الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غريبة: ذكرها الحافظ العلامة المؤرخ عماد الدين بن كشير في تاريخه في ترجمة الوليد ابن عبد الملك ورواها الحافظ ابن عساكر بإسناد رجاله كلهم ثقاب عن عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر عن أبيه قال خرج الوليد بن عبد الملك يوماً من الباب الأصغر فرأى رجلاً عند المأذنة الشرقية يأكل فوقف عليه فإذا هو يأكل خبزاً وتراباً فقال له ما يحملك على هذا قال القنوع يا أمير المؤمنين فذهب إلى مجلسه ثم استدعى به فقال إن لك لشأنا فأخبرني به وإلا ضربت الذي فيه عيناك فقال نعم يا أمير المؤمنين كنت رجلاً جمالاً فبنا أنا أسير من مرج الصفر قاصداً الكسوة إذا رزمني البول فعدلت إلى خربة لأبول فإذا سرب فحفرته فإذا مال صبيب فملأت منه غرائري ثن انطلقت أقود برواحلي وإذا بمخلاة فيها طعام فألقيته منها وقلت إني سآتي الكسوة ورجعت لاملأ تلك المخلاة فلم أهتد إلى المكان بعد الجهد في الطلب ثم رجعت إلى الرواحل فلم أجدها ولم أجد الطعام فآليت على نفسي أن لا آكل إلا خبزاً وتراباً قال فهل لك عيال قلت نعم ففرض لهم في بيت المال قال ابن جابر وبلغنا أن الرواحل سارت حتى أتت بين المال فتسلمها خازنه فوضعها في بيت المال.
الباب الحادي والثلاثون
في الوكيرة والأطعمة المشتهاة
الوكيرة طعام البناء كان الرجل إذا فرغ من بنائه بطعم أصحابه يتبرك بذلك قال النبي صلى الله عليه ولسم في أربع في عرس أو خرس أو أعذار أو توكير، قال الشاعر:
خير طعام تشهد العشيرة
…
الخرس والأعذار والوكيرة
قال الشيخ محي الدين النواوى رحمه الله في شرح مسلم في كتاب النكاح قال أصحابنا وغيرهم الضيافات ثمانية أنواع الوليمة للعرس والخرس بضم الخاء المعجمة للولادة وقيل فيه الخرص بالصاد المهملة أيضاً والأعذار بكسر الهمزة والعين المهملة والذال المعجمة للختان والوكيرة للبناء والنقيعة لقدوم المسافر يصنع الطعام وقيل يصنعه غيره والعقيقة يوم سابع الولادة والوضيمة بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة الطعام عند المصيبة والدبة بضم الدال المهملة الطعام المتخذ ضيافة بلا سبب، قال صاحب زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة ولما تكامل بناء القصر الأبلق الذي أنشأه السلطان الملك الناصر لسكناه بقلعة الجبل المحروسة عمل وليمة عظيمة حضرها الغني والفقير من كبير وصغير وخلع على الأمراء التشاريف على قدر مراتبهم وانعم عليهم بالبذل من الموال وكانت عدة الخلع التي خلعت ألفي خلعة وخمسمائة والمال المطلق مائة ألف دينار من العين المصري وذلك سنة أربع عشرة وسبعمائة، وقرأت في بعض المجاميع الأدبية أن الفتح بن أبي حصينة المغربي رحمه الله امتدح نصر بن صالح بحلب فقال له تمن فقال أتمنى أن أكون أميراً فجعله بحلب مع الأمراء ويخاطب بالأمير وقربه وصار يحضر في مجلسه في جملة المراء ثم وهبه أرضاً بحلب قبلى حمام الواساني فعمرها داراً وزخرفها وقرتصها وتمم بنياتها وكمل زخارفها ونقش على دائر الدرابزين:
دار بنيناها وعشنا بها
…
في نعمة من آل مرداس
قوم محوا بؤسى ولم يتركوا
…
عليّ للأيام من باس
قل لبني الدنيا ألا هكذا
…
فليصنع الناس مع الناس
قال فلما انتهى العمل بالدار عمل دعوة وأحضر نصر بن صالح بن مرداس فلما أكل الطعام رأى الدار وحسنها وحسن بنيانها ونقوشها ورأى الأبيات وقرأها قال يا أمير كم خسرت على هذه الدار فقال والله يا مولاي ما للملوك علم بل هذا الرجل وليّ عمارتها فلما حضر المعمار قال كم لحقكم غرامة على بناء هذه الدار فقال المعمار غرمنا ألفي دينار مصرية فأحضر من ساعته ألفي دينار مصرية وثوباً أطلس وعمامة مذهبة وحصاناً بطوق ذهب وسرج ذهب ودفع ذلك جميعه إلى الأمير أبي الفتح وقال له:
قل لبني الدنيا ألا هكذا
…
فليصنع الناس مع الناس
قلت: وما أحسن ما ضمن هذا البيت سيدي القاضي شهاب الدين بن حجر يمدح سيدنا ومولانا بدر الدين محمد بن الدمانيني المالكي رحمهما الله:
نسيت أن امدح بدر العلي
…
فلم يدع برى وإيناس
قل لبني الدنيا ألا هكذا
…
فليصنع الناس مع الناس
حكى أن ابن البطريق اسمه على حضر عند ابن السراج بن الجبلي ناظر دار الضرب والجيش في بغداد في وليمة عملها لأجل دار عمرها فلما خرج من عنده اجتمع بالوزير نصير الدين احمد بن الناقدي فسأله أين كنت قال في وليمة ابن الجبلي فقال الوزير قيل لي إن داره مليحة فقال نعم وقد علمت فيها:
دار السراج مليحة
…
فيها تصاوير بمكنه
تحكى كتاب كليلة
…
فمتى أراها وهي دمنة
الدعوات المشهورة دخول عبد اله بن المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وكانت النفقة في يوم ملاكها وعرسها، قال ابن عبدوس في سنة عشرة وما بين ثمانية وثلاثين ألف ألف درهم وقيل خمسين ألف ألف درهم وكان يجري في كل يوم في جملة الجرايات على وكساه وأقطعه فم الصلح وكانت عليه ثمانين ألف دينار في السنة وبلغت نفقة أبيها في هذه الوليمة أربعين ألف ألف درهم وبلغت نفقة الحسن بن سهل على قواد المأمون وحملتهم فأوصلهم وخلع على الخاصة خلعا قيمتها سبعون ألف ألف درهم وجليت بوران على المأمون وقد فرش لها حصير من الذهب وجاءت جدة بوران بمكيل من الذهب مرصع بالدر والجوهر فيه در كبار فنثر على من حضر من النساء وفيهن أم جعفر وحمدونة بنت الرشيد وغيرهما فلم يمسسن منه شيئاً فقال المأمون شرفن أم محمد وأكرمنها فمدت كل واحدة يدها وأخذت حبة وبقى سائر الدر يتدحرج على حصير الذهب فقال المأمون قاتل الله ابن هانئ رأى ما نحن فيه حيث قال:
وكأن صغرى وكبرى من فواقعها
…
حصباء در على أرض من الذهب
ونثرت أم الفضل بن سهل جدة مروان عليها يوم دخل بها المأمون ألف درهم في صينية ذهب وأوقد في تلك الليلة على المأمون شمعة عنبر وزنها أربعون منا ونثر في ملاكها كل شيء له قدر من الكراع والرقيق والكسى والصياغات والطيب والضياع والعقار والجواهر والدنانير والدراهم وكانت أسماء كل هذا مثبتة في رقاع وتلقى فمن التقط رقعة مضي إلى الخازن الذي لذلك الصنف فأخذه منه وكان للحسن بن سهل أربعون بغلا مرتبة لحمل الحطب تصرف كل يوم عدة دفعات أقامت تنقل سنة كاملة ولم يكفهم حتى قطعوا سعف النخل رطبا وصبوا عليه الدهن والزيت وأوقدوه.
وحكى: القاضي شهاب الدين بن فضل الله العمري في كتابه مسالك الأبصار في ممالك الأبصار في ممالك الأمصار في ترجمة الأمر بأحكام الله أبى على المنصور في المجلد الرابع والعشرون منه أن الأمر باله بينا هو في موكبه قبلى بركة الحبش إذ تقدمهم فمر برجل على باب بستان له وحوله عبيد وموال له فاستسقاه ماء فسقاه فلما شرب قال يا أمير المؤمنين قد أطعمتني في السؤال فإن رأى أن يكرمني بنزوله لأضيفه فقال ويحك معي الموكب فقال وأولئك يا أمير المؤمنين فنزل فأخرج الرجل مائة بساط ومائة نطع ومائة وسادة ومائة طبق فاكهة ومائة جام حلوى ومائة زبدية أشربة سكرية كلها فبهت المر وقال أيها الرجل خبرك عجيب فهل علمت بهذا فأعددت له فقال لا والله يا أمير المؤمنين وإنما أنا رجل تاجر من رعيتك لي مائة خطية فلما أكرمني أمير المؤمنين بنزوله عندي أخذت من كل واحدة شيئاً من فرشها وبعض أكلها وشربها ولكل واحدة في كل يوم طبق فاكهة وطبق طعام وطبق بوارد وجام حلوى وزبدية شراب فسجد الأمر شكراً لله وقال الحمد لله الذي جعل في رعايانا من يسع حاله هذا ثم أمر له بما في بين المال من الدراهم ضرب تلك السنة فكان ثلاثة آلاف ألف وسبعمائة ألف ثم لم يركب حتى أحضرها وأعطاها للرجل وقال استعن بهذه على حالك ومرءوتك ثم ركب وانصرف، ولما زوج الحجاج محمد بن الحجاج قال لأصنعن طعاماً لم يسبقني إليه الأولون ولا يدركه الآخرون فقيل له لو بعثت إلى المدائن فسألت كيف صنع كسرى فتعمل على مثال ذلك فأرسل إلى بعض من أدرك ذلك فقال أخبرني عن الطعام الذي صنعه كسرى فقال ما أكثر ما كان يصنعه من الطيبات قال أطيبه قال حين تزوج هند ابنة بهرام كتب إلى عماله في الآفاق ليقدم على كل رجل منكم ويخلف وإلى شرطته على بلده فرأى عنده أثنى عشر ألفاً فأطعمهم في ثلاثة أيام كل يوم ألف خوان يقعدون على بسط الديباج المنسوجة بالذهب وكلما أكلوا أتى كل واحد منهم بمثقال مسك فيغسل يده به فلما قاموا بعث بتلك الآنية والبسط فقسمت عليهم فقال الحجاج أفسدت على لعنك الله أذهبوا فاشتروا الجزر فانحروها في مربعات واسط وكان قد أمر بالنداء بالحضور فحضرها الناس وذلك في أشد الحر وكثرة الذباب فاستغنى أهل الدعوة عن المراوح ولم يجدوا ذبابة واحدة وكان قد عمد إلى المرافق التي في المجالس فنصب فيها أحجار الثلج وكانت الريح تفضى إليها من باذهنجات فيخرج نسيمها إلى المجالس والصحون وسئل عن عدم الذباب فقيل إنه اشترى قبل الدعوة من دور الجيران ما يمكن سرؤاه واستعار الباقي وطلي حيطانها بعسل قصب السكر فاشتغل الذباب به وانقطع عن داره فلما انقضت أيام الدهوة ردت جميع الدور إلى أربابها.
وعلى ذكر الذباب فلا بأس بايراد نكتة غريبة وموعظة عجيبة وهي أن الحاكم الذي كان خليفة بمصر وادعى انه من ولد فاطمة (وبنى المسجد الجامع بالقاهرة المعزية المجاور لباب الفتوح فسد حاله في آخر أمره وادعى الإلهية وكتب بسم الحاكم الرحمن الرحيم وجميع الناس للإيمان به وبذل لهم نفائس الأموال وغن ذلك كان في فصل الصيف والذباب يتراكم على الحاكم والخدام تدفع الذباب ولا يندفع فقرأ بعض القراء وكان حسن الصوت (يأبها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وغن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا لله حق قدره) فاضطرب الحاضرون بسماع هذه الآية حتى كان الله تعالى أنزلها تكذيبا للحاكم في دعوى الإلهية وسقط الحاكم من على سريره خوفاً من أن يقتل وولي هاربا وأخذ في استجلاب ذلك الرجل إلى أن طمنه وسيره في صورة رسول إلى بعض الجزائر وأمر الريان أن لا يسير به غير ثلاثة أيام ويغرقه فلما غرق رئى في المنام فقيل له ما وجدت فقال ما قصر معي الريان أرسى بي على باب الجنة.
رجوع: ومن المهم الملوكية والنخوة العربية والنفس الأدبية ما ذكره الثعالبي في كتبه لطائف المعارف عن جميلة بنت ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن عبد اله بن حمدان أنها حجت سنة ست وستين وثلاثمائة فصار عام حجها مثلاً وتاريخا وذلك أنها أقامت من المروءة وفرقت الأموال وأظهرت من المحاسن ونشرت من المكارم مالا يوصف بعضه عن زبيدة وغيرها من حاجات بين الخلافة والملك ولا عن الخلفاء والملوك والحاجين وهو ما ذكره الثقاب أنها سقت جميع أهل الموسم السويق بالكسر الطبرزد والثلج وكانت استصبحت البقول المزروعة في مراكز الخزف على الجمال فضلاً عما سواها وأعدت خمسمائة راحلة للمنقطعين من رجالة الحاج ونثرت على الكعبة عشرة آلاف دينار واستصبحت فيها شموع العنبر في مدة أقامتها بمكة وأعتقت ثلثمائة عبد ومائتي أمة وأغنت المجاورين بالصلات الجزيلة وخلعت على طبقات الناس خمسين ألف ثوب وكان معها أربعمائة عمارية لا يدري في أيتها هي ومن قصتها أنها لما رجعت إلى بلدها الموصل وضرب الدهر ضرباته فكان من استيلاء عضد الدولة فناخسرو على أموالها وحصونها وممالك أهل بيتها ما كان حتى أفضت بها الحال إلى كل قلة ذل وتكشفت عن فقر مدقع وكان فناخسرو خطبها لنفسه فامتنعت من أجابته ترفعا عنه فاحتقدها عليها وحين وقعت في يده تشفى بها وما زال يعسف بها في المطالبة حتى عراها وهتكها ثم ألزمها أحد أمرين أما أن تصحح ما بقته ووقف عليها من المال وأما أن تختلف إلى دار القحاب فتكتسب فيها ما تؤديه من مال مصادرتها فلما ضاق بها الأمر وأشرفت على الفضيحة انتهزت فرصة من غفلة المتوكلين بها وغرقت نفسها في دجلة رحمها الله تعالى ولا آخذها.
ومن ظريف الأخبار أن زوجة المحسن بن الفرات أرادت أعذار ابنها بعد قتل أبيه فتعذرت عليها النفقة فرأت المحسن في منامها فذكرت له ذلك فقال أن لي وديعة عند فلان الدين عشرة آلاف دينار فانتبهت وأخبرت بالقصة فسألوا الرجل فاعترف بها وحمل المال إليها، واتخذ) الحجاج وليمة اجتهد فيها واحتشد ثم قال لزاذان فروخ هل عمل كسرى مثلها فاستعفاه فأقسم عليه فقال أو لم عبد عبد كسرى فأقام على رءوس الناس ألف وصيفة في يد كل واحدة إبريق من ذهب فقال الحجاج أف والله ما تركت فارس لمن بعدها شرفا.
قلت: ذكرت بقوله أو لم ما أنشدنيه من لفظه لنفسه سيدي المقر المجدي ابن مكانس:
قال خلى لحبيبي صل فتى
…
فيك قد أضحى مغنى مغرما
قال هل يولم أن وأصلته
…
قال أن فاز بثغر أولما
وأول من ضيف الضيف وأطعم المسكين وقص شاربه وقلم أظفاره وأستحد واستاك ورأى الشيب وفرق شعرع وتمضمض وأستنثر واستنجى بالماء وأختتن بالقدوم ولبس إبراهيم وأسس المحجوج أي بنى أساس البيت الحرام خليل الله ونبيه ورسوله أبونا إبراهيم الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام قيل ما خلا مضيفه إلى يومنا هذا من ضيف قط وقيل له صلى الله عليه وسلم بما اتخذك الله خليلا قال بثلاث: ما خيرت بين شيئين إلا اخترت الذي لله على غيره وما اهتممت بما تكفل الله لي به ولا تعشيت إلا مع ضيف، ما أحسن قول صفوان بن أدريس فيمن اسمع إبراهيم:
اسمي من سن القرى رفقا بمن
…
يغنى عليك صبابة وغراما
أنا ضيف حبك فاصطنعنى أنه
…
ضيف الهوى يستوجب الإكراما
أفنيت جسم الصب شوقا مثل ما
…
أفنى سميك قبلك الأصناما
حتى كان الحب قال لاضلعى
…
يا نار بردا له وسلاما
وكان الحسن بن قحطبة مضيافا له مطبخان في كل مطبخ سبعمائة تنور هكذا نقل عنه الزمخشري، وحدث عمر بن شيبة قال كان الحجاج يطعم في كل يوم على ألف مائدة على كل مائدة سمكة مشوية سمينة وجنب مشوي وساقيان يسقى أحدهما اللبن والآخر العسل وكان يطاف به على كرسي فيقول يا أهل الشام مزقوا الخبز الرقيق كيلا يعاد عليكم، وقال الجاحظ كان كسرى ينصب في كل يوم ألف مائدة على كل مائدة فخذ حمار وحش وبيضة نعامة ومن سائر الأصناف التي توجد في البر والبحر والسهل والجبل حتى لا تخلو الموائد من سائر الأطعمة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب الوليمة ويجيب دعوة العبد والحر ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب ويكافئ عليها ولا يتأنق في مأكل ويعصب على بطنه الحجر من الجوع وآتاه الله مفاتيح كنوز الأرض فلم يقبلها واختار الآخرة وأكل الخبز بالخل وقال نعم الأدم الخل واكل الدجاج ولحم الحبارى وكان يأكل ما وجده ولا يرد ما حضر ولا يتكلف ما لم يحضر ولا يتورع من مطعم حلال إن وجد تمرا دون خبز أكله وإن وجد شواء أكله وإن وجد خبز بر أو شعير أكله ولا يأكل متكئا ولا على خوان لم يشبع من خبز بر ثلاثاً اتباعاً قط حتى لقى الله عز وجل إيثاراً على نفسه لا فقرا ولا بخلا وكان يحب الذراع من الشاة والدباء واكل خبز الشعير بالتمر والبطيخ بالرطب والقثاء بالرطب والتمر بالزبد وكان يحب الحلوى والعسل وكان يشرب قاعدا وربما شرب قائماً وتنفس ثلاثاً مثنيا للإناء ويبدأ بمن عن يمينه إذا سقاه ويشرب لبناً وقال من أطعمة الله طعاماً فليقل اللهم بارك لنا فيه وأرزقنا خيراً منه ومن سقاه لبناً فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه وإذا رفع الطعام من بين يديه قال الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وآوانا وجعلنا مسلمين وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقهن قال بعض الكرماء من ألطاف الله تعالى بالكريم أنه يسامح المسافر بالفطر في رمضان فلولا ذلك لخجل الكريم إذ يمر عليه ضيف فيعتذر من أكل طعامه بالصوم وأين هذا من قول بعض البخلاء وقد سئل ما الفرج بعد الشدة فقال أن تدعو الضيف فيعتذر بالصوم، وكان معن بن زائدة إذا أراد أحد من غلمانه أن يرضى عليه بعد الغضب الشديد بادر إلى شيء من طعامه فوضعه في فيه بحضوره، ووقفت في أخبار عمارة الشاعر اليمنى قال كنت هجوت ابن دخان وهو يومئذ صاحب ديوان الدست فشكاني إلى السلطان شاور فأعرض عنه ثم شكاني ثانية فأعرض عنه ثم شكاني ثالثة فالتفت إليه وهو محرج وقال له ما تستحى من أن تشتكى إلى رجلاً يأكل معي على طعامي في يوم وليلة قال عمارة فلم أشعر إلا وقد حضر ابن دخا إلى داري ليلا وحمل إلى دابتي إلا آخر السنة، وحكى بعضهم قال كنا عند الشيخ الزاهد الورع أبي العباس بن تامتيت نفع الله به فقدم لنا طعاماً فأكلنا فقال بعض الجماعة يا سيدي قد أسأنا الأدب وأكلنا بغير أذن فقال الشيخ فإذن لا ترفع يدك إلا بإذن.
نادرة: قيل نزل ضيف على بخيل في ليلة وكان جائعاً فقدم له طعاماً فأتى على آخره ولم يغادر منه شيئاً فحلف البخيل أن لا يبيت الضيف عنده فقال الضيف يا أخي أصبر عليّ إلى الفجر فقال لا وليال عشر فقال أما سمعت أن الضيافة ثلاث فقال البخيل لا وحق الواحد لا يبيت عندي ثلاثاً من يأكل بالخمس ولو كان له فضل من أوتى تسع آيات بينات وحسن من سجد له أحد عشر كوكباً فخرج الضيف وقال كيف جمع زوج الثكلى هذه الأفراد على الترتيب، كان لعبد الله بن جذعان جفنة يأكل منها الطعام القائم والراكب فوقع صبي فيها فغرق فمات، وذكر أن عطية بن صالح مرداس طبخ في بعض ولائمه تسعمائة خروف مصرية سوى ما طبخ من الألوان، قال علي بن الإعرابي قال الحجاج لرجل يوماً وهو على خوانه وكان عليلاً أرفق بيدك فأجابه على الفور وأنت يا حجاج فاغضض بصرك فقال له إن هذا الجواب المسكت، إعرابي مما يزيد في طيب الطعام مؤاكلة الكريم الودود حث رجل رجلاً على الكل من طعامه فقال عليك بتقريب الطعام وعلينا تأديب الأجسام، وقال علي كرم الله وجهه إذا طرقك أخوانك فلا تدخر عنهم ما في المنزل ولا تكلف ما وراء الباب وإذا طرقت فما حضر وإذا دعوت فلا تذر.
قيل لحكيم أي الأوقات أحمد للأكل قال أما من قدر فإذا اشتهى وأما من لم يقدر فإذا وجد، وقال جعفر بن محمد تبين محبة الرجل لأخيه بجودة أكله في منزله.
نزل الشافعي بمالك (نازلاً بالزعفراني ببغداد فكان يرقم كل يوم في رقعة ما يطبخ من الألوان ويدفعها إلى الجارية فأخذها الشافعي يوماً وألحق لونا آخر فعرف ذلك الزعفراني فأعتق الجارية سروراً بذلك.
نادرة: روى عن أبي العباس المبرد فقال ضاف رجل قوماً فكر هوه فقال الرجل لامرأته كيف لنا أن يعلم مقدار مقامه عندنا فقالت الق بيننا شراً حتى نتحاكم إليه ففعلاً وقالت المرأة بالذي يبارك لك في غدوك غدا أينا أظلم فقال والذي يبارك لي في مقامي عندكم شهراً ما أعلم، قيل ويقبح على الكريم أن يغتاظ على غلمانه بحضور ضيوفه وكذلك إذا أبطأ طباخه بالطعام.
حكى أب بعض قواد طولون حضر سماطه يوماً وعليه قباء منزل بفضة فجاء بعض غلمانه عجلا فانكب على القباء من الطعام فما ظن أحد منا انه يجيبه ففهم تخوف الغلام وانقباض الجماعة فرفع طرفه إلى الغلام وقال يا شيطان قد فهمت غرضك لاشك أنك استحسنت القباء أذهب به فهو لك فسر الغلام وجميع من حضر.
نادرة: قيل لبنان الطفيلي كم عدد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال ثلثمائة وثلاثة عشر رغيفاً وكان نقش خاتمه ما لكم لا تأكلون، ونظر طفيلي إلى قوم ذاهبين فلم يشك أنهم يذهبون إلى وليمة فقام وتبعهم وإذا هم شعراء قد قصدوا دار السلطان بمدايح لهم فلما أنشد كل واحد منهم شعره واخذ جائزته لم يبق إلا الطفيلي وهو جالس ساكت فقيل له أنشد أنت فقال لست شاعراً قيل فمن أنت قال من الغاوين الذين قال الله تعالى فيهم (والشعراء يتبعهم الغاوون) فضحك السلطان وأمر له بمثل جائزة الشعراء، كان مسلم بن قتيبة لا يجلس لحوايج الناس حتى يشبع من الطيب من الطعام ويروى من بارد الماء ويقول إن الجائع ضيق الصدر فقير النفس والشبعان متسع الصدر عني النفس، وقال ابن الإعرابي كان المحسن الضبي في الشرف من العطاء وكان دميما فقال له زياد مني فضحك وأمر له بأربعة آلاف دينار، وكتب كسرى أنوشروان بالؤلؤ على مائدة من الذهب لهينه طعام من أكله من حلة وجاد على ذوي الحاجة من فضله ما أكلته وأنت تشتهيه فقد أكلته وما أكلته وأنت لا تشتهيه فقد أكلك.
نادرة: حكى الهيثم بن عدي قال ماشيت أبا حنيفة في نفر من أصحابه إلى عيادة مريض من أهل الكوفة وكان مبخلاً وتواصينا على أنا نعرض بالغداء فلما دخلنا وقضينا حق العيادة قال أحدنا (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع) وقال آخر (وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام) وقال آخر: (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) قال فتمطي المريض وقال (ليس على الضعفاء ولا على المريض ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) فغمز أبو حنيفة أصحابه وقال قوموا فما لكم هنا من فرج.
كان بعض مفاليس الكتاب في دعوة فلما أخذت الكأس منه قال انتم عندي غداً فلما أصبح حدثه غلامه ما بدا منه فسقط في يده وأخذ يعنف غلامه كيف لم ينبههم على أفلاسه وسوء حاله والغلام يعتذر عن ذلك بإشفاقه من عربدته لو اطلعتم على ذلك إذ دق القوم الباب فقال لغلامه على بالدواة والقرطاس وكتب إليهم (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما انتم بمصرخي) فلما قرءوا رقعته عرفوا عذره وتفرقوا عنه.
نادرة أيضاً: قيل تغذى رجل مع بعض الرؤساء فقدم إليه جديا فجعل يمعن فيه فقال له الرئيس إنك لتمزقه حتى كان أباه نطحك فقال له وأنت تشفق عليه حتى كان أمه قد أرضعتك فخجل وانقطع، عمر بن هبيرة عليكم بمباكرة الغداء فغن في مباكرته ثلاث خصال يطيب النكهة ويطئ المرة ويعين على المروءة قبل ما أعانته على المروءة قال أن لا تتوق النفس إلى طعام غيرك.
فصل: في الأطعمة المشهورة ومضارها ومنافعها: السكباج: حارة معتدلة الرطوبة تنفع الكبد الصفراوية وتولد دماً صالحاً وتقوى الشهوة وتحبس البطن وهي بلحم البقر نافعة لمن يتحدر إلى معدته مرارة كثيرة وقال بعضهم السكباج في البطيخ بمنزلة الفالوذج في الحلوى وقال الصولى كان بعض الصوفية يقول أول من عمل السكباج آدم ولذلك استوى في استطابتها ملوك ولده وسوقتهم وكنيتها أم القرى لن طعامها من أجل الأطعمة وأم الشيء معظمة وجليلة وأم القرآن الحمد وأم القرى مكة وأم الشيء أجله.
المدققات: حارة رطبة مخصبة للبدن تولد معتدلاً لا يحتاج لمن ضاق عليه الاستغراق بالجماع وعرض له من الأحداث النفسانية ما بلبل الهضم كالهم والفزع والغم لن جوهر اللحم أنحل أكثره في المرق ولهذا الحال يخف على الهضم وهي من أطعمة المخمور صالحة لهم جداً.
الرخية: حارة رطبة تزيد في الباءة تولد غداء كثير وهي مضرة بالصفراء مكروهة لمن يعتاده الغشيان ولأصحاب المعدة لتعطينها وأكلها مع الحوامض صالح وهو غذاء شهي موافق لأهل الرياضة والقوة وكثرة البيض فيها صالحة وهي من الألوان المأثورة الموصوفة.
الجزورية: حارة رطبة تحرك الباءة وتدر البول وأصلح ما كانت باللحم السمين والخل والمري والخردل.
ابن سكرة الهاشمي في جزورية:
أكلت بالأمس جزورية
…
تخبر عن خمسة أربابها
اللحم فيها أثر دارس
…
كأنما مرّ على بابها
الحصرمية: باردة يابسة وأجودها ما عمل بالماء العتيق العذب والذي يعمل بالحصرم الطري يولد رياحاً بالمعدة لنه فجة لم تنضج ويختار فيها استعمال اللون المر لتعديل يبسها وتحسين منظرها.
السماقية: باردة يابسة أيضاً.
الرمانية: كذلك ولعا فعل في تقوية المعدة وينفعان من نزف الدم ومن أحل تعديل الطبع فيهما الاسفاناخ والسلق.
التفاحية والريباسية: أيضاً متناسبان في البرد واليبس نافعان لأصحاب المزاج الصفراوي والأكباد الحارة والمعدة الضعيفة يكرهان لأصحاب القولنج وهما مضرتان بالعصب والمفاصل والمنى والباءة.
الزيرباج: معتدلة الحرارة نافعة الكبد دماً معتدلاً وهي مسكنة لحدة الأخلاط مفرحة لقلب وللناس فيها مذاهب وأحمدها السهلة المائعة الورسية وبعضهم يختارها ردعية بالزعفران خثرة جداً وبعضهم يتخيرها سادجة بيضاء وهذه أقل حرارة.
المضيرة: باردة معتدلة الرطوبة قامعة للصفراء تولد غداء بلغمياً واستعمال حلوى العسل بعدها صالح وهي من الألوان المستحبة المأثورة ويختار عملها بالفراخ الجليلة فإنها أوفق لها من سائر اللحمان وللبصل فيها معنى خلاف سائر الطبيخ وكان بشار بن برد الأعمى يقول فيها: ما أظن في الطعام أطيب من بصلة مضيرة لأني ما سبقت البصر إليها قط ولا هم يؤثروني بها ويستحب تقديمها في الصحون الرزق أو ما شاكلها وتكره لها الصحون البيض ويراه بعضهم قبيحاً ويعده من سوء الاختيار وكان أبو هريرة ة (تعجبه المضيرة جداً فيأكلها مع معاوية فإذا حضرت الصلاة صلى خلف علي كرم الله وجهه فإذا قيل له في ذلك شيء قال مضيرة معاوية أدسم والصلاة خلف علي أفضل فقيل له شيخ المضيرة.
حكى ابن شكلة الكاتب صردر امتنع من حمل ما طلب منه واحتمل غليظ المكروه وكان يؤتى بطبق فيه طعام فرأى يوماً مضيرة في صحن أبيض هذا ما لا يكون أبداً.
القلايا: حارة معتدلة اليبس تختار للذين في معدتهم البلاغم لا سيما إذا عملت بالبازير الحارة وهي باعثة للشهوة مهيجة لذوي النهمة.
المهلبية: أول من اتخذها بنو المهلب فنسبت إليهم وهي من الألوان المستحسنة المستلذة تنفع لحفظ الصحة واحمدها منفعة السلسلة والانعقاد بالدجاج الحديث السمان والعسل الخالص الذهبي والسكر النقي وهي معتدلة الحرارة والرطوبة تغدو غداء صالحاً إلا أنها مضرة بالصفراء وتدفع مضرتها بالحصرمية منه قبلها.
الأرز باللبن: قال محمد بن خرد كان كثير من رؤساء العراق يقدمون في أول الطعام الأرز باللبن والسكر المنخول ثم يتبعونه ما شاءوا إيثارا له على غيره وكان الحسن ابن سهل يفضله على كثير من المطعم ميلا إلى رأى المأمون فيه وقال له أنه يزيد في العمر يا أمير المؤمنين قال من أين قلت هذا قلت لأن الأطباء زعموا أن الأرز يولد أحلاماً صحيحة فإذا صحت الأحلام فهي من زيادة النوم على اليقظة لن النوم موت واليقظة حياة.
الشوى: قال أبو عبيد العرب تقول الشوى رئيس الطعام قال ومر الفرزدق بالأخوص فقال له اقترح يا أبا فراس فقال شوى وطلي وإنا فقال ادخل فقد أعد لك، والشوى حار رطب وأجوده المشوى على اسهل مثل شي الرءوس فإن ذلك يكسبه فضل ترطيب ونضاج ويلطفه.
الكباب: بفتح الكاف وهو اللحم المشروح وأجوده ما شرح اللحم شريحاً خفيفاً ونثر عليه الملح ونصب له مقلى على النار بلا دسم وطرح عليه وقلب من جنب إلى جنب حتى ينضج ويحمر هذا هو الكباب الخالص بعينه وهو الذي كان يعمل ليحيى بن خالد ولولده وفيه يقول أبو الفتح البستى:
عليك إذا أنجاب الدجى بكباب
…
وعقبه مرتاحاً بكأس شراب
فلم يفتح الأقوام بابا إلى المنى
…
كباب شراب أو كباب كباب
الخخيطية: تخصب الجسم وتغذوه وتزيد في الباءة.
الكشك: قال جالينوس أبوان كريمان انتجا لئيما.
الططماج: عسر الهضم من اجل أنه من خبز فطير فهو يزلق في المعدة وإصلاحه بالثوم ويؤكل معه النعنع ويشرب نبيذاً صرفاً قوياً وعسلاً مطبوخاً بأفواه إلا أن يكون محروراً فلا يحتاج إلى ذلك.
الملوخيا: غليظة لزجة باردة كثيراً، الإكثار منها يضر بالمرطوبين والمبلغمين وإصلاح ضررها أن تطبخ بلحوم الغزلان لخفته وحرارته أو مع الحجل أو مع الفراخ النواهض أو الفراريج السرخسية فغن لم يتفق فتلقى فيها الشرايح الجافة المدخنة أو التنورية عند خروجها من التنور وكذلك الباذنجان المقلى يلقى عليها ويكمر ساعة ثم تؤكل وماء الليمون يلطف غلظها ويقطع بلزوجتها ولا يصلحها إصلاحاً تاماً إلا هو وإذا قطع ورقها الأخضر ووضع على لسعة الزنبور نفعها وطبيخ ورقة ينفع حرق النار وفيه أكثر منافع الخطمى وهي فرع منه وذكر أنها قديماً لم يكن لها ذكر ولا قدر ولا تصريف في مدينة ولا في إقليم إلا بعد ثلثمائة وستين سنة مضت من الهجرة النبوية بمصر خاصة وكان السبب في ذلك أن المعز ياني القاهرة لما دخل مصر استوباها واختلف عليه الهواء الذي كان يعهده بأفريقيا ورطوبته لمجاورته البحر فأصابته يبس واستولت عليه أمراض حارة فتدبر له أطباء مصر قانوناً من العلاج من جملته الغذاء بالملوخيا فوجد لها نفعاً بينا في التبريد والترطيب وأقلع عنه معظم ما كان يجده من الأعراض الرديئة التي سببها اليبس والحرارة وأدمن أكلها فأبلى من مرضه ووقعت منه بموقع عظيم وأمر بإصلاحها له ولخواصه حتى سميت الملوكية وبلغ من اعتنائهم بها انهم كانوا يجففونها ويطبخونها مجففة السنة كلها وكان باكورها إذا دخل القصر يكون ذلك اليوم موسماً عظيماً ويعظطى مهديها عطاء جزيلاً.
ما ورد من المنظوم والمنثور في هذا الباب: كتب الشيخ جمال الدين بن نباته يتشكر من بعض الرؤساء وقد أهدى له خروفاً مشوياً شكر الله إحسان مولانا الذي وصل فأوصل إلى القلب جبره وإلى الكف بره وإلى الفم كل شحمة كأهداب الدمقس المفتل وكل فلذة صفراء تسر ناظر المتأمل فما أحسن ما ملأ ذلك الجود فمه وعينيه وتلقاه المملوك قائلاً هذا الشرف الذي ينطح النجوم برقيه لقد أربى تواتر هذا البر على ما في النفس ولقد جددت هذه الهدية فخراً حتى كأنما أهدى له حمل البروج على طبق الشمس ولقد آن أن ينثر من الدهر وتنتصف ولقد عرف رجاءه من أنين يؤكل الكتف فإنه الكرم الذي لا يحيل الآمال على سوف والفضل الذي أضاف المملوك وآواه فأطعمه من جوع ومن خوف لا برح مولانا يحيى مأثر آبائه إلى ويقيم سنن قراهم التي هي على الدهر كالحلى ولا زال يفتخر فيقول عزمه أنا طلاع الثنايا ويقول بشره أنا ابن جلا، وقال ابن وكيع فيه:
حروف لو أشار إليه وهم
…
تقطر جلده بالشحم يجري
لباطنه قميص من لجين
…
تسربل فوقه بقميص تبر
وما احسن ما كتب به ابن خروف النجوى إلى ابن اللهيب وكان قد دعاه:
دعاني ابن لهيب
…
دعاء غير نبيه
إن سرت يوماً إليه
…
فوالدي في أبيه
نادرة: قدم إلى أبي علي الفارسي النحوي شوي غير نضيج فقال هذا لم تعمل فيه العوامل، قد إلى الفاضل في دعوة خروف شوي فقال هذا من البهائم التي عملت يريد قوله صلى الله عليه وسلم لو تعلم البهائم ما تعلمون من أمر الموت ما أكلتم منها سمينا، قيل عن سليمان بن عبد الملك انه كان نهما على طعامه وانه كان يلف على يده بفاضل كمه ليتناول به الكلى من بطون الحملان وهي في شدة الحرارة ولا يهمل حتى يبرد وقد ذكر ذلك الأصعمي في أيام الرشيد لما وجد سفط عليه ثياب مذهبة ثمينة وأكمامه مبتلة بالدهن في ذخائر بني أمية والقصة مشهورة، وصف جحظة دعوة حضر بها فقال اتينا برغفان كالبدور المنقطة بالنجوم وملح كالكافور السحيق وخل كذوب العقيق وبقل كأخضرار العذار وحمل من الفضة جسمه ومن الذهب قشره وجوفه وأرز مدفون في السكر ثم جاءنا غلام بشراب ألذ من ذكره وأطيب من روحه وأصفى من وده وأرق من لطفه وأذكى من عرفه وأعذب من خلقه وأشهى من قربه.
سيف الدين المشد في دجاجة مشوية:
دجاجة صفراء من شيها
…
حمراء كالورد من الوهج
كأنها والجمر من تحتها
…
أترجة من فوق نازنج
وما أظرف قول الشيخ زين الدين بن الوردى:
لي شهوتان احب أجمعهما
…
لو كانت الشهوات مضمونة
أكباد عذالي مدققة
…
ومفاصل الرقباء مدفونه
نادرة: مرض ابن تقلية المغنى وأشرف على الموت فجاء إليه ابن الصاحب يعوده فقال له أيش حال التقلية فقال ما أخوفني تبقى مدفونة، وقال كشاجم يصف مائدة وما عليها:
ومن فراريج بماء الحصرم
…
تصلح للمحموم أو للمحتمى
قد شويت أكبادها ببيض
…
فهي كمثل نرجس بروض
وجاءنا فيها ببيض أحمر
…
كأنه العقيق ما لم يكسر
حتى إذا أتى به مقشرا
…
أبرز من تحت العقيق الدررا
كأنه إذ حاز أصناف الملح
…
أعاره تلوينه قوس قزح
وجاءنا براضع لم يعتلف
…
كأن قطنا بين جنبيه ندف
وجاءنا فيه بباذنجان
…
مثل قدود أكر الميدان
قد قارن الهليون بالممازحة
…
تقارن الكراة بالصوالجة
وقال ابن القطاع في البيض:
أسمع عن البيض وصف مضطلع
…
بالوصف ماضي الجنان نحرير
بنادق التبر غشيت ورقا
…
أو مشمش في صحاف كافور
الرداعي:
تفضل فرمانية العبد آبه
…
ومن حسنها يلتذ تكرارها القارى
فقد ذاب من طول انتظارك لحمها
…
وشوقاً إلى لقياك ظلت على النار
ابن تميم:
ولم أنس إذ بيت ليلا هريسة
…
وبت لخوف النار أحمل همها
فلما دنا الإصباح بادرت مسرعا
…
لا كشف من غمى وأكشف غمها
فصادفتها في حاجم النار قد عصت
…
عليّ فلم اسطع من الحر شمها
وما أنا في شك بأن لو بدا بها
…
فتور لغيظي كنت آكل لحمها
السراج الوراق: وأحمق أضيافنا ببقله
…
لنسبة بينهما ووصله
فمن أقل أدبا من سفله
…
قدم في وجه الضيوف رجله
وله أيضاً:
ومغمومات رءوس باكرتنا
…
تطيب شدى ولا طيب العروس
ونبهنا لها الظامي بليل
…
حكى لون المسوح على القسوس
فقمنا مائلين له وقلنا
…
يقل لكم القيام على الرءوس
وله:
أتيت أرجيه في حاجة
…
فلم تنبعث نفسه الجامدة
وفتل في ذقنه والنفوس
…
تعاف المقتلة الباردة
وقال ابن نباتة:
يا سيدي عطفا على عصبة
…
أفكارهم للقمح محمية
قد طبخت بالسوق أحشاؤهم
…
فيا لها طبخة قمحية
كتب الصلاح الصفدي إلى ابن نياتة وقد كان أهدى له ابن نياتة بسلا:
ظننت العبد عن مصر تسلا
…
فأهدي جودك الوافي بسلا
نعم قد أذكرتني عيش مصر
…
وإقبالا من الدنيا تولى
طعاما فوقه لحم شهى
…
إلى كل النفوس فكيف يقلى
ودهن فوقه قد صار صبا
…
تلظت ناره وحتى تسلا
المعمار في المجون:
وصاحب جئت إلى داره
…
فلم أجد بالباب من يحرس
دخلت للدار على غفلة
…
وجدته متكئا ينعس
فقال ما تبغي فقلت القرا
…
منكم فأني جائع مفلس
فجاد لي بالدهن من رأسه
…
وجادت المرأة بالكسكس
مطاعم شهية وملاذ ملوكية سأل الوزير أبو نصر بن أبي زيد أبا منصور بن سعيد بن أحمد البريدي وكان من أبناء الأمراء والسادة بالبصرة عما يحبه ويشتهيه ويختاره من أطايب الأطعمة الملوكية فقال قشور الدجج الفتية المسمنة المشوية والكباجة التمامة التي يجمع فيها بين لحم البقر والغنم ثم ينفي عنها لحم البقر وتحلى بالطبرزد وتطيب بالعنبر والهريسة بلحوم الحملان التي رضعت شهرين وربعت شهريت ومن اللحم المجذع والمبلقة بالأرز المدقوق والدهن بالسكر المسحوق المخبر بالند المشرب بالجلاب وماء الورد فقال يا أبا المنصور قد تجلب فمي من هذا الوصف أشهد انك من أبناء النعم والمروءات وأمر أن يلقيه على طباخه، ولما دخل الرشيد في سنة ست وتسعين ومائة زار جعفر بن سلمان بن علي الهاشمي وكان يومئذ واليها فأحضر له جعفر بن سلمان على مائدته كل حار وبارد واحضر ألبان الظباء وزبدها فاستطاب الرشيد طعومها فسأله عن ذلك فأمر بعض الفلمان فأطلق الظباء فتبعها أخشافها وعليها سلمها حتى وقفت في عرصت الدار تجاه عين الرشيد فلما رآها مفرطة مخصبة استفزه الفرح لذلك والتعجب حتى قال له جعفر يا أمير المؤمنين هذه الألبان واللبأ ورائب الزبد الذي بين أيدينا من هذه الظبية الفيتها وهي خشفان فتلاحقت وتلاحقت.
نادرة: حضر الغاضري عند بعض الرؤساء فقدم صفحة فيها أرز مطبوخ وقد قعر وسط الصفحة جلاب لأخذ الغاضري الملعقة وخرق التقعير إلى ما يليه حتى أختلط بالأرز فقال له صاحب المنزل (أخرقتها لتغرق أهلها) فقال بل (سقناه لبلد ميت) وقال ابن الجصاص الصوفي دخلت على أحمد بن روح الأهوازي فقال ما تقول في صفحة أرز مطبوخ فيها نهر من سمن على حافتيها كثبان من السكر المنخول فدفعت عيناي فقال ما لك قلت ابكي شوقاً إليه جعلنا الله وإياك من الواردين عليه بالغواصة والردادتين فقال يا غلام قدمها فجاء بها تفور فقال لي ما الغواصة والردادتين فقلت الغواصة الإبهام والردادتان السبابة والوسطى فقال أحسنت بارك الله فيك.
وكيفية الأكل عند الظرفاء والأدباء هو أن يفيض الإنسان الخنصر والبنصر ويأكل بأصابعه الثلاث وهي مذهب الظرفاء أن البنصر إذا أصابه الزفر فليس بظريف في الأكل اللهم إلا في الثريد فإن أكلها بأربعة أصابع سوى الخنصر وقالوا الأكل على أربعة أنحاء بإصبع من المقت وبإصبعين من المكر وبثلاث من السنة وبخمس من الشره.
فصل: فيما يشهي المآكل قال بعضهم يصف سكردانا:
وافي السكردان وفي
…
ضمته مطبخات من فراريج
كأنه بدر قد رصعت
…
فيه ثريا من سكاريج
وقال آخر في عجة:
وجاءتنا بعجتها عجوز
…
لها في القلى حس أي حس
فلم أر قبل رؤيتها عجوزا
…
تصوغ من الكواكب عين شمس
وقال ابن تميم في لبأ وتمر:
يا حبذا لبأ أتانا بكرة
…
يزهي لنا حسنا بأنواع الرطب
فكأنما اهدي سماء فضة
…
قد أشرقت فيها نجوم من ذهب
وقال صفي الدين الحلى يطلب جينا:
خففت عنكم فلم أطلب لمجلسنا
…
من المآكل شيئاً غالي القيم
لكن أقصى مرادي من هديتكم
…
ما بالكرائم من لامية العجم
يريد قول الطغراى:
قد زاد طيب أحاديث الكرام بها
…
ما بالكرائم من جبن ولا بخل
قال صلاح الصفدي ملغزا في قريشة:
أي شيء يروق للنفس أكلا
…
ذا بياض وأصله من حشيشه
خمسة أثقل الجمادات وزنا
…
فتعجب له وباقيه ريشه
وقال أبو الفرج الأصفهاني يصف بيضة:
فها بدائع صنعة ولطائف
…
الفن بالتقدير والتلفيق
خلطان ماويان ما اختلطا على
…
شكل ومختلف المزاج رقيق
صنع تدل على حقيقة صانع
…
للخلق طرا ليس بالمخلوق
قبياضها ورق وتبر مخها
…
في حق عاج بطنت بدبيق
وقال الشيخ جمال بن نباتة مقاضى ملوحة بدرب الحجاز يا مولانا ما كأن الملوحة إلا قد اتخذت سبيلها في بحار السراب سربا أو تعلمت من تلك الهمة فاتخذت إلى نهر المجرة سبباً وجعل فضلها مقصورا على الاسماع وخلفت من الملائكة فلا يمكن على صورها الإطلاع ولا غرو فإنها ذات أجنحة مثنى وثلاث ورباع وتوقفت من المنع والعطاء بين أمرين وحظيت من مولانا ومن الجناب الفخري بمجمع البحرين وما أظن الظن أن يتفق هذا الظن هذا ولو أنها من نسل حوت يونس عليه الصلاة والتسليم وان عظمها مما يسبح في بطن آكله إلى يوم يحيى العظام وهي رميم وان بينها ألذ من القرب بعد البين الطويل ورأيها أحسن من رأى عمرو بن العاص في الأمر الجليل وأن قمصها اللؤلؤية مما تنظم في السلوك وأذيالها المرجانية مما ترصعه في نيجانها الملوك وعوينها الدرية هي التي دلت الخضر على عين الحياة فوردها وأن بطونها الذهبية غني من قصدها وعلى الجملة فقد سطر المملوك هذه الورقة ولقم الانتظار تزاحم القلم في يده وأنامله المستعدة كالصنانير في تصديه لها وتصيده فمولانا يتدارك هذا الأمر قبل أن يفوت ويأمر بإنقاذها ولو أنها بين السماء والأرض عند الحوت ومكارمه المشهورة لا تقف في البذل مع احتياط ولا يغير عادتها طريق الحجاز ولولا الغلو لقال ولا طريق الصراط.
نوادر في هذا الباب: ذكر الشيخ علاء الدين الوداعي في تذكرته أن الصاحب تاج الدين محمد بن حبا رحمة الله كانت له أخت ذات مال وكان كلما اجتمع بها حضها على طعام الفقراء والمساكين والصدقة وفعل الخير ويقول لها لا تتباخلي فقالت له يوماً وقد قال لها في تكوني يخيلة فقالت له ما تستحي كم تقول أنت بخيلة وأنا كريمتك، قال عبد الملك ابن مروان لبعض الشعراء هل أصابتك تخمة قال أما من طعام الأمير فلا، وقال بعضهم أربعة ممسوخة البركة أكل الأرز البارد والغناء من وراء الستارة والقبلة فوق النقاب والجماع في الماء، وقال بعض الصوفية من جلس على مائدة فأكثر الحديث فقد غش بطنه، قيل لطقيلي لم أنت حائل اللون قال للفترة بين الطعامين مخافة أن يكون قد فنى الطعام، أو لم طفيلي على ابنته فأتاه كل طفيلي فلما رآهم رحب بهم ثم رقاهم إلى غرفة بسلم وأخذ السلم حتى فرغ من طعام الناس أنزلهم وأخرجهم.
دعا يحيى بن أكتم عدولة فقدم إليهم مائدة صغيرة فتضاموا عليها حتى كان أحدهم يتقدم فيأخذ اللقمة ثم يتأخر حتى يتقدم الآخر فلما خرجوا قيل لهم أين كنتم قالوا كنا في صلاة الخوف، الحارث بن كلدة إذا تغذى أحدكم فلينم على غدائه وإذا تعشى فليخط أربعين خطوة، وفي قوله تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) أفاد الجناب المجدي رحمة الله أن قوله تعالى (على حبه) مما يستشهد به في البديع، قدم رجل كذاب من سفره وقد أفاد من سفره مالاً كثيراً فدعا قومه إلى الطعام وجعل يحدثهم ويكذب فقال أحد القوم نحن كما قال الله تعالى (سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسّحْتِ) عبر بعض الطفيلية على قوم وهم يأكلون فقال السلام عليكم أيها القوم اللئام فقالوا لا والله إلا الكرام فقال اللهم أجعلهم صادقين وأجعلني كاذباً وقعد يأكل، وعبر طفيلي أيضاً على قوم وهم يأكلون فقال هل تحتاجون إلى مساعدة فقالوا بالدعاء فقال لا هناكم الله إن لم تأذنوا لي بالأكل معكم، وما احسن قول أبن دانيال في شخص يدعى علي شير:
إذا ما كنت متخوفاً فكن ضيف على شير
…
فما يخرج منه الخبز إلا بالمناشير
فائدة جليلة: ذكر التوحيد في كتاب الامتناع والمؤانسة من أدمن الأكل والشرب في أواني النحاس أفسدت مزاجه وعرضت له أمراض صعبة وإن أدنيت أواني النحاس من السمك شممت لها رائحة كريهة وإن كبت آنية النحاس على سمك مشوي أو مطبوخ بحرارتهما ما حدث منه سم قاتل، ومنه قيل لصوفي ما حد الشبع قال لا حد له ولو أراد الله تعالى أن يؤكل بحد لبين كما بين جميع الحدود وكيف يكون للأكل حد والآكلة مختلفون بالطباع والمزاج والعارض والعادة وحكمة الله تعالى ظاهرة في إخفاء حد الشبع حتى يأكل من شاء على ما شاء كما شاء، وقيل لفقيه ما حد الشبع قال ما نشط على أداء الفرائض وثبط عن إقامة النوافل، وقيل لمتكلم ما حد الشبع قال حده ما يجلب النوم ويضجر القوم ويبعث على البكوم، وقيل لإعرابي ما حد الشبع قال أما عندكم يا حاضرة فلا أدري وأما عندنا في البادية فما وجدت العين وامتدت إليه اليد ودار عليه الضرس وطلبت له اللهاة وأساغه الحلق وانتفخ له البطن واستدارات عليه الحوايا واستغاثت منه المعدة وتقوست منه الأضلاع والتوت منه المصارعين وخشيت منه الموت، وقيل لملاح ما حد الشبع قال حد السكر قيل فما حد السكر قال أن لا تعرف السماء من الأرض ولا الطول من العرض، وقيل لمدني ما حد الشبع فقال لا عهد لي به فأحده فكيف أصف ما لا أعرف، وقيل لسمر قندى ما حد الشبع فقال إذا جحظت عينك وبكم لسانك وثقلت حركتك وازجحن بدنك وزال عقلك فأنت في أوائل الشبع قيل إذا كان هذا أوله فما آخره قال أن تنشق نصفين، قيل لحمال ما حد الشبع قال إني أواصل فما أعرف الحد ولو كنت انتهي لوصفت الحال فيه أعني ساعة أعجن الدقيق وساعة أمل الملة وساعة أثؤد وساعة آكل وساعة أشرب لبن اللقاح فليس لي قرار فأدري أني بلغت الشبع إلا أني أعلم في الجملة أن الجوع عذاب وان الأكل رحمة وأن الرحمة كلما كانت اكثر كان العبد إلى الله أقرب والله عن العبد أرضى، قال إسحاق كنت يوماً عند أحمد بن يوسف فدخل علينا أحمد بن أبي خالد فجرى ذكر الغناء فقال لا والله لا أجد شيئاً مما أنتم فيه فهان علىّ وخف في عيني فقلت له مالمستهزئ به جعلت فداك قصدت إلى أرق شيء خلقه الله وألينه على القلب والأذن وأظهره للسرور والفرح وأنفاه للهم والحزن وما ليس للجوارح منه مؤنة إنما يقرع السمع وهو منه على مسافة فتطرب له النفس فذممته ولكنه كان يقال لا يجتمع في كل رجل شهوة كل لذة وبعد فإن شهوة كل رجل على قدر تركيبه ومزاجه قال أجل أما أنا فالطعام الرقيق أعجب إليّ من الفناء فقلت أي والله ولحم البقر والجواميس والتيوس الجبلية بالباذنجان المبزر أيضاً تقدمه فقال الغناء مختلف فيه قد كرهه قوم قلت فالاختلاف فيه من أطلقه لنا حتى يجتمعوا على تحريمه أعلمت جعلت فداك أن الأوائل كانت تقول من سمع الغناء على حقيقة مات فقال اللهم لا تسمعناه على حقيقته إذن فنموت فاستظرفته في هذه اللفظة وقدموا إليه الطعام فشغله عن ذم الغناء.
نظر بعضهم إلى مائدة بخيل يوضع عليها دجاجة فلا تمس ثم ترد من الغد فلما مضت عليها أيام قال يا أخي هذه الدجاجة عمرها بعد موتها أطول من عمرها حال حياتها، ولقي رجل أبا الحرث جمين وقد تعلق به غلام فقال يا أبا الحرث من هذا فقال غلام الفضل بن يحيى كنت عند مولي هذا بالأمس فقدم إلينا مائدة عليها رغيفان قد عملا من نصف خشخاشة وثريدة في سكرجة وخبيص في مسعط فتنفست الصعداء فدخل الخوان وما علق منه في أنفي فمولاه يطالبني بالقيمة قال الرجل استغفر الله مما تقول فأومي إلى غلام كان معه فقال غلامي هذا حران لم يكن ما قتله صحيحاً ولو أن عصفوراً وقع على بعض قشور ذلك الخشخاش الذي عمل منه ذلك لما رضى مولي هذا حتى يؤتى بالعصفور مشوياً بين رغيفين والرغيفان من عند العصفور ثم قال وعليه المشي إلى بيت الله الحرام إن لم يكن إذا عطش بالفرعاء رجع إلى دجلاء العوراء حتى يشرب منها صحيحاً ولو أن مولى هذا كلف في يوم قائط أن يصعد على سلم من رمل حتى يبلغ كواكب بنات نعش فيلطقها كوكبا كوكبا لكان ذا أسهل عليه من أن يشم شام تلك الثريدة أو يذوق ذائق تلك الخبيصة فقال الرجل عليك لعنة الله وعليه إن كان سمع بمثل هذا.
فصل: في الطست والإبريق والخلال والمحلب والاشنان والمنشفة وآداب غسل اليد وكيفية الاستعمال ولا بأس بغسل اليد في الطست وغن ندب إلى ذلك فليقبل الكرامة ولا يردها، قال دفتر خوان:
والطست إن رام إليك المقصدا
…
فلا تخالف من يقول اغسل يدا
وصاحب المرش دعه ساكبا
…
ولا تقل بس اكتفيت كاذبا
وعن ابن مسعود (: اجتمعوا على غسل الأيدي في طست واحد ولا تسننوا بسنة الأعاجم، وقالوا غسل اليد في الطست في حالة واحدة أدخل في التواضع ويقتضي أن يجتمع الماء فيها، وقال قال صلى الله عليه وسلم من بات وفي يده غمر لم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه وفي حديث آخر: الوضوء قبل الطعام ينقى الفم وبعده ينقى المم واللمم مس الشيطان والطست الطس بلغة طيء أبدل من أحد السينين تاء للاستثقال فإذا جمعت وصغرت رددت السين لأنك فصلت بينهما بالتاء فقلت طساس وطسيس وهو أعجمي معرب أصله طشت بالشين المعجمة فلما عرب قيل بالسين المهملة، الإبريق عربي صحيح وهو أفعيل من البريق وقال الحريري في المقامات إياك واستدعاء المرجفين قبل استدعاء حلول البين أراد بالمرجفين الطست والإبريق لأن الإتيان بهما يوذن بالقيام وفراغ الطعام وما أحسن قول القاضي الفاضل في المقامة العسقلانية يصف المائدة:
وتناوبتها الألوان
…
صنوان وغير صنوان
وأبطأ القوم بالمرجف
…
ين فما يرجفان ولا يوجفان
وأتينا بغاسول تحظى به الأفواه والأنوف ولا يوجد بعده بفم الصائم خلوف، وقيل إن كنية الأشنان أبو إياس وكنية الملح أبو عون وسمعت بعضهم يسميها البداية والنهاية، ولهذا حكى أن بوران بنت الحسن بن سهل لما تزوجها المأمون وأراد أن يدخل بها جعل الناس يهدون لأبيها الأشياء النفسية وكان بالقرب منهم رجل من الأدباء فأهدى إليه مزودا فيه ملح مطيب ومزودا فيه أشنان وكتب إليه معهما أني كرهت أن تطوي صحيفة أهل البر ولا ذكر لي فيها فوجهت إليك بالمبدأ به ليمنه وبركته وبالمختوم به لطيبه ونظافته ومع ذلك:
بضاعتي تقصر عن همتي
…
وهمتي تقصر عن مالي
فالملح والأشنان يا سيدي
…
أحسن ما يهديه أمثالي
وذكر القاضي الرشيد بن الزهر في كتابه العجائب والظرف أن سيد الوزراء أبا محمد البازوري وجد في موجوداته طستا وإبريقاً من البلور فأفرط في استحسانه لهما ولعظيم قدرهما أن المستنصر وهبهما له ووجد أيضاً مدهن ياقوت احمر وزنه سبعة وعشرون مثقالاً أخذه سرا من السلطان في خزانته حين قبض عليه في سنة خمسين وأربعمائة ولما أخرج السلطان الذخائر المصرية عند أيام فتنة ناصر الدولة وجد فيما أخرج من دار ناصر الدولة تسعين طستاً وتسعين إبريقاً من صافي البلور وجيده كباراً وصغاراً.
وقال ابن معقل فيما يكتب على سفرة الطست:
لم أصحب الطست من شوق إليه ولا
…
جعلت خدي له أرضاً وما شعرا
لولا وصولي به يوماً إلى ملك
…
يصيبني فضل ما ينفى بع الغمرا
وغيرة أن يمس الترب مبتدلا
…
ما مس كفيه من ماء إذا قطرا
وقال جلال الدين بن المكرم في الطست والإبريق والمنشفة:
ولي صاحب ينفي الأذى عن جوارحي
…
فيخرجني منه نقيا مطهرا
وآخر يحويه فيجعل الذي
…
كان لي منه إليه مصيرا
وثالثة غارت لفعلهما فلا
…
تزال تعفى ما لجسمي أثرا
وقال أبو طالب المأموني:
منشفة خملها تخال بها
…
قد فت كافورة على طبق
كأنما انبتت خمائلها
…
ما ارتشفت من لآلئ العرق
الأشنان: عمل لهارون الرشيد يؤخذ من القرنفل والسليخة والقرفة والقاقلى والفلنجة من كل واحد جزء ومن المصطكى والاذخر والسعد والميعة اليابسة جزء ومن الموزجسزس ثلاثة أجزاء ومن الطين الأبيض المكي خمسة ومن الأشنان البارد ضعف ذلك أو ثلاثة أضعافه ومن الأرز الأبيض المبلول المجفف المنخول مثل الأشنان يدق كل واحد على حدته ويخلط، صفة بنك محمص يؤخذ من البنك الأصفر المخمر وزن ثلاثين درهما ومن القرنفل عشرين درهماً ومن الزعفران خمسة دراهم ومن الورد خمسة عشر درهماً ومن السليخة الحمراء الرقاق والسنبل من كل واحد ستة دراهم يدق الجميع بأسره ويطحن ويحمص بماء الورد ويبخر بالعود الند والكافور والزعفران تبخيرا جيدا فإنه يجئ غاية من الغايات:
كيفية تناول الأشنان: أشنان الملوك والرؤساء هو طيب من جملة الطيوب وهو يجعل في أشنان دان له غطاء يحفظ رائحته ويكون له ملعقة يناول بها الغلام الأشنان ولا يلمس باليد البتة ولا سيما يد الغاسل فإنه أن أدخل يده فيه زفرة فسد جميعه لسرعة قبول الطيب الفساد بدخول أدنى سبب من الرائحة الكريهة عليه للطف جوهره، كان بعض الظرفاء إذا قدم إليه الطعام تناول بعض الأدهان العطرة الطيبة فسمح بد يديه فلا يتمكن الزفر من مسامها ولا يعلق بهما طائل منه والذي يعلق يسهل زواله بأدنى غسل، وقالوا كان كسرى في زمن السفرجل يتناول قطعة سرجل وفي غير زمانه يتنول مرباه فيأكلها عندما يقدم إليه الطعام فينسد خلل ما بين أسنانه وعموره بالسفرجل فلا يعلق بهما من مضغ اللحم طائل وكان يستعمل على مائدته بين كل لونين ملعقة رمان ليغسل فمه من الطعام الأول فيذوق الطعام الثاني خالص الطعم من شوب الطعام الأول فيدرك فرق ما بين الطعامين ويلتذ بكل واحد بمفرده ومن آداب الملوك أن لا يغسل الإنسان يديه في مجلس الملك أو بحضرة الرئيس ولا بحيث يراه إلا بإذنه وكذلك يصنع في الخلال فإنه من أسوء أدب الجليس وأن أذن الرئيس لجليسه في الغسل وأحب أن يتخلل فلينعزل بحيث لا يراه ولا يقع نظر الرئيس عليه.
وحكى أن أول غضب المعتصم على الأفشين وكان حظياً عنده أنه أكل عنده ثم دعا بالطست فغسل يده بحيث يراه المعتصم فقال المعتصم هذا التيس طويل اللحية يدعو بالطست حيث أراه ثم من آدابه لمن يؤذن له أن يستقصى إزالة لزفر ولا يقصر في غسل يده.
ويحكى أن رجلاً قصر في غسل يده دعوة بعض الظرفاء فقال له الدعوة أنق يدك وإلا دنست منديلنا، وكان عبد الله بن سلمان يبطئ في غسل يده ويقول من حكم اليد أن يكون زمان غسلها بمقدار زمان أكلها، وسأل المأمون اليزيدي معلم ولده العباس عن أخلاقه فأخبره انه لا يفلح ولا همة له قال كيف علمت ذلك قال رأيته قد ناوله الغلام أشناناً فاستكثر ما وقع في يده منه فرده في الأشنان دان ولم يلقه في الطست فعلمت أنه بخيل والبخيل لا يصلح للملك فكان الأمر كما قال وليحترز عند غسل اليدين من الرشش على من يليه أو نفض يديه بالماء إذا فرغ أو التنخع في الطست أو المخاط فيه.
الخلال: روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال تخللوا فإنه نظافة والنظافة من الإيمان والإيمان مع صاحبه في الجنة، وفي حديث عمر (السواك بعد الطعام يذهب وصر الطعام، وفي حديث آخر أنه هـ صلى الله عليه وسلم أمر بالخلال ونهي عن أن يتخلل بالرمان والقصب وقال أنهما يحركان عرق الآكلة وفي رواية يحرك عرق الجذام، وفي كتاب طب أهل البيت عليهم السلام عنه صلى الله عليه وسلم الخلال يجلب الرزق، وفيه من تخلل بالقصب لم تقض له حاجة سبعة أيام، وعن أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حبذا المتخللون قالوا يا رسول الله ما المتخللون قال التخلل من الطعام فإنه ليس شيء على الملك الذي على العبد أن يجد من أحدكم ريح الطعام، والخلال عمله من الصفصاف وعيدان الخلاف وطبع الصفصاف بارد يابس قليل الأضرار بالأسنان كثير النفع لها وهو أجود ما استعمل وخللت به الأسنان من الزهومات مأمون عليها.
ومن مستظرف المعاني وان لم يكن من غرض هذا الفصل لكن الحديث شجون ما أنشدنيه من لفظه لنفسه ونقلته من خطه بالقاهرة المحروسة سيدنا أقضى القضاة بدر الدين محمد المخزومي المالكي الشهير بالدماميني رحمه الله:
أفديه من ظبي غزالي
…
بلواحظ تبغي قتالي
ورآه يضمر بالجفا
…
في خاطر منه وبال
ما للعذول إذا أبح_ت لحسنه روحي ومالي والجسم من عشق لذا_ك الثغر أصبح كالخلال رجع إلى ما كنا فيه والخلال المأمون هو زهر قضيب نبت في الصحراء يقال أنه الجزر البري وهو حار يابس بزره إذا أستف ألقى الدود من الجوف وإنما سمى المأمون لقلة أذاه للأسنان واللثة للينة وهو خلال تستعملها العوام من الناس.
الأدب في الخلال: قال صاحب سرور النفس ورأيت في زماننا من يغلظ في تناول الخلال فأني رأيت في بعض مجالس الوزراء من الطستدارية من يضع الخلال خلف أذنه ويقدم الطست ثم يناوله مخدومه من ذلك الموضع وهو موضع قذر لا يخلو غالباً من أذى ولو كان حامله انظف الناس وأظرفهم وأما تنوله فأني رأيت كثيراً بعد الفراغ من الغسل ليده وفمه ورفع الطست يتناول الخلال وذلك خطا من وجهين: أحدهما انه إذا تخلل وهو مغسول الفم خرج اللحم من عموره وأسنانه إلى فمه فعاد الزفر وبطلت فائدة الغسل، والأخرى انه يلقى ما خرج بالخلال على البساط وحيث اتفق من مواضع مجالسه وتلك قذارة وغن كانت محقرة المقدار فالتنزه عنه أشبه بذوي الأقدار.
وآداب المناولة في الخلال أن يكون مع الطستدار ملفوفاً في ورقة بيضاء فإذا أخرجه وضع إحدى رأسيه بين أصبعيه السبابة والوسطى ومد به يده للرئيس وهو قائم فيتناوله الرئيس وهو على الطست فيتخلل ويلقى ما يخرج بالخلال في الطست أيضاً ويلقى الخلال في الطست ثم يغسل يده وفمه، وقال: ومن اقبح ما رأيت في أخذ الخلال أن بعض الرؤساء يتناول الخلال بيده وهي زفرة فيرشقه في شعر لحيته ويغسل يديه ويتحدث طويلاً والخلال مغروز في لحيته وذلك أقبح ما يكون ورأيت هذا الرئيس الذي أشرت إليه يأخذ الخلال بعد غسل يده وتنظيفها ومسحها بالمنشفة فيستعمل الخلال ويضعه في شعر لحيته تظرفا منه، قال كناجم واخذ الخلال من المروءة لتنظيف الأسنان وتنقيتها من زفر اللحم لن اللحم إذا بات في الأسنان أنتن لا سيما إذا كان فيه صلابة والخبز أيضاً إذا بات في الأسنان انتن الفم وصفر الأسنان.
استشارت امرأة امرأة في رجل تتزوجه فقالت لا تفعلي فإنه وكلة تكلة يأكل خلله ووكلة وتكلة بمعنى واحد كرر للمبالغة وهو الذي يتكل في الأمور على غيره ولا يباشرها بنفسه والتاء في تكلة واو كما قالوا في تراث وهو من وراث والخلل ما يخرج من بين الأسنان عند التخلل قال أبو هلال العسكري وليس في اللوم شيء من الكلام أبلغ من هذا ولبعضهم فيه:
وناولني من كفه شبه خصره
…
وشبه محب ذاب من طول هجره
وقال خلالي فلت كل حميدة
…
سوى قتل صب حار فيك بأسره
وقال الفقيه أبو الحسن بن عبد الكريم الأنصاري:
وخلال صنع السقم به
…
من نحولي في الهوى ما قد وجب
أذهب الجسم وأبقى رأسه
…
وكان الرأس كالجسم ذهب
مغرم بالبيض يسعى نحوها
…
لارتشاف الثغر أو ورد الشنب