الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكّد تحريم أكلها، وأوضح أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء، وقد كانوا في الجاهلية لا يورّثون النساء والأولاد الصغار، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة. قال سعيد بن جبير وقتادة:
كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا، فأنزل الله:{لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ.} ..
التفسير والبيان:
إذا كان لليتامى مال مما تركه الوالدان والأقربون، فهم فيه سواء، لا فرق بين الذكور والإناث، ولا فرق بين كونه كثيرا أو قليلا، فالجميع فيه سواء في حكم الله تعالى مهما قلّ المال، يستوون في أصل الوراثة، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم، بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية.
ثم أكد تعالى هذا الحق للجميع بقوله: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} للدلالة على أنه حق معين محتوم مقطوع به، ليس لأحد إنقاصه.
ثم عالج القرآن الكريم ناحية نفسية وهي كراهية حضور الأقارب مجلس قسمة التركة، فقرر أنه إذا حضر قسمة التركة أحد من ذوي القربى للوارثين واليتامى والمساكين، فأعطوهم شيئا من المال ولو قليلا، وقولوا لهم قولا حسنا واعتذارا جميلا يهدئ النفوس، وينتزع الحقد والسخيمة، ويستأصل الحسد من النفس.
والمراد بالقسمة: قسمة التركة بين الورثة، وأولو القربى: من لا يرثون لكونهم محجوبين أو لكونهم من ذوي الأرحام، والمأمور بهذا هو الولي أو اليتيم عند البلوغ وتسلم المال. والضمير في قوله:{فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} يرجع إلى ما ترك الوالدان والأقربون، أو إلى القسمة بمعنى المقسوم باعتبار معناها، لا باعتبار
لفظها مثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ} [يوسف 76/ 12] أي السقاية.
وذهب جمهور المفسرين منهم ابن عباس وسعيد بن جبير إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، وأن الأمر بالإعطاء للوجوب، عملا بظاهر الأمر، وقد هجره الناس، كما هجروا الاستئذان عند دخول البيوت، والمخاطب بهذا الوارث الكبير وولي الصغير.
وقال الحسن البصري والنّخعي: الأمر منصب على الأعيان المنقولة، وأما الأرضون فلا يعطون منها شيئا، وإنما يكتفى بالقول المعروف.
وذهب فقهاء الأمصار إلى أن هذا الإعطاء مندوب طولب به الكبار من الورثة؛ لأنه لو كان لهؤلاء حقّ معين لبيّنه الله تعالى كما بيّن سائر الحقوق، وحيث لم يبيّن علمنا أنه غير واجب. وأيضا لو كان واجبا لتوافرت الدواعي على نقله لشدة حرص الفقراء والمساكين، ولو كان ذلك لنقل إلينا على سبيل التواتر، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا، أنه ليس بواجب.
وقال سعيد بن المسيب والضّحاك وابن عباس في رواية عطاء عنه: الآية منسوخة بآية المواريث: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ.} . إلخ.
وعلاجا لمرض نفسي آخر وهو تحامل النفس كثيرا على اليتيم والقسوة عليه، أمر الله الأولياء والأوصياء القائمين على اليتامى بالقول السديد لهم بأن يكلموهم كأولادهم بالأدب الحسن، والمناداة لهم بكلمة: يا ابني أو يا ولدي ونحو ذلك، وليتذكروا أنهم مقاربون أن يتركوا أولادهم من بعد موتهم، ويخافوا عليهم الإهمال والضياع، وليتقوا الله في اليتامى الذين يلونهم، فيعاملونهم بمثل ما يحبون أن تعامل به ذريتهم الضعاف بعد وفاتهم.
ويكون المقصود بالآية حث الأولياء على حفظ أموال اليتامى وإحسان القول إليهم، بتذكيرهم حال أنفسهم وذرياتهم من بعدهم ليتصوروها ويعتبروا بها، وذلك من أقوى البواعث على العظة والاعتبار، فالإنسان كما يدين يدان، وهو مطالب بأن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به.
وتكون الآية مرتبطة بما قبلها؛ لأن قوله تعالى: {لِلرِّجالِ نَصِيبٌ} في معنى الأمر للورثة، أي أعطوهم حقهم، وليحفظ الأوصياء ما أعطوه، ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم.
ثمّ أكّد الله تعالى الأوامر والنواهي السابقة وقررها وذكّر بالعقاب الشديد لمن يأخذ مال اليتيم ظلما بغير حق، وهو دخول النار وإحراقهم بها، وهي نار مستعرة شديدة الإحراق، وقودها الناس والحجارة، وقانا الله منها.
وذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها يقصد به إما ملء بطونهم نارا للنهاية، وإما للتأكيد والمبالغة، كما في قوله تعالى:{يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران 167/ 3]، والقول لا يكون إلا بالفم، وقوله:{وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج 46/ 22]، والقلوب لا تكون إلا في الصدور، وقوله:{وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ} [الأنعام 38/ 6]، والطير لا يطير إلا بجناحين، الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة، كما أن فيه تبشيعا لأكل مال اليتيم في حالة الظلم.
وفي تقييد الأكل بحالة الظلم دلالة على مشروعية أخذ مال اليتيم بحق، كأجرة العمل، والقرض مثلا، وذلك لا يعدّ ظلما ولا الآكل الآخذ ظالما.
والتعبير بالأكل يقصد به جميع وجوه الانتفاع والإتلاف والاستهلاك، ولكن عبّر به لأنه أهم حالات الانتفاع.