الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصغرى «بدر الموعد» فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان، فلم يلق أحدا؛ لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة، وكان معه ألفا رجل، قسماه أهل مكة:
«جيش السويق» وقالوا لهم: إنما خرجتم لتشربوا السويق.
ووافي المسلمون سوق بدر، وكانت معهم نفقات وتجارات، فباعوا واشتروا أدما وزبيبا، فربحوا وأصابوا بالدرهم الدرهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.
المناسبة:
هذه الآيات متصلة بما قبلها، فبعد أن ذكر الله تثبيط المنافقين للراغبين في الجهاد، وقولهم: لو قعدوا في المدينة ما قتلوا: والرد عليهم بأن الموت يحدث بقضاء الله وقدره، أبان هنا منزلة الشهداء، حتى لا يتأثر أحد بأقوال المنافقين، وليكون ذلك حثا على الجهاد في سبيل الله.
التفسير والبيان:
الآية في شهداء أحد.
يخبر الله تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في الدنيا، فإن أرواحهم حية مرزوقة في الدار الآخرة، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد، والمعنى:
لا تحسبن أيها السامع لقول المنافقين المتقدم أن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا لا يجازون على أعمالهم التي قدموها، بل هم أحياء في عالم آخر، مقربون عند ربهم، ذوو زلفى، كقوله تعالى:{فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [فصلت 38/ 41]، يرزقون مثلما يرزق سائر الأحياء، يأكلون ويشربون، وهو تأكيد لكونهم أحياء، ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله.
فالعندية (عند الله) هنا عنديّة كرامة ومكانة وتشريف، وهي تقتضي
غاية القرب، لا عندية مكان ومسافة وقرب وحدود. والحياة التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة غيبية، لا ندرك حقيقتها، ونؤمن بها كما أخبر القرآن، وقوله:{عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فيه حذف مضاف: تقديره: عند كرامة ربهم.
وهؤلاء الشهداء مسرورون بما رأوه من نعيم مقيم وفضل كبير، وتفضيل على غيرهم، بسبب الشهادة، وهم مسرورون أيضا بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد في سبيل الله، وإنما هم على الطريق سائرون يقتفون أثر من تقدمهم من قوافل الشهداء، حينما رأوا ما أعد لهم من الجزاء الحسن، وهو الحياة الأبدية والنعيم الدائم الذي لا يكدره خوف من مكروه ولا حزن على ما فات.
وهم يفرحون أيضا بما يتجدد لهم من الثواب على عملهم والرزق والفضل الإلهي الذي يؤتيهم الله من الجنة ونعيمها-والفضل في هذه الآية: هو النعيم المذكور-وأن الله يأجرهم، أي أنهم يستبشرون بنعمة من الله، ويستبشرون بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين.
وهذه الجملة بيان وتفسير لما تقدمها: {أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ؛ لأن من كان في نعمة الله وفضله لا يحزن أبدا، ومن كانت أعماله مدخرا ثوابها لا يخاف العاقبة.
وذلك تحريض على الجهاد وترغيب في الاستشهاد.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أصيب إخوانكم يوم أحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب، في ظل العرش..» إلخ الحديث المتقدم.
ثم وصفهم الله بحسن أعمالهم الذي هو سبب زيادة ثوابهم، فأخبر تعالى أن هؤلاء المجاهدين الذين استجابوا لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالذهاب للقاء أبي سفيان في
غزوة حمراء الأسد عقب غزوة أحد، بالرغم مما كانوا عليه من جراح وآلام أصابتهم يوم أحد، فلهم أجر عظيم يتناسب مع جهادهم وشجاعتهم.
وأشار بقوله: {مِنْهُمْ} إلى أن من استجاب حظي بهذا الفضل والأجر، وأما الباقون فكانت لهم موانع وأعذار في أنفسهم أو أهليهم.
ثم أشاد تعالى أيضا بمن شارك في غزوة بدر الصغرى في العام المقبل بعد أحد، بالرغم مما قال لهم الناس: أي نعيم بن مسعود الأشجعي الذي كان ما يزال مشركا: إن الناس أي أبا سفيان وأعوانه جمعوا لكم الجموع لقتالكم، فاخشوهم وخافوهم، ولا تخرجوا إليهم.
فزادهم هذا القول إيمانا بالله وثقة بوعده، وثباتا على دينه، إذ إنهم خافوه، ولم يخافوا تلك الجموع، واعتمدوا على تأييد الله وعونه ونصره، بعد أن صدقت نياتهم، واشتدت عزائمهم للقاء المشركين مهما كانت النتائج، وذلك مثل قوله تعالى في وصف المؤمنين في غزوة الخندق (الأحزاب):{وَلَمّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلاّ إِيماناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب 22/ 33].
وقالوا معبّرين عن صدق إيمانهم بالله: الله كافينا ما يهمنا من أمر الجموع، ونعم الوكيل الذي فوضنا أمورنا إليه، نعم المولى ونعم النصير. وهي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار
(1)
، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال أحد الناس: إن الناس (المشركين) قد جمعوا لكم فاخشوهم. ويستحب قولها عند الغم والمصيبة وإحاطة الداهية.
(1)
روى البخاري عن ابن عباس قال: «كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل» .
أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقعتم في الأمر العظيم، فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل»
(1)
.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتد غمّه، مسح بيده على رأسه ولحيته، ثم تنفس الصّعداء، وقال: حسبي الله ونعم الوكيل» .
ولما فوضوا أمورهم إلى الله واتكلوا عليه، عادوا بأربعة جزاءات: النعمة من الله، والفضل، وصرف السوء، واتباع ما يرضي الله فرضي عنهم، أي لما توكلوا على الله وخرجوا للقاء عدوهم، كفاهم ما أهمهم، ورد عنهم بأس من أراد كيدهم، وربحوا في تجارتهم، ولم يصبهم قتل ولا أذى، واتصفوا بطاعة رسولهم ورضا ربهم الذي هو أساس النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، والله صاحب الفضل العظيم عليهم إذ تفضل عليهم بزيادة الإيمان، والتوفيق إلى الجهاد، والحفظ من السوء الذي يضمره لهم عدوهم.
وفي هذا إشارة إلى خسارة القاعدين المتخلفين؛ إذ حرموا ما حظي به غيرهم، وهو معنى قوله تعالى:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ} .
روى البيهقي عن ابن عباس في قول الله: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ} قال: «النعمة: أنهم سلموا، والفضل: أن عيرا مرت في أيام الموسم، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربح فيها مالا، فقسمه بين أصحابه» .
وأخرج الطبري عن السدي قال: «أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج في بدر الصغرى أصحابه دراهم، ابتاعوا بها في الموسم، فأصابوا ربحا كثيرا» .
ثم قال تعالى: {إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ} أي يخوفكم أولياءه،
(1)
هذا حديث غريب من هذا الوجه، وله مؤيدات كثيرة (انظر تفسير ابن كثير: 430/ 1).