الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجّوا، فأنزل الله:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ} .
وقد ذكرت عن مجاهد سبب نزول آية {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ} في مقدّمة تفسير الآيات السابقة.
التفسير والبيان:
إنّ البيت الحرام قبلة المسلمين في الصلاة والدعاء: هو أوّل بيت وضع معبدا للناس، بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام للعبادة:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ} [البقرة 127/ 2]، ثمّ بني المسجد الأقصى بعد ذلك بقرون، بناه سليمان بن داود سنة 1005 قبل الميلاد، فكان جعله قبلة أولى، فيكون النّبي صلى الله عليه وسلم على ملّة إبراهيم الذي كان يتّجه بعبادته إلى الكعبة المشرّفة.
فالبيت الحرام أول بيت عبادة، وهي أولية زمان، تستتبع أولية الشرف والمكانة، وله مزايا عديدة هي:
1 -
إنه مبارك كثير الخيرات، فهو بالرغم من كونه في واد غير ذي زرع، بصحراء جرداء، كما قال تعالى:{يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص 57/ 28]، ففيه الخضار والفواكه ومنتجات الدّنيا، وهو أيضا كثير البركة في الثواب والأجر، ففيه تضاعف الحسنات، ويستجاب الدّعاء.
2 -
إنه مصدر هداية للناس، يتّجه إليه المصلّون، وتهواه الأفئدة، ويزحف إليه الملايين مشاة وركبانا، يأتون إليه من كلّ فجّ عميق، لأداء مناسك الحجّ والعمرة، ببركة دعوة إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ، لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم 37/ 14]، وقد
أجاب الله دعاء إبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ..} . الآية [الحجّ 27/ 22 - 28].
3 -
فيه آيات واضحات، منها مقام إبراهيم (موضع قيامه للصلاة والعبادة) تعرفه العرب بالنقل المتواتر جيلا عن جيل، ويدلّ عليه أثر قدمه الشريف على الحجر.
4 -
ومن دخله كان آمنا على نفسه وماله من أي اعتداء وإيذاء، فلا يسفك فيه دم حرام، ولا يقتل الشخص فيه ولو كان مطلوبا للثأر أو القصاص، لقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت 67/ 29]، وقوله:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} [القصص 57/ 28]، وقوله:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً} [البقرة 125/ 2]، وكما دعا إبراهيم عليه السلام:{رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً} [البقرة 126/ 2]. وقال عمر بن الخطاب: «لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه» .
وقال أبو حنيفة: «من وجب قتله في الحلّ بقصاص أو ردّة أو زنا، فالتجأ إلى الحرم، لم يتعرّض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه» . واتّفقت قبائل العرب على تعظيمه واحترامه، بنسبته إلى الله، حتى إن القاتل اللاجئ إلى الحرم يصير فيه آمنا ما دام فيه.
(1)
.
وقد أقرّ الإسلام ميزة البيت الحرام. وأما ما كان من فتح مكّة عنوة بالسّيف
(1)
أحكام القرآن: 23/ 1
فكان لضرورة تطهيره من الشّرك، ولأجل أن يعبد الله وحده، واستحلّ ساعة من نهار لم تحلّ لأحد بعد النّبي صلى الله عليه وسلم، ثم
أعلن النّبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في السيرة:
«من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» .
وأما ما حدث أيام الحجاج فهو شذوذ لم يقرّه عليه أحد، ولم يعتقد أحد حل ما فعل بابن الزّبير، وإنما هو ظلم وإلحاد فيه:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} [الحج 25/ 22].
وأما بعض حوادث الاعتداء على الأنفس والأموال فهو فعل الفجار الفساق الذين لم يرعوا لله حرمة في كعبة ولا غيرها.
وأما ما أجازه الإمامان مالك والشافعي من الاقتصاص من القاتل عمدا في الحرم كله فهو عقوبة حقّ وعدل أمر بها القرآن الكريم، لا تجاوز فيها على أحد.
واتّفق أهل العلم على أنه إذا قاتل أحد في الحرم قتل، قال الله تعالى:
{وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة 191/ 2]، ففرّق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في غيره إذا لجأ إليه. روي عن ابن عبّاس وبان عمر وغيرهما من الصّحابة والتابعين، فيمن قتل غيره ثم لجأ إلى الحرم: إنه لا يقتل. قال ابن عبّاس: «ولكنه لا يجالس ولا يؤوى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقتل، وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه الحدّ»
(1)
.
5 -
ومن مزايا البيت الحرام تجمع الحجيج فيه وجعل الحجّ واجبا على المسلمين، فيجب الحجّ على المستطيع منهم، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، وفي هذا تعظيم للبيت. واستطاعة السبيل إلى الشيء: إمكان الوصول إليه، والسبيل عام يشمل الشيء البدني والمالي، فالحج فريضة على كلّ مسلم ما لم يوجد مانع من
(1)
المرجع السابق: ص 21
الوصول إلى الحرم، سواء أكان بدنيا أم ماليا أم بدنيا وماليا، فالبدني: كالمرض والخوف على النفس من العدو ومن السّباع، أي ألا يكون الطريق مأمونا.
والمالي كفقد الزّاد والرّاحلة إذا كان ممن يتعسّر عليه الوصول إلى البيت إلا بزاد وراحلة. والبدني والمالي معا: فقد الزّاد والراحلة والمرض أو عدم أمن الطريق.
وقد اتّفق أكثر العلماء على أنّ الزّاد والرّاحلة شرطان في الاستطاعة، بدليل
ما رواه علي عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما رواه الترمذي من حديث ضعيف: «من ملك زادا وراحلة تبلّغه بيت الله، ولم يحجّ، فلا عليه أن يموت يهوديّا أو نصرانيّا» ، وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه:{وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} . وفسّر الصحابة كابن عمر وغيره استطاعة السبيل:
بالزّاد والرّاحلة.
{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ} أي من جحد كون هذا البيت أول بيت وضع للعبادة، ولم يمتثل أمر الله في الحجّ، فإن الله غير محتاج إليه، إذ هو الغني عن جميع العالمين. والجمهور حملوا ذلك على تارك الحجّ إعراضا عنه مع توافر الاستطاعة، بدليل
قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وفيه ضعف: «من مات ولم يحجّ، فليمت إن شاء يهوديّا أو نصرانيّا» . وبدليل
ما روي عن الضّحّاك في سبب النزول قال: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان الستّة: المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمشركين والمجوس وقال فيما رواه أحمد وسلم والنسائي: «إنّ الله كتب عليكم الحج، فحجّوا» فآمن به المسلمون، وكفر به الباقون، وقالوا: لا نؤمن به ولا نصلّي ولا نحجّ، فأنزل الله قوله تعالى:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ} .
والغرض من الآية والأخبار التنفير من ترك الحجّ والتغليظ على المستطيعين حتى يؤدّوا الفريضة.