظر فيه من استرعاه الله أمره ومن لا غناية عنه وقد بلغت لي ابنة أريد أناكحها وأنظر في تبجيل من يباعلها لعل من يكون بعدي يقتدي بي في هديتي ويتبع فيه أثرى فإنه قد يلي هذا الملك بعدي من يغلب عليه زهو الشيطان ويزينه إلى تعطيل بناتهم ولا يرون لهن كفؤا ولا نظيرا وقد رضيت لها عبد الله بن سلام القرشي لدينه وشرفه وفضله ومروءته وأدبه، فقال أبو هريرة وأبو الدرداء: إن أولى الناس برعاية نعم الله وشكرها وطلب مرضاته فيما خصه منها لأنت أنت صاحب رسول الله وكاتبه وصهره وقال معاوية فاذكروا ذلك عني وقد كنت جعلت لها في نفسها شورى غير أني لأرجو ألا تخرج من رأيي إن شاء الله تعالى فخرجا من عنده متوجهين إلى منزل عبد الله بن سلام بالذي قال لهما معاوية ثم دخل معاوية على ابنته فقال لها إذا دخل عليك أبو الدرداء وأبو هريرة فعرضا عليك أمر عبد الله بن سلام وانكاحي إياك منه فأحرصي على المسارعة إلى هواي وقولي لهما عبد الله بن سلام كفؤ كريم وقريب حميم غير أن تحته أريب بنت إسحاق وأنا خائفة أن يعرض لي من الغيرة ما يعرض للنساء فأنال منه ما يسخط الله فيه فيعذبني عليه ولست بفاعلة حتى يفارقها فلما ذكر ذلك أبو هريرة وأبو الدرداء لعبد الله بن سلام وأعلماه بالذي أمرهما معاوية فردهما إلى معاوية خاطبين منه فقال قد تعلمان رضاي به وحرصي عليه وقد كنت أعلمتكما الذي جعلت لها في نفسي من الشورى فادخلا عليها وأعرضا الذي رأيت لها عليها فدخلا عليها وأعلماها ذلك وأعلماها بالذي ارتضاه أبوها فقالت كالذي قال أبوها فأعلما عبد الله بن سلام بذلك فلما ظن أنه لا يمنعها منه إلا افتراق أريب أنشدهما على طلاقهما وبعث إليهما خاطبين وأعلما معاوية الذي كان من فراق عبد الله بن سلام امرأته طالباً رضاها فأظهر معاوية كراهيته لفعله وقال لهما ما استحسن له طلاق امرأته ولا أجبته فانصرفا في عافية ثم عودا إلينا فيها ونأخذ إن شاء الله رضاه وكتب إلى يزيد ابنه يعلمه بما كان من طلاق عبد الله بن سلام لأريب بنت إسحاق فلما عاد أبو هريرة وأبو الدرداء إلى معاوية أمرهما بالدخول على ابنته وسؤالها عن رضاها تبريا من الأمر ونظرا في القدر ويقول لم يكن لي أن أكرهها وقد جعلت لها الشورى في نفسها فدخلا وأعلماها بطلاق عبد الله بن سلام امرأته ليسراها وذكرا من فضله وتمام مروءته وكريم محمدته فقالت جف القلم بما هو كائن وأنه في قريش لرفيع القدر وقد تعرفان أن التزويج جده جد وهزله جد والأناة في الأمور ممن لا يخاف فيها من

ص: 103

المحذور فإن الأمور إذا جاءت خلاف الهوى بعد التأني فيها كان المرء فيها بحسن العذر خليقا وبالصبر عليها حقيقا وأني سائلة عنه حتى أعرف دخيلة خبره ويصح لي بالذي أريد علمه من أمره وأن كنت أعلم أن الاختيار لأحد فيما هو كائن ومعلمتكما بالذي يرينيه الله في أمره ولا قوة إلا بالله قالا وفقك الله وخار لك ثم انصرفا عنها فلما أعلماه بقولها أنشأ يقول فإن يك صدر هذا اليوم ولي فإن غدا لناظره قريب وتحدث الناس بالذي جرى من طلاق عبد الله بن سلام امرأته وخطبته ابنة معاوية وقالوا لم يطلق حتى فرغ من طلبه له الذي كان من بغيته واستحدث عبد الله أبا هريرة وأبا الدرداء فأتياها فقالا لها اصنعي ما أنت صانعته واستخيري الله فإنه يهدي من استهداه قالت أرجو والحمد لله أن يكون الله قد خار فإنه لا يكل إلى غيره من توكل عليه وقد اختبرت أمره وسألت عنه فوجدته غير ملائم ولا موافق لما أريد لنفسي مع اختلاف من استشرته فيه فمنهم الناهي عنه والآمر به واختلافهم أول ما كرهت فلما أبلغاه كلامها علم أنه مخدوع فإن المرء وأن كمل له حلمه واجتمع له عقله واستبد رأيه ليس يدافع عن نفسه قدراً برأي ولا كيد ولعل متا أسروا به واستحلوا به لا يدوم لهم سروره ولا يصرف عنهم محذوره قال وذاع أمره وفشا في الناس وقالوا خدعه معاوية حتى طلق امرأته وإنما أرادها لأبنه بئس ما صنع فلما بلغ ذلك معاوية قال لعمري ما خدعته فلما انقضت إقراؤها وجه معاوية أبو الدرداء إلى العراق خاطباً لها على ابنه يزيد فخرج حتى قدمها وبها يومئذ الحسين على بن ابن طالب (فقال أبو الدرداء إذ قدم العراق ما ينبغي لذي نهى أن يبدأ بشيء ويؤثره على مهم أموره قبل زيارة الحسين سيد شباب أهل الجنة فإذا دخلت موضعا هو فيه وأديت حقه والسلام عليه انقلبت إلى ما جئت إليه فقصد الحسين فلما رآه الحسين عليه السلام قام إليه وصافحه إجلالاً لصحبته من جده صلى الله عليه وسلم ولموضعه من الإسلام وقال له ما أتى بك يا أبا الدرداء قال وجهني معاوية خاطباً على ابنه يزيد أريب بنت إسحاق فرأيت على حقا أن لا أبدأ بشيء قبل السلام عليك فشكر له الحسين ذلك وأثني عليه وقال لقد كنت ذكرت نكاحها وأردت الإرسال إليها إذا انقضت إقراؤها فلم يمنعني مكن ذلك إلا تخير مثلك فقد أتى الله بك فاخطب رحمك الله على وعليه ليجري من اختاره الله لها وهي أمانة في عنقك حتى تؤديها إليها وأعطها من المهر مثل ما بذل لها معاوية عن ابنه فقال أفعل إن شاء الله فلما دخل عليها قال أيتها المرأة أن الله خلق الأمور بقدرته وكونها بعزته فجعل لكل أمر قدرا ولكل قدر سبباً فليس لأحد عن قدر الله مستخلص ولا للخروج عن علمه مستناص فكان ما سبق لك وقدر عليك من فراق عبد الله بن سلام إياك ولعل ذلك لا يعيرك ويجعل الله فيك خيراً كثيراً وقد خطبك أمير هذه الأمة وابن ملكها وولي عهده والخليفة من بعده يزيد بن معاوية والحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أول من أقر به من أمته وسيد شباب أهل الجنة يوم القيامة وقد بلغك سناهما وفضلهما جئتك خاطباً عليهما فاختاري أيهما شئت فسكتت طويلاً ثم قالت يا أبا الدرداء لو كان هذا الأمر جاءني وأنت غائب لأشخصت فيه الرسل إليك واتبعت فيه رأيك ولم اقتطعه دونك فأما إذا كنت أنت المرسل فيه فقد فوضت أمري بعد الله إليك وجعلته في يديك فاختر لي أرضاهما لربك والله شاهد عليك فاقض في قصدي بالتحري ولا يصدنك عن ذلك اتباع الهوى فليس أمرهما عليك خفيا ولا أنت عما طوقتك غبياً قال أبو الدرداء أيتها المرأة إنما على أعلامك وعليك الاختيار لنفسك فقالت عفا الله عنك إنما أنا بنت أخيك ومن لا غنا لها عنك ولا يمنعك رهبة أحد من قول الحق فيما طوقتك فقد وجب عليك أداء الأمانة فيما حملتك والله خير من روعي وحنف أنه بنا خبير لطيف فلما لم يجد بدا من القول والاستشارة قال يا بنية ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ لك وأرضي عندي والله أعلم بخيرهما لك وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً شفتيه على شفتي الحسين فضعي شفتيك حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم شفتيه قالت قد اخترت ورضيت فتزوجها الحسين بن علي عليهما السلام فساق لها مهراً عظيماً وبلغ معاوية الذي كان من فعل أبي الدرداء في ذلك نكاح الحسين

ص: 104