الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التّفسير والبيان:
إن مشيئة الله تسير على نظم ثابتة وسنن حكيمة، ترتبط فيها الأسباب بالمسببات، والمقدّمات بالنتائج، وإن كان الله قادرا على كلّ شيء، وتلك السّنة في الماضين واللاحقين هي أن من سار على منهاج الطائعين المؤمنين الموفقين، حظي بالسعادة والنّصر والفلاح، ومن سار في طريق العصاة المكذّبين، كانت عاقبته خسرا ودمارا وهلاكا.
ففي أحوال السّلم إن سار المرء على الأصول المطلوبة والنّظم العلمية والخبرات المعروفة في شؤون الزراعة والصّناعة والتّجارة وغيرها، نجح وظفر بمراده، وإن كان ملحدا أو وثنيّا أو مجوسيّا. وإن جانب المعقول، وخرج عن المألوف، كان من الخاسرين، وإن كان صالحا تقيّا.
وفي أحوال الحرب إن أعدّ القائد العدّة المناسبة في كلّ عصر لقتال العدوّ، كما قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ..} . [الأنفال 60/ 8] ودرّب الجيش على فنون الحرب تدريبا صحيحا عاليا، تحقق النصر والغلبة، وإن أهمل الإعداد والتّدريب، أدركته الهزيمة.
ومن سار في الأرض، وتعقب أحوال الأمم، وتدبّر التاريخ وعرف الأخبار، يجد مصداق تلك السّنة الإلهية الثابتة وهي الفوز لمن أحسن، والخيبة لمن أساء.
وفي هذا تنبيه لمن أساء وخالف أمر النّبي صلى الله عليه وسلم في أحد، وتذكير بأنّ النّصر يوم بدر كان بسبب الثبات وصدق اللقاء وإطاعة الله والرّسول وحسن التّوكل على الله والثقة بقدرته ورحمته وفضله.
وهذا كلّه في القرآن بيان صريح للنّاس جميعا، وهداية وموعظة للمتّقين
منهم خاصة، لأنهم المنتفعون بهدي القرآن:{ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة 2/ 2]، {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ، هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان 2/ 31 - 3]، إنه بيان الأمور على نحو واضح، وكيف كان الأقدمون مع أعدائهم، وهو زاجر عن المحارم والمخالفات.
وذلك يدحض قول المشركين والمنافقين: «لو كان محمد رسولا حقّا لما غلب في وقعة أحد» مما يتبين أن سنن الله حاكمة على الأنبياء والرّسل وسائر الخلق، فما من قائد لا يطيعه جنوده ويخالفون أوامره، إلا كان جيشه عرضة للهزيمة.
وإذا عرف المؤمنون هذه الحقيقة فيجب عليهم ألا يضعفوا عن القتال بسبب ما جرى في أحد، وما يجري من مسّ السّلاح، ولا يحزنوا على ما أصابهم من قتل في أحد، فالقتيل شهيد مكرم عند الله يوم القيامة، وتلك الموقعة درس وتربية وتعليم للمسلمين، لذا
قال النّبي صلى الله عليه وسلم: «لو خيّرت بين الهزيمة والنّصر يوم أحد لاخترت الهزيمة» .
وليس لكم أن تضعفوا وتحزنوا، وأنتم الأعلون، والعاقبة والنصر لكم أيها المؤمنون، بمقتضى سنّة الله في جعل العاقبة للمتّقين، وقتلاهم في الجنّة، وقتلى الكافرين في النّار. والمراد بالنّهي عن الوهن والحزن: النّهي عن الاستسلام، والعودة إلى التّأهّب والاستعداد، مع صدق العزيمة، وقوّة الإرادة، وحسن الظّن بالله، والتّوكّل عليه والثّقة بالنّصر.
وكيف تضعفون بسبب الآلام والجراح والقتل، فإن كنتم قد أصابتكم جراح، وقتل منكم طائفة في أحد، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح، بل وتعرّضوا لألم أكثر في بدر، فإن هزمتم في أحد، فقد انتصرتم في بدر، والأيّام دول، والحرب سجال، ويوم لكم ويوم عليكم، وذلك كلّه لحكمة، فنجعل للباطل دولة في يوم، وللحقّ دولة في أيّام، والعاقبة والنّصر في النهاية
للمتّقين المخلصين. جاء في السّيرة أنّ أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد، فمكث ساعة، ثم قال: أين ابن أبي كبشة؟ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وأبو كبشة زوج حليمة السعدية، وهو أبوه من الرّضاع، أين ابن أبي قحافة؟ -أي أبو بكر-أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر، فقال أبو سفيان: يوم بيوم، والأيّام دول، والحرب سجال. فقال عمر رضي الله عنه: لا سواء، قتلانا في الجنّة، وقتلاكم في النّار، فقال: إنكم تزعمون ذلك، فقد خبنا إذن وخسرنا
(1)
.
إن تقلّب الأحوال بين الدّول ليظهر العدل ويستقرّ النظام، ويعلم الناظر في السّنن العامة، وليظهر الله علمه بتحقق إيمان المؤمنين، وانكشاف الصابرين على مناجزة الأعداء، كقوله:{لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال 37/ 8] أي ليعلم الناس الفرق بينهما ويميزوه، ولذا
قال النّبي صلى الله عليه وسلم بعد موقعة أحد لمطاردة المشركين: «لا يذهب معنا في القتال-أي في غزوة حمراء الأسد-إلا من قاتل» فذهب المؤمنون الصّادقون بالرّغم من تعبهم وعنائهم. وقد فسّرنا: {وَلِيَعْلَمَ اللهُ} بأن يظهر الله علمه بذلك للناس بما يعلم به، إذ علم الله بالأشياء ثابت في الأزل، فما يقع يكون مطابقا لعلم الله السابق في الأزل، وعلم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع، فما لا يعلمه الله تعالى لا يكون له حقيقة ثابتة.
وليعدّ الله أناسا للشهادة في سبيل الله، فيقتلون في سبيله ويبذلون أرواحهم في مرضاته، فقد فات بعض المؤمنين الاستشهاد يوم بدر، فتمنوا لقاء العدو، ليحظوا بمرتبة الشهادة. وقد كرّم الله الشهداء بالحياة البرزخية، وبالدرجة الموازية للأنبياء، فقال:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران 169/ 3]، وقال:{فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ} [النساء 69/ 4].
(1)
تفسير ابن كثير: 412/ 1، تفسير القرطبي: 234/ 4
وبصدد ذلك ذكر أضداد الشّهداء تنويها بإخلاصهم، فقال تعالى: والله يعاقب الظالمين الكافرين، بسبب ظلمهم أنفسهم وفسادهم في الأرض، وبغيهم على الناس، ويعجل زوال دولتهم وسلطتهم، لأن الظلم لا بقاء له.
ثم أكّد الله تعالى أنّ المعارك مجالات كشف وإبراز وتطهير، ففيها يتميّز المؤمنون الصادقون عن المنافقين، وبها عرف صدق الإيمان وصلابة العزيمة والثبات عند الابتلاء، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران 143/ 3]، ففي غزوة أحد تراجع المنافقون ولا ذوا بالفرار، بل إن بعض المؤمنين في أثناء المعركة هرب، وثبت الآخرون حول النّبي صلى الله عليه وسلم، فتبيّن أن تمنيات اللقاء مع العدو مجرد آمال لا قرار ولا ثبات لها،
وقد ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السّيوف» .
ومن فوائد المعارك أيضا تبيان حال الكفار، فهم إن ظفروا كما في أحد بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم، فلا بقاء ولا استمرار لهم، ولا ثبات لأحوالهم أمام المؤمنين الصادقين. وإذا هزموا كما في بدر عاجلهم الله بالدّمار والفناء، والعاقبة للمتّقين.
وقد وردت آيات كثيرة في معنى هذه الآيات منها: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرّاءُ، وَزُلْزِلُوا..} . [البقرة 214/ 2]، ومنها:{الم، أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت 1/ 29 - 2]، ومنها الآية التالية:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ} [آل عمران 142/ 3].