الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
في حكم شهرِ ذي الحجة، وعشره ويومِ عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق
قوله تعالَى: {رِجَالًا} [الحج: 27]؛ أي: مُشاةً، وقد حجَّ إبراهيم، وإسماعيل ماشيين، وحج الحسن بن عليٍّ خمساً وعشرين حجة ماشياً، وحجَّ أحمدُ بن حنبل مرتين.
أمر ألله نبيَّه الخليلَ بعدَ بناء بيته الجليل، أن ينادي [عبيده] إِلَى الفضل الجزيل؛ ليحط عنهم مولاهم كلَّ وِزر ثقيل، فقَالَ سبحانه وتعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج: 27].
يا إبراهيم! لله درُّ أقوام فارقوا ديارَهم، وعانقوا افتقارَهم، وآثرُوا غبارَهم، وطهروا أسرارَهم، يدعون عند البيت قريباً سميعاً، ويقفون بين يديه بالذلِّ جميعاً، ويسعَوْن في رضائه سعياً سريعاً، وقد وَدَّعوا مطلوب شهواتهم توديعاً، هجروها لِكُدورها وهاجروا إِلَى الصفا، وقصدوا المروة بعد أن أتمُّوا الصفا، وحَذِروا الردَّ، وخافوا الجفا، وتعلقت آمالهم (1) بمن هو حسبهم وكفى.
(1) في الأصل: "أموالهم".
نادِ زُوَّاري أَنا أَدْعُوهُمُ
…
نَحْوَ بَيتْي لينالُوا شَرَفَا
فَهْمُو وَفْدٌ (1) إِذَا ما نَزَلُوا
…
بِحَرِيمِي أَوْ دَنَوْا مُزْدَلِفَا (2)
وَلَهُمْ عِنْدِ [ي] مَزِيدٌ لَهُمُ
…
مِنْ نَوَالِي ما أَحَبُّوا طُرَفَا
فَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ إِذْ قَصَدُوا
…
نَحْوَ بَابي يَطْلُبُونَ الزُّلَفَى
فَلَهُمْ مِنِّيَ مَهْما أَمَّلُوا
…
سَلَفاً يَنْمِي وَيُنْشِي خَلَفَا
قد أحرمَ القومُ عن الحلال، فأحْرِموا أنتم عن الحرام، منعوا أنفسهم من الطِّيب، فاحذروا أنتم جيفةَ (3) الهوى، يا حسنَهم، وقد نزعوا المَخيط، ونزعوا عن التضييع والتفريط، وملؤوا بالتضرع البسيط، فارقوا لأجلِ مولاهم أولادَهم، وعَرَّوْا عن رقيق (4) الثياب أجسادَهم، وتركوا في مرضاة محبوبهم مرادَهم، فأصبحوا قد أعطاهم مولاهم، وأمسَوا قد إفادهم (5).
(1) في الأصل: "وفود".
(2)
في الأصل: "من مزدلفا".
(3)
في الأصل: "حقيقة".
(4)
في الأصل: "ربق".
(5)
في الأصل زيادة: "استسعاهم"، وفي "التبصرة" لابن الجوزي (2/ 149)، =
تشَاغَلَ قَوْمٌ بِدُنْيَاهُمُ
…
وَقَوْمٌ تَخَلَّوْا لِمَوْلاهُمُ
فَألْزَمَهُمْ بَابَ مَرْضَاتِهِ
…
وَعَنْ سَائِرِ الخَلْقِ أَغْنَاهُمُ
فَما يَعْرِفُونَ سِوَى حُبِّهِ
…
وطَاعَتِهِ طُولَ مَحْيَاهُمُ
يُقِيمُونَ بِاللَّيْلِ أَبْدَانهم
…
وَعَيْنُ المُهَيْمِنِ تَرْعَاهُمُ
وَطَوْراً يُنَاجُونَهُ سُجَّداً
…
وَيَبْكُونَ طَوْراً خَطَايَاهُمُ
إِذَا فَكَّرُوا فِي الَّذِي [أَ] سْلَفْوا
…
أَذَابَ القُلُوبَ وَأَبْكَاهُمُ
وَإِنْ يَكُنِ الخَوْفُ لاذُوا بِهِ
…
وَبَاحُوا إِلَيْهِ بِشَكْوَاهُمُ
وَأَضْحَوْا صِيَاماً عَلَى جَهْدِهِمْ
…
تَبَارَكَ مَنْ هُوَ قَوَّاهُمُ
هُمُ القَوْمُ طَاعُوا مَلِيكَ الملوك
…
صُدْقُ القُلُوبِ فَوَالاهُمُ
= وعنه ينقل المصنف هذه الجمل: "وأمسوا قد أفادهم، استسعاهم إليه
فاجتهدوا ..... ".
همُ المُخْبِتُونَ بِنيَّاتِهِمْ
…
أَرَادُوا رِضا [هـ] فَأَعْطَاهُمُ
وَأَسْكَنَهُمْ في فَسِيحِ الجِنَانِ
…
وَأَعْلَى المَنَازِلِ بَوَّاهُمُ
فَنَالُوا المُرَادَ وَفَازُوا بِهِ
…
فَطُوبَى لَهُمْ ثُمَّ طُوباهُمُ
وذُكر عن مالكِ بن أنسٍ، قَالَ: صحبتُ جعفراً الصادق، فلما أراد أن يلبي، تغيّر وجهُه، وارتعدت فَرائصُه، فقلت: ما لكَ يا بنَ رسولِ الله؟! فقَالَ: أردتُ أن ألبي، قلت: وما توقُّفُكَ؟ قَالَ: أخاف أن أسمع غير الجواب.
وقَالَ سَرِيٌّ: لقيت في طريق الحج جاريةً حبشية، فقلت: إِلَى أين؟ قَالَت: الحج، قلت: الطريقُ بعيد، فقَالَت: بعيدٌ على الكسلان، وأما المشتاقُ، فهو عليه قريب، ثم قَالَت: يا سَرِيُّ! {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6 - 7]، فلما وصلت إِلَى البيت، رأيتها تطوف كالفتى الشاطر، فنظرَتْ إليه، فقَالَت: أنا تلكَ العبدةُ، لما جئتهُ بضعفي، حملَني بقوَّته (1).
إخواني! مُدُّوا إليه أيدي الاعتذار، وقوموا على بابه بالذلِّ والإنكسار؛ كما قيل:
(1) انظر: "التبصرة" لابن الجوزي (2/ 150).
لَئِنْ لَمْ أَحُجَّ البَيْتَ إِذْ شَطَّ رَبْعُهُ
…
حَجَجْتُ إِلَى مَنْ لا يَغِيبُ عَنِ الفِكْرِ
فَأَقْلَعْتُ مِنْ وَقْتِي بِخَلْع شَمَائِلِي
…
أَطوفُ وَأَسْعَى فِي اللَّطَائِفِ وَالبِرِّ
صَفَا [ي] صَفَائِي عَنْ صَفَاتِي وَمَرْوَتِي
…
مُرُوءَةُ قَلْبٍ عَنْ سِوَى حُبِّه قَفْرِ
وَفي عَرَفَاتِ الأُنْس بِالله مَوْقِفِي
…
وَمُزْدَلَفَي الزُّلْفَى لَدَيْهِ إِلَى الحَشْرِ
وَبَثُّ المُنَى مِنِّي مَبِيتِيَ في مِنَى
…
وَأَرْمِي جِمَارِي جَمْرَ شَوْقِيَ في صَدْرِي
سبحانَ مَنْ إِلَى بيته حملَهم، وبفِنائِه أنزلَهم، وإِلَى حرمِه أوصلَهم، وبإخلاصِ قصده جَمَّلَهم، فلقد جمعَ الخير الجَمَّ لهم، ليشهدوا منافع لهم.
إخواني! إن لم نصل إِلَى ديارهم، فلنصلِ انكسارَنا بانكسارهم، إن لم نقدر على عرفات، فلنستدركْ ما قد فات، إن لم نصل إِلَى الحجر، فَلْيَلِنْ كلُّ قلب حجر، إن لم نقدر على ليلة جَمْع ومنى، فلنقم بمأتم الأسف ههنا.
من لم يتب في هذا اليوم، فمتى ينيب؟ ومن لم يُجِبْ في هذا الوقت، فمتى يجيب؟ ومن لم يعرف بالتوبة، فهو غريب، ومن لم يقرَّ بالعفو، فما له من نصيب.
أسفاً لعبدٍ لم يغفر له اليوم ما جنى، كلَّما همّ بخيرٍ، نقض الطرد