الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل العاشر
في ذكر الوفاة
في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم، جلس على المنبر، فقَالَ:"إِنَّ عَبْداً خَيَّرَهُ الله بَيْنَ أَنْ يُؤْثِرَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيا ما شَاءَ، وَبَيْنَ ما عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ ما عِنْدَهُ"، فبكى أبو بكرٍ، وقَالَ: يا رسولَ الله! نفديكَ بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به (1).
اعلمْ أن الموتَ مكتوبٌ على كل حَيّ من الأنبياء والرسل وغيرهم.
قَالَ الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقَالَ:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 34 - 35].
وقَالَ تعالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
(1) رواه البخاري (3691)، ومسلم (2382).
اسْتَعِدِّي يا نَفْسُ لِلمَوْتِ وَاسْعَي
…
لِلنَّجَاةِ فَالحَازِمُ المُسْتَعِدُّ
أَتَيَقَّنْتِ أَنَّه لَيْسَ لِلْحَيِّ
…
خُلُودٌ وَلا مِنَ المَوْتِ بُدُّ
إِنَّما أَنْتِ مُسْتَعِيَرَةٌ مَاسَوْ .. فَ تَرُدِّيهِ وَالعَوَارِي تُرَدُّ
قَالَ الربيعُ بنُ خُثيمٍ: أكثروا ذكرَ الموت؛ فإنكم لا ترون قبله مثله.
فَما أَهْلُ الحَيَاةِ لَنَا بِأَهْلٍ
…
وَلا دارُ الحياةِ لَنَا بِدَارِ
وَما أَمْوَالنا وَالأهْلُ فِينَا
…
وَلا أَوْلادُنَا إِلا عَوَارِ
وَأَنْفُسُنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
…
سَيَأخُذُهَا المُعِيرُ مِنَ المُعَارِ
المراد بقوله عز وجل: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة: 29]، على ما فسره كثيرٌ من السلف: فتجتمع عليه سَكْرَة الموت، مع حَسْرة الفوت، فلا تسألْ عن سوءِ حاله، وقد سمى الله ذلك: سكرة؛ لأنّ ألم الموت مع ما يضم إليه، يُسكر صاحبه، فيغيب عقلُه، قَالَ تعالَى:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} [ق: 19].
أَلا لِلْمَوْتِ كَأْس أَيُّ كَاسِ
…
وَأَنْتَ لِكَأْسِهِ لا بُدَّ حَاسِي
إِلَى كَمْ وَالمَمَاتُ إلى قريبٍ
…
تُذَكَّرُ بِالمَمَاتِ وَأَنْتَ نَاسِي
وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكثرةِ ذكرِ الموتِ، فقَالَ:"أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ"؛ يعني: الموت (1).
قَالَ الحسنُ: إنّ هذا الموت قد أفسدَ على أهل النعيم نعيمَهم، فالتمسوا عيشاً لا موتَ فيه.
اذْكُرِ المَوْتَ هَاذِمَ اللَّذَّاتِ
…
وَتَهَيا لِمَصْرَعٍ سَوْفَ يَاتي
يا غَافِلَ القَلْبِ عَنْ ذِكْرِ المَنِيَّاتِ
…
عَما قَلِيلٍ سَتُلْقَى بَيْنَ أَمْوَاتِ
فَاذْكُرْ مَحَلَّكَ [مِنْ] قَبْلَ الحُلُولِ بِهِ
…
وَتُبْ إِلَى الله مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ
إِنَّ الحِمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ
…
فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ وَسَاعَاتِ
لا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيا وَزِينَتِهَا
…
قَدْ آنَ لِلمَوْتِ يا ذَا اللُّبِّ أَنْ يَاتي
قَالَ بعض السلف: شيئان قَطَعا عني لذاذةَ الدنيا: ذكرُ الموت، والوقوفُ بين يدي الله عز وجل.
(1) رواه النسائي (1824)، والترمذي (2307)، وابن ماجه (4258) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
كما قيل:
وكيف يلدُّ العيشَ من كان مُوقناً
…
بأنّ المنايا بغتةً ستعاجِلُهُ؟
وكيف يلذُّ العيشَ من كان موقناً
…
بأنّ إلهَ الخلقِ لا بدَّ سائِلُه
أولُ ما أُعلم النبيُّ صلى الله عليه وسلم من انقضاء عمره، باقتراب أجله بنزول سورة:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، في شهر ربيع الأول.
لِيَبْكِ رَسُولَ الله مَنْ كَانَ باكياً
…
فَلا تنسَيَنَّ قَبْراً بِالمَدِينَةِ ثاويَا
جَزَى الله عَنَّا كُلَّ خَيْرٍ مُحَمَّداً
…
فَقَدْ كَانَ مَهْدِياً وَقَدْ كَانَ هَادِيَا
وَكَانَ رَسُولُ الله رَوْحاً وَرَحْمَةً
…
وَنُوراً وَبُرْهَاناً مِنَ الله بَادِيَا
وَكَانَ رَسُولُ الله بِالخَيْرِ آمِراً
…
وَكَانَ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالسُّوءِ نَاهِيَا
وَكَانَ رَسُولُ الله بِالقِسْطِ قَائِماً
…
وَكانَ لِما اسْتَرْعَاهُ مَوْلاهُ رَاعِيَا
وَكَانَ رَسُولُ الله يَدْعُو إِلَى الهُدَى
…
فلبِّي رسولَ الله لَبِّيهِ دَاعِيَا
أَيُنْسَى أَمَنُّ النَّاسِ بالنَّاسِ كُلِّهِمْ
…
وَأَكْرَمُهُمْ بَيْتاً وَشِعْباً وَوَادِياً
أَيُنْسَى رَسُولُ الله أَكْرَمُ مَنْ مَشَى
…
وَآثَارُهُ بِالمَسْجِدَيْنِ كَما هِيَا
تَكَدَّرَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
…
عَلَيْهِ سَلامٌ كُلُّ مَنْ كَانَ صَافِيَا
رَكَنَّا إِلَى الدُّنْيا الدَّنِيَّةِ بَعْدَهُ
…
وَكَشَّفَتِ الأطْمَاعُ مِنَّا مَسَاوِيَا
وَكَمْ مِنْ مَنَارٍ كَانَ أَوْضَحَهُ لَنَا
…
وَمِنْ عَلَمٍ أَمْسَى وَأَصْبَحَ عَافِيَا
إِذَا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَاباً مِنَ التُّقَى
…
تَقَلَّبَ عُرْيَاناً وَإِنْ كَانَ كَاسِيَا
وَخَيْرُ خِصَالِ المَرْءِ تَقْوَاهُ رَبَّهِ
…
وَلا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ لِلهِ عَاصِيَا
وقيل: كان بين يديه صلى الله عليه وسلم رَكْوَةٌ فيها ماء، فجعل يُدخلُ يدَه في الماء، ويمسح بها وجهَه، ويقول:"لا إله إلا الله، إنَّ للموتِ سَكَراتٍ"، ثم نَصَبَ يدهُ، فجعل يقول:"الرفيق الأعلى" حَتَّى قُبض (1).
كما قيل:
(1) رواه البخاري (4184) عن عائشة رضي الله عنها.
كَأْسُ المَمَاتِ عَلَى الأَنَامِ يَدُورُ
…
لا آمِرٌ يَبْقَى وَلا مَأْمُورُ
لَوْ كَانَ يَنْجُو منه مِنْ ملكٍ نَجَا
…
بسمُوِّهِ أو سَيِّدٌ مَبْرُورُ
خُلِّدَ صفو العالَمينَ محمَّدٌ
…
لكن بِذلك قَدْ جَرَى المَقْدُورُ
وغسّله عليٌّ، والعباس (1).
• • •
(1) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص 191 - 216).