الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة، فليس القول الذي قيل لكم:{إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} إلا من الشيطان الذي يخوفكم أنصاره المشركين، ويوهمكم أنهم ذوو عدد كثير وأولو قوة وبأس شديد، فلا تخرجوا إليهم.
ولكن عليكم أيها المؤمنون إذا سول لكم الشيطان أمرا وأوهمكم، فتوكلوا علي، والجؤوا إلي، فإني كافيكم وناصركم، كما قال تعالى:{أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ، وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} إلى قوله: {قُلْ: حَسْبِيَ اللهُ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر 36/ 39 - 38] وقال: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة 21/ 58] وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج 40/ 22] وقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} [محمد 7/ 47] وقال أيضا: {إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ} [غافر 51/ 40 - 52].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت آية الشهداء: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا.} . وما بعدها على ما يأتي:
1 -
إن من لم ينهزم أمام العدو، وصبر وثبت، وقاتل حتى قتل، له منزلة عالية عند الله، وهي منزلة الشهداء، وهي الكرامة والحياة عند الله. فهم أحياء في الجنة يرزقون، وأرواحهم حيّة كأرواح سائر المؤمنين، وإن ماتوا ودفنت أجسادهم في التراب. وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم.
والذي عليه معظم المفسرين أن حياة الشهداء محققة، ولكنها من نوع خاص، فإما أن ترد إليهم أرواحهم في قبورهم فينعّمون، وإما أنهم يرزقون من
ثمر الجنة، أي يجدون ريحها وليسوا فيها. وقيل: إن هذا مجاز، والمعنى أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة.
والصحيح من الأقوال: أرواحهم في أجواف طير خضر، وأنهم يرزقون في الجنة، ويأكلون ويتنعمون.
2 -
غسل الشهداء وتكفينهم والصلاة عليهم: للعلماء رأيان:
قال الحنفية: يكفن الشهيد بثيابه، ويصلى عليه، ولا يغسل إذا كان مكلفا طاهرا، وأما الجنب والحائض والنفساء إذا استشهدوا، فيغسلون عند أبي حنيفة، كما يغسل الصبي والمجنون، وقال الصاحبان: لا يغسّلون. والدليل على عدم التكفين وعدم الغسل
حديث جابر عند البخاري: «ادفنوهم بدمائهم»
وفي رواية الشافعي وأحمد والبيهقي والنسائي: «زمّلوهم بدمائهم» يعني يوم أحد ولم يغسّلهم.
وقد صلّى النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد اثنتين وسبعين صلاة.
وقال الجمهور: لا يغسل الشهيد ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولكن تزال النجاسة الحاصلة من غير الدم؛ لأنها ليست من أثر الشهادة بدليل
حديث جابر المتفق عليه:
«أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم» .
وأجمع العلماء على أن الشهيد إذا حمل حيا، ولم يمت في المعترك، وعاش وأكل، فإنه يصلّى عليه، كما قد صنع بعمر رضي الله عنه.
وأما من قتل مظلوما كقتيل الخوارج وقطاع الطرق وشبه ذلك، فقال أبو حنيفة والثوري: كل من قتل مظلوما لم يغسّل، ولكنه يصلى عليه وعلى كل شهيد. وقال الجمهور: يغسل كجميع الموتى إلا من قتله أهل الحرب.
وأما إذا صبّح العدو قوما في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم، فيغسلون ويكفنون ويصلى عليهم؛ لأنهم لم يقتلوا في المعترك بين الصفين.
3 -
القتل في سبيل الله والشهادة فيه له ثواب عظيم عند الله، حتى إنه يكفّر
الذنوب، كما
قال صلى الله عليه وسلم: «القتل في سبيل الله يكفّر كل شيء إلا الدّين»
(1)
وهذا تنبيه على ما في معنى الدين من الحقوق الشخصية المتعلقة بالذمم، كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحة وغير ذلك من التّبعات، فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدّين، فإنه أشد، والقصاص في هذا كله بالحسنات والسيئات، حسبما وردت به السنة الثابتة، منها
حديث مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي: من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار» .
وفي حديث صحيح آخر رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلّقة ما كان عليه دين» .
والدّين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة-والله أعلم-: هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوص به، أو قدر على الأداء فلم يؤدّه، أو ادّانه في سرف، أو في سفه، ومات ولم يوفّه. وأما من ادّان في حق واجب لفاقة وعسر، ومات ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله؛ لأن على السلطان فرضا أن يؤدّي عنه دينه، إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفيء الراجع على المسلمين،
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: «من ترك دينا أو ضياعا (عيالا) فعلى الله ورسوله، ومن ترك مالا فلورثته» .
4 -
الرزق في قوله تعالى: {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} هو الرزق المعروف في العادات، وهو المعنى الحقيقي للفظ. ومن قال: هي حياة الذكر، قال:
يرزقون الثناء الجميل، وهو معنى مجازي.
(1)
رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بلفظ «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدّين» .
5 -
قال السدي في آية {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ.} .: يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه، فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا. وقال قتادة وابن جريج والربيع وغيرهم: استبشارهم بأنهم يقولون:
إخواننا الذين تركنا خلفنا في الدنيا، يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم، فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه، فيسرّون ويفرحون لهم بذلك.
6 -
الفضل في قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ.} . لزيادة البيان، والفضل داخل في النعمة، وفيه دليل على اتساعها، وأنها ليست كنعم الدنيا. وقيل: جاء الفضل بعد النعمة على وجه التأكيد.
روى الترمذي عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للشهيد عند الله ست خصال
(1)
: يغفر له في أول دفعة
(2)
، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار: الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وما تضمنه الحديث تفسير للنعمة والفضل.
7 -
أشارت آية: {الَّذِينَ اسْتَجابُوا.} . إلى أن الصحابة الذين تابعوا القتال ومطاردة أبي سفيان وجماعته في «حمراء الأسد» لإرهاب العدو، وكان عددهم سبعين رجلا، استحقوا المديح والثناء من الله تعالى لسببين: إطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ندبهم إليه من الخروج معه، وتحاملهم على أنفسهم بالرغم مما فيهم من جراح وآلام شديدة مبرّحة أصابتهم في وقعة أحد.
(1)
كذا في الترمذي وابن ماجه: «ست» وهي في العدد: سبع، وفي حاشية السندي على ابن ماجه: قوله: ست خصال، المذكورات سبع إلا أن يجعل الإجازة والأمن من الفزع واحدة.
(2)
الدفعة بالضم مثل الدفقة: ما دفع من إناء أو سقاء، فانصب بمرة واحدة.
8 -
أرشدت آية: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ} إلى أن المؤمن الصادق لا يكون جبانا، فالجبن لا يجتمع مع الإيمان؛ لأن علته: الخوف من الموت والحرص على الحياة، وهما بعيدان عن المؤمن، وكان الصحابة الذين ذهبوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في العام التالي لأحد في بدر الصغرى مثلا عالية للشجاعة والتضحية والجرأة في سبيل الله.
9 -
ودلت هذه الآية أيضا على أن المؤمن يمكنه التخلص من عوامل الخوف، فيقول:{حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي كافينا الله.
10 -
قوله تعالى: {فَزادَهُمْ إِيماناً} أي فزادهم قول الناس إيمانا، أي تصديقا ويقينا في دينهم، وقوة وجرأة واستعدادا، يومئ إلى أن الإيمان يزيد بالأعمال الصالحة.
ويرى العلماء في زيادة الإيمان ونقصه: أن أصل الإيمان وجوهره وهو التصديق شيء واحد، لا يدخل فيه زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شيء إذا زال. وأما الزيادة والنقصان ففي متعلّقاته دون ذاته. والذي عليه الجمهور: أن الإيمان يزيد وينقص من حيث الأعمال الصادرة عنه،
لحديث مسلم والترمذي:
«الإيمان بضع وسبعون بابا، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» وهذه الزيادة في رواية مسلم فقط.
11 -
وآية {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ} يراد بها كما قال العلماء: لما فوضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه، أعطاهم من الجزاء أربعة معان: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا، فرضّاهم عنه، ورضي عنهم.
12 -
يشير قوله تعالى: {فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ.} . إلى أن الخوف يجب أن يكون من الله فقط، لا من الأعداء، وأن أولياء الله لا يخافون الشيطان إذا خوّفهم، وإنما يخوف أولياءه المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين.