الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السَّابع عشر
في ذكر المعراج
لا خلاف بين المسلمين والعلماء في صحة الإسراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: ما جاء مصرّحاً به في القرآن؛ كقوله تعالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1].
هذا غاية التصريح من ربِّ العالمين.
وأما الأحاديثُ، فكثيرة؛ منها:
ما روى البخاريُّ، ومسلمٌ، عن أنسِ بن مالكٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُتِيتُ بِالبُراقِ يعني: ليلة الإسراء، وَهوَ دَابَّةٌ أبيضُ، طَوِيلٌ، فَوْقَ الحِمَارِ، وَدُونَ البَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِه"، قَالَ: "فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بالحَلْقَةِ التي تَرْبِطُ بها الأَنْبِيَاءُ عليهم السلام، ثُمَّ دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ ركْعَتَيْنِ.
ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْريلُ عليه السلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: اخْتَرْتَ الفِطْرَةَ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ عليه السلام، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قِيلَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابنَيِ الخَالَةِ: عِيسَى، وَيَحْيَى عليهما السلام، فَرَحَّبَا بِي، وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ -فَذَكَرَ مِثْلَ الأوَّلِ-، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ عليه السلام، وَقَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ، وَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
لُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ -وَذَكَرَ مِثْلَ الأوَّل-، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيس عليه السلام، فرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ الله:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57].
ثم عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الخَامِسَةِ، فذكرَ مثلَ الأولِ، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمُّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَة، فذكرَ مثلَه، فَإِذَا أَنَا بِمُوسىَ عليه السلام، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فذكرَ مثلَه، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى البَيْتِ المَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُون أَلْفَ مَلَكٍ، لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ.
ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى؛ فَإِذَا وَرَقُهَا كَاَذَانِ الفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالقِلالِ، فَلَما غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ الله ما غَشِيَ، تَغَيَّرَتْ، فَما أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ الله يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا.
فَأَوْحَى [الله إلَيَّ ما أَوْحَى]، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: ما فَرَضَ رَبُّك عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْألهُ التَّخْفِيفَ؛ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذلك؛ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي سُبْحَانَهُ، فَقُلْتُ: يا رَبِّ! خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْساً.
فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْساً، قَالَ: فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذلك، فَارِجْع إِلَى رَبِّكَ، فَاسْألهُ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي عز وجل، وَبَيْنَ مُوسَى عليه السلام حَتَّى قَالَ الله: يا مُحَمَّدُ! هُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بِكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ، فَتِلْكَ خَمْسُونَ صَلاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا، كُتِبَتْ لَهُ عَشْراً، وَمَنْ هَمَّ بِسَيئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، لَمْ يُكْتَبْ شَيْءٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا، كُتِبَتْ سَيئَةً وَاحِدَةً.
قَالَ: فَنَزَلْتُ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، [فَاسْأَلهُ التَّخْفِيفَ]، قَالَ: فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ" (1).
(1) رواه البخاري (342)، ومسلم (162) واللفظ له.
تباركَ الله خالقُ الحبِّ والنَّوى، وخالقُ العبدِ وما نوى، المطَّلِعُ على باطنِ الضمير وما حَوى، بمشيئته رشد مَنْ رشد، وغوى مَنْ غوى، وبقدرته وعظمته على عرشه استوى، صرَّف مَنْ شاء إِلَى الهدى، وعطفَ من شاء إِلَى الهوى، قَرَّب موسى نَجيَّاً بعد أن كان مطوياً من شدة الطوى، فمنحه فَلاحاً، وكلَّمه كِفاحاً، وهو بالوادي المقدس طوى، وعَرَجَ بمحمدٍ إليه حَتَّى رآه بعينه، ثم عاد إِلَى فراشه وما انطوى، فحدّثَ بقربه من ربه، وحدَّث بما رأى وروى، وأقسمَ على تصديقه [من حرسه] بتوفيقه على القوى، فقَالَ تعالَى:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 1 - 3].
فسبحان [مَنْ] رفعَ محمداً فوق الهلاك، وقدمه على الأنبياء والأملاك، وإنه والله لأهلٌ لذاك؛ لأنه أطولُ القومِ في جهاد أهل الكفر (1) والإشراك ذيلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} .
وطَيَّبه بأزكى الخلائق، ثم رفعه على أزكى الخلائق، فوقَ السبعِ الشدادِ الطرائق، فيا فخرَ ذاك المقدّم السابق رجلاً وخيلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} .
أوقد لهداية الخلق به سراجه وشاد [قـ]ـواعد دينه وأبراجَه، وقوّى شرعَه، وأظهرَ احتجاجَه، فالخزيُ كلُّ الخزيِ لمن جحد معراجَه، ويا له ويلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].
كلَّمه كِفاحاً، ومنحه فَلاحاً، وأوجبَ ذكرَه علينا مساء وصباحاً،
(1) في الأصل: "الفقر".
وأهال علينا الإنعام ببركته هيلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} .
أصلح بتدبيره طباع المرضى، وجعلت طاعته على الخلق فَرْضا، ضمن له أن يعطيه حَتَّى يرضى؛ كي لا يحصر ما يعطى وزناً وكيلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} .
عاش بالدنيا في الزهد والقناعة، ويكفيه فخراً قبولُ الشفاعة، وشغَلَه ذكرُ القيامة وأهوالِ الساعة أن يكون مَلِكاً أو قَيْلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} .
سبحان من شَرَّفنا بهذا الرسول، ورزقنا موافقةَ المنقول، فنحنُ أهل السنة، لا أهلُ الفضول، ببركته ثبتت أقدامُنا على الصراط فلا تزول، ولا تعرف ميلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} .
فخرُ نبينا أجلُّ وأعلى، ومناقبهُ من نور الشمس أجلى، وذكره والله في قلوبنا أحلى من ذكر قيس لليلى، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].