الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في كل يوم لنا من مجده عجب
…
وكل يوم لنا من ذكره سمر
نظرت في نجمه فالسعد طالعة
…
لا ينقضي وعلى أمواله سفر
أبو الفوارس والأبطال مشفقة
…
وهم بنوك فما تبقى ولا تذر
يلقى عروس المنايا وهي حاسرة
…
وخدها فيه من فيض الدما حفر
والضرب بالبيض من آثاره عكن
…
والطعن بالسمر من آثاره سعرر
ورب ليلة خطب قد سريت بها
…
وما سرى كوكب فيها ولا قمر
سمت الغويص بعزم ما له ضجر
…
ولبعيد بباع ما به قصر
وأنت في جيش رأى لا غبار له
…
ترمي العداة بقوس ما لها وتر
هي الحروب التي لا السيف منثلم
…
فيها ولا الذابل اللحظي بمنتظر
في كعبة للندى لو حلها ملك
…
هب النطق حتى قيل ذا حجر
وسائل لي ملا العليا فقلت له
…
في فعله الخير أو في قوله الخبر
ما أنصفت مجده نظام سيرته
…
إن الذي ستروا فوق الذي سطروا
نال السما بأطراف القنا فبدت
…
من النصول عليها أنجم زهر
لا يحدث النصر في أعطافهم مرحا
…
حتى كأنهم بالنصر ما شعروا
أجروا دماء العدا بين الرماح فما يقال ما عندهم ماء ولا شجر
ترى غرائب من أفعال مجدهم
…
يردها الفكر لو لم يشهد النظر
خلائق في سموات العلا زهر
…
منها تنير وفي روض الثنا زهر
الناس أضيافكم والأرض دراكم
…
فهو المقام قلم قالوا هو السفر
ما أنصف الشكر لولا أن تسامحنا
…
فأنت تطنب جوداً وهو يختصر
الباب الثاني والعشرون
في الحذاق المطربين
قال أفلاطون من حزن فليسمع الأصوات الطيبة فإن النفس حزنت خمد نورها وإذا سمعت ما يطربها ويسرها اشتعل منها ما خمد، وكان حكماء الهند يسمعون الغناء للمريض ويزعمون أنه يخفف العلة ويقوي الطبيعة والغناء غذاء الرواح كما أن الأطعمة غذاء الأشباح.
وقال معاوية وقد سمع عنده مغن فحرك رأسه وصفق بيده ودخلته أريحته ثم لما ثاب رأيه إليه اعتذر منه أن الكريم طروب ولا خير فيمن لا يطرب.
وقال أبو الحسن بن مقلة يعجبني من يقول الشعر تأدبا لا تكسبا ويغني تطربا لا تطلبا.
الشيء بالشيء يذكر ما ألطف قول الشيخ برهان الدين القيراطي من قصيدة:
بابي غنى ملاحة أشكو له
…
فقري فيصيح بالغنا يتطرب
وكان مروان بن أبي حفصة إذا تغذى عند الموصلي يقول له الغناء غذاء الأرواح كما أن الشراب غذاء الأشباح.
يقال السماع كالروح والخمر كالجسد والسرور ولدهما.
أعلم أن بين الخمر والغناء مناسبة في أكثر الأحوال ومضارعة فيما يجمعانه من محمود الخصال لأن فيه ما يصير الجبان إذا سمعه شجاعا ومنه ما يكون للهم دفاعا ونغمه يبعث الشحيح على السخاء ومقابلة سؤال السائل بالعطاء وفيه ما ليس في الخمر من الخصائص العجيبة الأمر ذلك أن الرجل الواحد يغني له في طريقه فيلين خلفه ويغني له في غيرها فتطهر شراسته وترفه وإذا سمع ضربا منه استنفره وإذا عنى بصوت آخر لم يمكن العواصف أن تهزه وفيه ما يبكي سامعه ولممازجة الأصوات الحسنة للأرواح وإهدائها إلى القلوب ظرائف الأفراح كانت البهائم إذا سمعتها تحن إليها والطير يشغف بها ويطرب عليها والإبل يكسبها الحداء مثل ما يكسب الإنسان الغناء والخيل والبغال والحمير تلذ بشرب الماء إذا تواصل من ساقيها الصقر والحمامة المطوقة والشحارير والبلابل والزرازير والهزاردستانات وغيرها من الطيور المستحسنة الأصوات تسمع أصواتها فيبين منها الطرب وذاك داعيها إلى تكريرها ولأجل ذلك يتخذها الملوك في قصورهم ويجعل أماثل الناس كثيراً منها في دورهم وإن كانت أصواتها لا تدل على معنى رائق يعلم ولا تتضمن ما يعرب عنه الكلام الذي يفهم فما ظنك بالألفاظ التي يسمعها السامع فيعيها ويفهم ما يفيده إياه من معانيها إذا أدركها ملحنة ممن خصوا بصفاء الخلق والنغمات المستحسنة ولهذه العلة صار من يسمع غناء المحسن يشرب من النبيذ عليه أزيد مما يحتمله حاله إذا لم يصغ إليه ويستمرئ الكثير منه مع سماعه وإن كان يثقل عليه قليله إذا خلا من استماعه وقد علم أن الصبي الطفل إذا أنزعر خلقه واتصل بكاؤه لوجع يناله أو ضجر يجده وصوتت له دادته بكلام تلحنه وتراجعه سكن قلقه أو سمع من منومته مثل ذلك زال أرقه.
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: عيش الدنيا بعد الصحة والشباب في الطلاء والغناء والنساء والآلات التي اتخذت للغناء بها واستعلمت على ترتيب أمكن معه أن يظهر منها ما يظهر من الحيوان الذي يرجع صوته بألحان فإن الحكمة فيها مطلوبة والمنافع المكتسبة منها جسمية والعود أجلها خطرا وأحسنها في القلوب أثرا وقد كان داود عليه السلام أحذق الناس بصوغ الألحان في تسبيحه ويعرف الفاسد من ذلك من صحيحه وبه كان يضرب المثل في حسن إيقاعه في عوده وارتياح القلوب لصوته وتغريده وكان قبل إفضاء الملك إليه واجتماع بني إسرائيل عليه يحضره ملكهم طالوت إذا غلب عليه خلط رديء كان يعتريه فيأمر أن يوقع له بالعود ويسمعه من أصواته ما يستلذه فيفعل فيسكن ما هاج به ولما صار الملك إليه نصب من أعظم الحذاق بتلحين المزامير والتسبيح بها على الميدان والطنابير وغيرها من الدفوف والطبول والصلصل وما يجري مجراها جماعة وكانت العدة التي تحضر من هذه الطائفة عنده أربعة آلاف في كل ليلة ذكر ذلك جميعه الثعالبي في موائد الأفراح وحدود الغناء أربعة لا يستغني عن واحد منها وبها يتم وعليها يبني فأقلها النغم ثم تأليفه ثم قسمته ثم إيقاعه فما اشتمل من الشعر على هذه الحدود فهو غناء وإن نقص منه فليس بغناء وذكر اليونانيون أن الأوتار الأربعة شبهت بالطبائع الأربع وإن البم مشاكل للأرض والسوداء والمثلث بالماء والمبلغم والمثنى بالهواء والدم والزئر بالنار وإن النار لما كانت في الطرف الأعلى في العالم والأرض في الجهة السفلى منه جعل ما بين البم والزئر كذلك وزعمت الأعاجم أنه مشتق من صرير باب الجنة وما قدم أحد من الأمم على العوذ من الملاهي إلا لما جمع من الفضائل التي استبد بها وقصر سواه عن اللحاق فيها والحاذق في الغناء مقدم على كل حاذق.
وذكر أن عبد الملك أتى بعود قد أخذ مع شارب بالليل فقال وعنده قوم ما هذا ولاي شيء يصلح هذا وأي شيء يعمل به فسكت جلساؤه فقال عبد الله بن مسعدة القراري هذا عود يؤخذ خشبه فيشق ويرقق ويلصق ثم يعلق عليه هذه الأوتار وتحركها الجارية الحسناء فينطق بأحسن من وقع القطر في البلد القفر وامرأتي طالق إن لم يكن كل من في هذا المجلس يعلم منه مثل ما عملت وأولهم أنت يا أمير المؤمنين قال فضحك عبد الملك.
فصل: وينبغي أن يكون المغني جميل الخلق صافي الخلق له حلاوة وعليه طلاوة مستعذب العبارة نظيف الشارب يحفظ كثراً من الملح والأخبار والنوادر والأشعار وشيئاً صالحاً من علم الإعراب ما يختلط معه بذوي الآداب غير نمام ولا مغتاب ولا فضولي ولا عتاب كامل الظرف بعيدا من الظئر متوقيا للهجن كتوماً للأسرار مرتكبا طريق الأسرار ذو روايح ذكية وبشرة نقية وجوارح سالمة من العيوب وشمائل يخفق بها على القلوب صناعته معجبة وأغانيه مطربة فمن اجتمعت فيه هذه الصفات والمناقب وسلم مما تقدم ذكره من المعائب والمثالب كان حقيقا من الملوك بالاختصاص وخليقا منهم بأن يشرفوه بالاصطناع والاختصاص ومنهم من يكون حاذقاً في صناعته فيبلغ في أحكامه غاية استطاعته واجتمعت فيه الخلال الحميدة وعرف بالأخلاق السديدة غير أنه يرزق صوتا يستعدنه ويحسن ممن يغني له موقعه فتصطفيه الملوك لتعليم العناء ممن يؤهلونه لذلك من الطرائف والإماء وتختلف أحوال الباقين في أخلاقهم وخلقهم والمذهب من كل ذي علم وصناعة قليل وتعديد ما يوجد من أخلاق يطول.
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي شر الغناء والشعر الوسط لأن الأعلى منهما يطرب والرذل يضحك من صاحبه ويلهي به الوسط لا يطرب ولا يضحك.
وذكر الشيخ جمال الدين بن نباتة في شرح العيون ما صورته ويقال إن أول من أتخذ العود الملك المتوشلخ على مثال فخذ ابنه الميت وهو قول ضعيف، وقيل بطليموس، وقيل بعض حكماء الفرس وسماه البريط وتفسيره باب النجاة ومعناه أنه مأخوذ من صرير باب الجنة وقد جعلت أوتاره أربعة كما تقدم ذكره.
وذكر أن أول من غنى على العود بألحان الفرس النضر بن الحارث بن كلدة وفد على كسرى بالحيرة فتعلم ضرب العود والغناء وقدم مكة أهلها وأول من غنى في الإسلام بألحان الفرس سعيد بن مسحج وقيل طوليس وذلك أن عبد الله بن الزبير لما وهي بناء الكعبة رفعها وجد بناءها فيها صناع الفرس يغنون بألحانهم فوقع عليها ابن مسحج الغناء العربي ثم دخل إلى الشام فأخذ عن ألحان الروم ثم رحل إلى فارس فأخذ الغناء وضرب العود وابتعه من بعده وبدأ هذا العلم ببطليموس وختم بإسحاق بن إبراهيم الموصلي.
وذكر القاضي الرشيد بن الزبير في كتابه العجائب والظرف أنه وجد للأسعد المرتضى أحمد بن عبد الواحد لما قبض عليه المستنصر في سنة تسع وخمسين وأربعمائة ما يجوز حد الحصر لكثرته وجلالته وعلو همته وفيما وجد له عدلان كبيران أوتارا برسم عيدان الغناء وعدلا مخزوما مضارب العيدان وثلاثمائة طبل شبري وغير ذلك من سائر أصناف الملاهي ووجد له هاون فضة وزنه سبعون رطلا.
فصل: فيما ورد للفضلاء في مدحهم قال الشيخ برهان الدين القيراطي:
أقول إذ حبس عود مطرب حسن
…
يريك يوسف في أنغام داودو
من حسن وجهك تضحى الأرض مشرقة
…
من بنانك يجري الماء في العود
وقال:
أطربنا العود إلى أن غدا
…
مقاصنا يرقص مع صحبه
فشمعه قام على ساقه
…
وكأسه دار على كعبه
الشيء بالشيء يذكر: أنشدني من لفظه لنفسه الشيخ تقي الدين بن حجة الحموي فسح الله في أجله من قصيدة حربية:
إن حبس عود الضرب مال سامعه
…
والخيل يرقصها إن حرس الوترا
وقتال الشيخ برهان الدين القراطي:
وشذا في أصفها
…
ن بالأغاني المطربات
مسمع غنا فأغنا
…
بصفات الحسن ذات
قلت إذ حرك عودا
…
عارفا بالنغمات
أنت مفتاح سرو
…
ري يا سعيد الحركات
وقال المرحوم فتح الدين بن الشهيد وقد أحضر له بدر الدين طائراً ينعى العواد بسفارة الحاجب توكل:
نهاري ليس كله بمنادم
…
على عودة تعرو الحشابا لتفرك
وكنت أراه طائرا عز مطلبا
…
ولكنني حصلته بتوكل
وأنشدني من لفظه لنفسه إجازة سيدنا ومولانا أقضى القضاة بدر الدين محمد المالكي المخزومي الشهير بالدماميني أسبغ الله ظلاله:
يا عزولي في مغن مطرب
…
حرك الأوتار لما سفرا
لم تهز العطف منه طربا
…
عندما يسمع منه وترا
وقال علاء الدين الوادعي في مغن يدعى الفصيح:
وليلة ما لها نظير
…
في الطيب لو ساعفت بطول
كم نوبة للفصيح فيها
…
أطرب من نوبة الخليل
وممن برع في الألحان وعلمها أبو عامر محمد بن الجمارة الغرناطي أشتهر عنه أنه كان يعمد إلى الشعر فيقطع العود بيده ثم يصنع منه عود الغناء وينظم الشعر ويلحنه ويغني به، ومن شعره قوله
إذا ظن وكرى مقتلي طائر الكرى
…
رأى هدبها فارتاع خوف الحبائل
ذكر هذا الأديب نور الدين علي بن سعد في كتابه المعرب في حلي المغرب.
وقال سيف الدين المشد:
ومطرب قد رأينا في أنامله
…
سبابة لسرور النفس أهلها
كأنه عاشق وافت حبيبته
…
فضمها بيديه ثم قبلها
وقال محي الدين بن قرناص:
مشبب بجفاه راح يقتلنا
…
فإن تداركنا بالنفخ أحيانا
هويت تشبيها من قبل رؤيته
…
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وقال محي الدين بن عبد الظاهر:
وناطقة بالروح عن أمر ربها
…
تعبر عما عندنا وتترجم
سكتنا وقال للقلوب فأطربت
…
فنحن سكوت والهوى يتكلم
وقال الشيخ بدر الدين ابن الصاحب:
أطربنا مشبب من غير جعل سأله
…
بأحسن موصول له لم يفتقر إلى صله
وظرف في قوله أيضاً وإن لم يكن في المعنى:
يا مهدي الاقصاب من سكر
…
صفرا حكى سمر القنا طولها
إياك أن تقطعها ساعة
…
فأطيب الاقصاب موصولها
ومن ذلك قول الشيخ جمال الدين بن نباتة:
أصغ لما قال أحور فهنا
…
وخل قبل اليوم ما قيلا
واسمع مقاطيعا لنا أطربت
…
فلا تقل إلا مواصيلا
وقال إبراهيم المعمار:
مشبب أبدى لنا
…
قولا بنغمته الشهيه
متعاتم فكأنه
…
متكلم بالفارسيه
وقال زين الدين بن عبد الله مضمنا:
ونائحة صفراء تنطق عن هوى
…
فتعرب عما في الضمير وتخبر
براها الهوى والوجد حتى أعادها
…
أنابيب في أجوافها الريح تصفر
وقال صلاح الدين الصفدي:
لي مطرب كملت جميع صفاته
…
متأدب الحركات والتسكين
فإذا دعاه لمجلس حرفاؤه
…
يأتي ويجلس فيه بالقانون
وقال صلاح الدين بن الشهيد:
غنى على القانون حتى غدا
…
من طرب يهتز عطف الجليس
فحنت الأرواح من شدوه
…
إلى أنيس يا له من أنيس
داوى قلوبا من غليل الأسى
…
وكان فيه حوله رسيس
فصاحت الجلاس عجابه
…
يا صاحب القانون أنت الرئيس
وقال الشيخ صلاح الدين الصفدي أنشدني القاضي جمال الدين عبد القاهرة التبريزي لنفسه ملغزا في الشبابة:
وناطقة بأفواه ثمان
…
تميل بعقل ذي اللب العفيف
لكل فم لسان مستعان
…
يخالف بين تقطيع الحروف
يخاطبنا بلفظ لا يعيه
…
سوى من كان ذا طبع لطيف
فصيحة عاشق ونديم راع
…
وعزه موكب ومدام صوف
وقال الشيخ علاء الدين علي بن أيبك من لفظه لنفسه في مغن معذر (توفي المذكور سنة إحدى وثمان مائة) :
منمم العارض غنى لنا
…
أشياء بالسمع حلا ذوقها
كأنما في فيه قمرية
…
تشدو ومن عارضه طوقها
نادرة: شهد على امرأة أربعة بالزنا وكان فيهم مغن فقال له الوالي بم تشهد قال أشهد أني رأيته قد رفع رجليها مثل البنجك وبحر حتى كأنه يغني وجعل مضرابه على التم وجعلت أسته ترقص ولا أدري أتم الصوت أم لا.
فصل: فيما ورد في ذم الغناء كتب البديع الهمذاني إلى تلميذ له توفي أبوه وخلف له مالاً مولاى ذلك المسموع من العود يسميه الجاهل نقرا ويسميه العاقل فقرا وذلك الخارج من الناي هو في الآذان زمر وغدا في الأبواب سمر والعمر مع هذه الآلات ساعة والقناطر في هذا العمل بضاعة.
وطلب بعض المغنيين حائزة من بعض المحصلين فقال له المملوك أعلم أن المال روح والغناء ريح ولست اشتري الريح بالروح.
ومما ورد من النظم في ذم المتحلفين من أهلها: حكى بعضهم أن بعض الفلاسفة خرج مع تلميذه فسمع صوت عود فقال لتلميذه امض بنا هذا المغنى لعله يفيدنا صورة شريفة فلما قربا منه سمعا رديئا وتأليفا غير متقن فقال لتلميذه تزعم أهل الكهانة والرجز أن صوت البومة على موت الإنسان فإن كان ذلك حقاً فصوت هذا يدل على موت البومة.
ولبعضهم يهجو مغنيا:
كنت في مجلس فقال مغن ال?
…
قوم كم بيننا وبين الشتاء
فشبرت البساط منى إليه
…
قلت هذا المقدار قبل الغناء
ولبعضهم يذم صوت مغن:
أنك لو أصغيت يوما إلى
…
الحانة تلك المقادير
لخلت في الحلق أمراء جالسا
…
يعرك أذان السنانير
ولآخر في المعنى قال:
أنك لو تسمع الحانة
…
تلك اللواتي ليس يعدوها
لخلت من داخل حلقومه
…
موسوسا يخنق معتوها
ولآخر:
ومغن أن تغني
…
أوسع الندمان هما
أحسن الفتيان حالا
…
كل من كان أصما
وقال المصيصى الخياط:
وإذا تربع لا تربع بعدها
…
وغدا يحرك عوده متقاعسا
فكأنه جرذان المدينة كلها
…
في عوده يقرضن خبزا يابسا
وقال آخر وأجاد:
قلت إذ غنى عراقا
…
ليتنا في أصفهاني
وقال آخر:
غنى أبو الفضل فقلنا له
…
سبحان مخليه من الفضل
غناؤه حد على شربه
…
فأشرب فأنت اليوم في حل
وقال آخر وأجاد:
ومغني يتغنى
…
أذهب اللذات عنا
فسألناه سكوتا
…
فأبي ذاك وغنى
فشتمناه فغنى
…
فاشتقي القواد منا
وقال آخر في مغن بالرباب:
لا تبعثوا بسوى المهذب جعفر
…
فالشيخ في كل الأمور مهذب
طورا يغني بالرباب وتارة
…
يأتي على يده الرباب وزينب
وقال سيف الدين المشد يهجو عوادا:
عواد قد طمست عينه
…
فصار بالتصحيف قوادا
ما كاد إلا لقيادته
…
لا لأجل ذا أصبح قوادا
قلت: وان كان حصل له عمى فأحسن.
وأنشدني المرحوم فخر الدين بن مكانس قال أنشدني من لفظه لنفسه صاحبنا شمس الدين محمد الواسطي يهجو عوادا وزامرا:
شبهت ذا العواد والزامر إذ
…
ضاقت علينا بهم المناهج
يعقوب يضرب وهو ساكت
…
وأرقم ينفخ وهو خارج
ولا بأس من إيراد نبذة من حكايات الحذاق في الغناء: قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي بعث إلى المأمون يوما وبين يديه ثماني عشرة مغنية تسع عن اليمين وتسع عن شماله وعنده إبراهيم بن المهدي فقال كيف تسمع يا إسحاق فقلت أسمع يا أمير المؤمنين خطأ فقال لإبراهيم ما تقول يا عم فيما قال؟ قال باطل ما ههنا خطأ ولكنه يريد أن يتزيد عندك فقلت له أتأذن لي أن أقفه على الخطأ وأناظره فيه قال نعم قلت على أنه سيدي وأنا عبده أو على الأنصاف قال بل على الأنصاف قلت يؤمرون الجواري أن يغنين الصوت الذي غنينه أولا فغنين ثم قلت له أفهمت الخطأ قال لا قلت فأني ألقي عنك النصف والخطأ في التسع البواقي اللواتي عن الجانب الأيسر قال فتفهم وقال ما أسمع خطأ قلت فأني أخفف عنك أيضاً هؤلاء الأربع الأواخر فاجتهد في التفهم وقال ما ههنا خطأ قلت فإنه في آخر الجواري كلهن فتفهم فلم يقف عليه فقلت للجارية أضربي وحدك وأمسكن البواقي وغنت فقلت ما ترى فقال بل الخطأ ههنا فقال المأمون أحسنت فيهم الخطأ بين أثنين وسبعين وترا ولم تفهمه أنت إلا من أربعة.
وقال أحمد بن المرزبان حدثني بعض كتاب السلطان أن الرشيد هب ليلة من نومه فدعا بحمار كان يركبه في القصر أسود فركبه وخرج في دراعة متلمثا بعمامة متلفحا بازار وشى وبين يديه أربعمائة خادم سود سوى الفراشين وكان مسرور العوغاني جريئا عليه لمكانة كانت له عنده فلما خرج من باب القصر قال له أين تريد يا أمير المؤمنين في هذه الساعة قال أردت منزل إبراهيم الموصلي قال مسرور فمضيت معه حتى انتهى إلى منزل الموصلي فخرج فتلقاه وقبل حافر حماره وقال له أمير المؤمنين أفي مثل هذه الساعة تظهر قال نعم شوق طرفك بي ثم نزل في طرف الإيوان وأجلس إبراهيم فقال إبراهيم يا سيدي أنبسط لشيء تأكله قال نعم (حاميرطي) فأتى به كأنما كان عنده معدا له فأصاب منه شيئاً يسيرا ثم دعا بشراب حمل معه فقال الموصلي يا سيدي أغنيك أم تغنيك إماؤك فقال بل الجواري فخرجن جواري إبراهيم فأخذن صدر الإيوان وجانبيه فقال أيضربن كلهن أم واحدة واحدة فقال بل يضربن اثنتان اثنتان وتغني واحدة واحدة ففعل ذلك حتى مر صدر الإيوان وأخذ جانبيه والرشيد يسمع ولا ينصت لشيء من غنائهن إلى أن غنته صبية من حاشية الصفة:
يا موري الزند قد أعيت قوادحه
…
اقبس إذا شئت من قلبي بمقياس
ما أقبح الناس في عيني وأسمجهم
…
إذا نظرت فلم أبصرك في الناس
قال فطرب لغنائها واستعاد الصوت مرارا وشرب أرطالاً وسأل الجارية عن صائغه فأمسكت فاستدناها فتقاعست فأمر بها فأقيمت بين يديه فأخبرته بشيء أسرته إليه فدعى بحماره فركبه وانصرف ثم التفت إلى إبراهيم وقال له ما ضرك إلا أن تكون خليقة فكادت نفسه تخرج حتى عاد بعد ذلك وأدناه قال وكان الذي أخبرته أن الصنعة في الصوت لأخته علية وكانت الجارية لها فوجهتها إلى إبراهيم يطارحها عنها لمكانته عندها قال قال لي الرشيد يا إبراهيم بكر حتى نصطبح فقلت أنا والصبح فرسي رهان نستبق إلى حضرتك فبكرت فإذا أنا خال وبين يديه جارية كأنها خوط بان أو جذل عنان حلوة المنظر فغنت في شعر لأبي نواس:
توهمه طرفي فأصبح خده
…
وفيه مكان الوهم من نظري أثر
ومر بفكري خاطر فخرجته
…
ولم أر جسما قط يجرحه الفكر
وصافحه كفى فا آلم كفه
…
فمن غمز كفى أنامله عقر
قال إبراهيم فذهبت والله بعقلي حتى كدت أفتضح فقلت من هذه يا أمير المؤمنين قال هذه الذي يقول فيها الشاعر: لها قلبي الغداة وقلبها لي
…
فنحن كذاك في جسدين روح ثم قال لها غني فغنت: تقول غداة البين إحدى نسائهم
…
لي الكبد الحر فسر ولك الصبر وقد خنقها عبرة فدموعها
…
على خدها بيض وفي نحرها صفر قال: فشرب وسقاها وقال غن يا إبراهيم فغنيت حسب ما في قلبي غير متحفظ من شيء:
تشرب قلبي حبها ومشى به
…
تمشي حمى الكأس في جسم شارب
ودب هواها في عظامي فشقها
…
كما دب في الملسوع سم العقارب
قال ففطن لتعريضي فكانت جهلة مني فأمرني بالانصراف ولم يدع بي شهرا ولا حضرت مجلسه فلما أن مضى شهر دس إليّ خادما معه رقعة مكتوب فيها:
قد تخوفت أن أموت من الوج?
…
د ولم يدر من هويت بما بي
يا كتابي أقرى السلام على من
…
لا يسمى وقل له يا كتابي
كف صب إليكم كتبتي
…
فارحموا كاتبي وردوا جوابي
إن كفا إليكم كتبتني
…
كفا صب فؤاده في العذاب
فأتاني الخادم بالرقعة فقلت ما هذه فقال رقعة الجارية التي غنتك بين يدي أمير المؤمنين فأحسست بالقصة فشتمت الخادم ووثبت عليه وضربته ضرباً شفيت به نفسي وغيظي وركبت إلى الرشيد من فوري فأخبرته بالقصة وأعطيته الرقعة فضحك حتى كاد يستلقي ثم قال على عمد فعلت ذلك بك لامتحن مذهبك وطريقتك ثم دعا بالخادم فلما رآني قال لي قطع الله يديك ورجليك ويلك قتلتني فقلت القتل والله كان بعض حقك ولكني رحمتك وأخبرت أمير المؤمنين حتى يأتي في عقوبتك بما تستحقه فأمر لي بصلة سنية والله يعلم أني ما فعلت ذلك عفافا لكن خوفا.
قلت: وقريب من هذه الحكاية ما نقلته من خط الشيخ بدر الدين البشتكي سلمه الله تعالى وهو أن الوزير أبا عامر أحمد بن مروان بن عبد الملك بن عمر بن عيسى بن محمد ابن شهيد كان أهدى له غلاماً من النصارى لا تقع العيون على شبهه فلمحه الناصر فقال أني لك هذا قال هو من عند الله فقال تحفونا بالنجوم وتستأثرون بالقمر فاستعذر واحتفل في هدية بعثها له مع الغلام وقال يا بني كن من جملة ما بعثت به لولا الضرورة ما سمحت بك نفسي وكتب معه:
أمولاى هذا البدر صار لافقكم
…
وللأفق أولى بالبدور من الأرض
أرضيكم بالنفس وهي نفيسة
…
ولم أرى قبلي من بمهجته يرض
فحسن ذلك عند الملك وأتحفه بمال جزيل وتمكنت عنده مكانته ثم أنه بعد ذلك أهديت ابليه جارية من أجمل نسء الدنيا فخاف أن ينمي ذلك إلى الناصر فيطلبها فتكون قضية الغلام فاحتفل في هدية أعظم من الأولى وبعثها معها أبيه وكتب له:
أمولاى هذي الشمس والبدر أولا
…
تقدم كيما يلتقي القمران
قران لعمري بالسعادة ناطق
…
فدم منهما في كوثر وجنان
فما لهما والله في الحسن ثالث
…
ولا لك ملك البرية ثان
فتضاعفت مكانته عليه ثم أن أحد الوشاة رفع للملك أنه بقى في نفسه من الغلام حرارة وأنه لا يزال يذكره حين تحركه الشمول ويقرع السن على تعذر الوصول فقال للواشي بذلك لا تحرك به لسانك وإلا طار رأسك وأعمل الملك الحيله في أن كتب على لسان الغلام رقعة منها يا مولاي تعلم أنك كنت لي على انفراد ولم أزل معك في نعيم وأنا وأن كنت عند الخليفة مشارك في المنزلة مجاوز ما يبدو من سطوة الملك فتحيل في استدعائي منه وبعثها له مع الغلام صغير السن وأوصاه أن يقول له هي من عند فلان وأن الملك لم يكلمه قط أن سأله عن ذلك فلما وقف أبو عامر على الرسالة واستخبر الخادم فعلم في سؤاله ما كان في نفسه من الغلام وما تكلم به في مجالس المدام وكتب على ظهر الرقعة ولم يزد حرفا: أمن بعد أحكام التجارب ينبغي
…
لدىّ سقوط العير في غابة الأسد وما أنا ممن يغلب الحب عقله
…
ولا جاهل ما يدعيه أولو الحسد فإن كنت روحي قد وهبتك طائعا
…
وكيف ترد الروح أن فارق الجسد فلما وقف الناصر على الجواب تعجب من فطنته ولم يعد إلى استماع واش به ودخل عليه بعد ذلك فقال له كيف خلصت من الشرك قال لأن عقلي بالهوى غير مشترك.
عن إسحاق عن أبيه قال استأذنت الرشيد أن يهب لي يوما ما أيام الجمعة لانبعث قيه بجواري وأخواني فأذن لي في يوم السبت وقال يوم أستثقله فأت فيه بما شئت قال فأقمت يوم السبت بمنزلي وتقدمت في إصلاح طعامي وشرابي بما احتجت إليه وأمرت بوابي بإغلاق الأبواب وتقدمت إليه في ألا يأذن لأحد على فبينما أنا في مجلس والحرم قد حففن بي يترددن بين يدي إذا أنا بشيخ ذي هيبة وجمال عليه خفان قصيران وقميصان ناعمان وعلى رأسه قلنسوة لاطية وبيده عكازة مقمعة بفضة وروايح الطيب تفوح منه حتى ملأت الدار والرواق فدخلني لدخوله على مع ما تقدمت به غيظ عظيم وهممت بطرد بوابي ومن يحجبني لأجله فسلم على أحسن سلام فرددت عليه وأمرته بالجلوس فجلس وأخذ بي في أحاديث الناس وأيام العرب وأشعارها حتى سكن ما بي من الغضب وظننت أن غلماني تحروا مسرتي بإدخال مثله لأدبه وظرفه فقلت له هل لك في الطعام فقال لا حاجة لي فيه فقلت هل لك في الشراب قال ذلك إليك فشربت رطلا فسقيته مثله فقال يا أبا إسحاق هل لك أن تغني لنا شيئاً فنسمع من صنعتك ما قد فقت به عند الخاص والعام فغاظني قوله ثم سهلت الأمر على نفسي وأخذت العود فحبسته ثم ضربت وغنيت فقال أحسنت يا إبراهيم فازددت غيظاً وقلت ما رضى بما فعله في دخوله بغير أذن واقتراحه عليّ أغنية حتى سماني ولم يجمل مخاطبتي ثم قال هل لك أن تزيدنا فندمت وأخذت العود وغنيت وتحفظت وقمت بما غنيته قياما تاما لقوله لي أكافئك فطرب وقال أحسنت يا سيدي وأوثق عددي ثم قال أتأذن لعبدك في الغناء فقلت شأنك واستضعفت عقله في أن يغني بحضرتي بعدما سمعه مني فأخذ العود وحبسه فوالله لقد خلت انه ينطق بلسان عربي واندفع يغني:
ولي كبد مقروحة من يبيعني
…
بها كبدا ليست بذات قروح
أراها على الناس لا يشترونها
…
ومن يشتري ذا علة بصحيح
أئن من الشوق الذي في جوانحي
…
أنين غصيص بالشراب جريح
قال إبراهيم فوالله لقد ظننت الحيطان والأبواب وكل ما في البيت يجيبه ويغني معه من حسن غنائه حتى خلت والله أني أسمع أعضائي وثيابي تجاوبه وبقيت مبهوتا لا أستطيع الكلام ولا الحركة لما خالط قلبي ثم غنى:
ألا يا حمامات اللوى عدن عودة
…
فإني إلى أصواتكن حزين
فعدن فلما عدن كدن يمتنني
…
وكدت بأسرار لهن أبين
دعون بترداد الهدير كأنما
…
شربن حميا أو بهن جنون
فلم ترعيني مثلهن حمائما
…
بكين ولم تدمع لهن عيون
فكاد عقلي أن يذهب طربا، ثم غنى شعرا ليزيد بن الطثرية
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
…
فقد زادني مسراك وجدا على وجد
أئن هتفت ورقاء في رونق الضحى
…
على غصن غض النبات من البرد
بكيت كما يبكي الحزين صبابة
…
وذبت من الحزن المبرح والجهد
وقد زعموا أن المحب إذا نأى
…
يمل وإن النأي يشفى من الجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا
على أن قرب الدار خير من البعد ثم قال إبراهيم هذا الغناء المأخوري خذه وانح نحوه في غنائك وعلمه جواريك فقلت أعده علىَّ فقال لست تحتاج قد أخذته وفرغت منه ثم غاب من بين عيني فارتعت وقمت إلى السيف فجردته ثم غدوت نحو أبواب الحرم فوجدتها مغلقة فقلت للجواري أي شيء سمعتن عندي فقال، سمعنا أحسن غناء ما سمع بمثله قط فخرجت متحيرا إلى باب 0الدار فوجته مغلقاً فسألت البواب عن الشيخ فقال أي شيخ والله ما دخل إليك اليوم أحد فرجعت لأتأمل أمري فإذا هو قد هتف من بعض جوانب البيت وقال لابأس عليك يا أبا إسحاق أنا إبليس وأنا كنت نديمك اليوم فلا ترع فركبت إلى الرشيد وأظرفته بالحديث فقال لي ويحك اعتبر الأصوات التي أخذتها فأخذت العود فإذا هي راسخة في صدري فطرب الرشيد عليها وجلس يشرب ولم يكن عزم على الشرب وأمر لي بصلة جزيلة قال وكأن الشيخ أعلم بما قال أنك قد أخذتها وفرغت منها فليته أمتعنا بنفسه يوماً واحداً كما أمتعك قال أبو الفرج الأصفهاني هكذا حدثتا ابن أبي الأزهر لهذا الخبر وما أدرى ما أقول فيهز عن المداينى قال، قال إبراهيم الموصلي قال لي الرشيد يوماً يا إبراهيم قد جعلت غدا للحرم وليلته للشرب مع الرجال واقتصرت من المغنين عليك فلا تشتعل غدا بشيء ولاتشرب نبيذاً وكن بحضرتي في وقت العشاء الآخرة فقلت السمع والطاعة لأامير المؤمنين فقال وحق أبي لئن تأخرت أو اعتللت بشيء لاضربن عنقك قلت نعم يا أمير المؤمنين وخرجت فما جاءني من أحد إلا احتجبت عنه ولاقرأت رقعةً لأحد حتى إذا صليت المغرب ركبت قاصداً إغغليه فلما قربت من داره مررت بفناء قصر وإذا زنبيل كبير مستوثقمنه بحبال وأربع عرى آدم قد دلى من القصر وجارية قائمة تنتظر إتساتاً قد وعد ليجلس فيه فنازعتني نفسي إلى الجلوس فيه ثم قلت هذا خطأ فلعله إن يجري سبب يعوقني عن الخليفة فيكون الهلاك فلم أزل أنازع نفسي حتى غلبتني فجلست في الزنبيل فرفع حتى صار في أعلى القصر ثم خرجت فنزلت فإذا جوار كأنهن أقمار جلوس فضحكن وطربن وقلن يا عدو الله ما أدخلك إغليتا فقلت يا عدوات الله الذي أردتن إدخاله خير مني ولم يزل ذلك دائراً وهن يضحكن وأضحك معهن فقالت إحداهن أما من أردتن فقد فات وما هذا إغغلا ظريف فهلمن نعاشره معاشرةً جميلة فأخرج إلى طعام ولم يكن في فضل إلا أني كرهت أن أنسب إغلى سوء العشرة فأصبت منه ثم جيء بالنبيذ وجعلت أشرب وأخرجن ثلاث جوار لهن فغنين غناءً حسناً فغنت أحداهن صوتاً لمعبدٍ فقالت إحدى الثلاث من وراء الستر أحسن إبراهيم هذا له فقلت كذبت هذا لمعبدٍ فقالت يا فاسق وما يدريك الغناء ما هو ثم غنت الأخرى صوتاً للغريض فقالت تلك أحسن إبراهيم هذا له أيضاً فقلت كذبت يا خبيثة هذا للغريض فقالت اللهم اخزه ويلك ما يدريك ثم غنت الجارية صوتاً لي فقالت تلك هذا لشريح وأحسن فقلت كذبت هذا لإبراهيم وأنت تنسبين غناء الناس إليه وغناؤه إليهم قفالت وما يدريك فقلت أنا إبراهيم فتباشرن بذلك وظهرن كلهن لي وقلن كتمنا نفسك وقد سررنا سروراً عظيماً فقلت أنا الآن أستودعكن الله فقلن وما السبب فأخبرتهن بقصتي مع الرشيد فضحكن وقلن الآن وقد طاب حبسك علينا إن خرجت أسبوعاً فقلت هو والله القتل فقلن إلى لعنة الله فأقمت والله عندهن أسبوعاً لا أزول فلما كان بعد أسبوع ودعنني وقلن لي إن سلمك الله فأنت بعد ثلاث أيام عندنا فقلت نعم فأجلسنني في الزنبيل وسرحت فمضيت لوجهي حتى أتيت دار الرشيد فإذا النداء قد أشيع ببغداد في طلبي وأن من أحضرني قد سوغ مالي وملكي فإستأذنت فتبادر الخدم حتى أدخلوني على الرشيد فلما رآني شتمني وقال: السيف والنطع إنك يا إبراهيم تشاغلت عني وجلست مع السفهاء أشباهك حتى أفسدت عن لذاتي فقلت يا أمير المؤمنين أنا بين يديك وما أمرت به غير فائت ولي حديث عجيب ما سمع بمثله وهو الذي قطعني عنك ضرورة لاختيار ناسمعه فإن كان عذراً فقبله هاته فحدثته فوجم ساعة ثم قال إن هذا لعجيب أفتحضرني معك قلت نعم وأجلسك معهن إن شئت قبلى حتى تحصل عندها وإن شئت فعلى موعد فقال بلى على موعد قلت أأفعل قال انظر قلت ذلك ذاك حاصل فلما أصبحت أمرني بالإنصراف وان أجيئه من عندهن فمضيت إليهن وقت الوعد فوجدت الزنبيل على حاله فجلست فيه ومدت الجواري وصعدت فلما رأينني
تباشرن بي وحمدن الله على سلامتي وأقمت ليلتي فلما أردت الإنصراف قلت إن لي أخاً هو عندي عدل نفسي وقد أحب معاشرتكن ووعدته بذلك فقلت إن كنت ترضاه فمرحباً بذلك فوعدتهن ليلة غد وانصرفت وأتيت الرشيد فأخبرته فلما كان الوقت خرج معي متخفيا وقد كان الله وفقني أن قلت لهن إذا جاء صديقي فاستترن عني وعنه ولم يسمع لكن لفظة وليكن ما تخترنه من الغناء أو تقلنه من قول مراسلة فلم يتعدين ذلك وأقمن على أتم ستر وخفر وشربنا كثيراً وقد كان أمرني ألا أخاطبه بأمير المؤمنين فلما أخذ النبيذ مني قلت سهواً يا أمير المؤمنين فتواثبن من وراء الستارة حتى غابت عنا حركاتهن فقال لي يا إبراهيم قد أفلت من أمر عظيم والله لو برزت لك واحدة منهن لضربت عنقك قم بنا فانصرفنا فإذا هن له وقد كان غضب عليهن فحبسهن في ذلك القصر ثم وجه منغد بخدم فردوهن إلى قصره ووهب له مائة ألف درهم وكانت الهدايا والألطاف تأتيني بعد ذلك منهن
حكاية: تناظرت المغنون يوما عند الواثق فذكروا الضراب وحذاقهم فقدم إسحاق ابن إبراهيم الموصلي ربربا على ملاحظ لملاحظ في ذلك الرياسة عليهم كلهم فقال الواثق هذا حيف وتعد منك فقال إسحاق يا أمير المؤمنين اجمع بينهما وامتحنهما فإن الأمر سيكتشف لك فيهما فأمر بهما فأحضر افقال له إسحاق للضرب أصواتاً معروفة فامتحنهما بشيء منها قال افعل فسمى ثلاثة أصوات كان أولها:
علق طيبة السكب جهلاً
…
فقد أغرى بتعذيبي
نمت عليها حين مرت بنا
…
محاسن ينفحن بالطيب
تصدها عنا عجوز لها
…
منكرة ذات أعاجيب
الشعر والغناء لإسحاق فضربا عليه نتقدم ربرب وقصر ملاحظ فعجب الواثق من كشفه عما ادعاه في مجلس واحد فقال ملاحظ فما باله يا أمير المؤمنين يحيلك على الناس ولا يضرب هو فقال يا أمير المؤمنين أنه لم يكن في زماني أضرب مني ولكنكم أعفيتموني من الضرب فثقلت على ومع ذلك أن معي بقية لا يتعلق بها أحد من هذه الطبقة ثم قال يا ملاحظ شوش عودك وهاته ففعل ملاحظ ذلك فقال إسحاق يا أمير المؤمنين هذا خلط الأوتار خلط متعنت وهو لا يألو افسادها ثم أخذ العود فحبسه ساعة حتى عرف مواقعه ثم قال يا مخارق عن أي صوت شئت فغنى مخارق صوتاً وضرب عليه إسحاق بذلك العود الفاسد التسوية فلم يخرجه من لحنه في موضع واحد حتى استوفاه عن نقرة واحدة ويده تصعد وتنحدر إلى الساتين فقال له الاثق والله ما رأيت مثلك قط ولا سمعت به الجوارى ولايصلح لهن البتة وإنما بلغني أن الفليهد ضرب بوماً بين يدى كسرى آثر وتر فأحسن فحسده رجل من حذاق أهل صناعته فرقبه حتى قام لبعض شأنه فخالفه إلى عوده فشوش بعض أوتاره فرجع وضرب وهو لا يدري والملوك لاتصلح في مجالسها العيدان فلم يزل يضرب بذلك العودحتى فرغ ثم قام على رجله وأخبر الملك بالقصة فامتحن العود فعرف ما فيه فقال له زهوزه ورهان زه ووصله بالصلة التي كان يصل بها من يخاطبه بهذه المخاطبة فلما تواطأت الروايات بهذا أخذت نفسي به وروتها عليه وقلت لا ينبغي أن يكون الفلهيد أقوى على هذامنى فما زلت أستنبطه بضع عشرة سنة حتى لم يبق في الأوتار موضع على طبقة من الطبقات إلا وأنا أعرف نغمته كيف هي والمواضع التي تخرج النغم كلها من أعاليها إلى أسافلها وكل شيء منها يجانس شيئاً غيره كما أعرف ذلك في مواضيع الدساتين وهذا شيىء لايفي به الجواري فقال له الواثق لعمري لقد ضدقت ولئن مت لتموين هذه الصناعة معك وأمر له بثلاثين ألف درهم.