الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم أبان الله تعالى بعد وصف المتّقين بالأوصاف السابقة: أن أولئك المتّقين الموصوفين بهذه الصّفات جزاؤهم مغفرة من ربّهم على ذنوبهم، وأمن من العقاب، ولهم ثواب عظيم عند ربّهم في جنّات تجري من تحتها الأنهار، أي من أنواع المشروبات، وهم خالدون فيها أي ماكثون فيها، ونعم هذا الجزاء على تلك الأعمال الصالحة وهو الجنة، فهو تعالى يمدح الجنة، وحقّ له المدح، ففيها النعيم الأبدي المطلق، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات (130 - 132) على تحريم الرّبا من نواح أربعة: النّهي عنه {لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا} واتّقاء الله في أموال الرّبا فلا تأكلوا، والوعيد لمن استحلّ الرّبا بالنّار، ومن استحلّ الرّبا فإنه يكفر، والأمر بإطاعة الله في تحريم الرّبا، وإطاعة الرّسول فيما بلّغ الناس من التّحريم، كي يرحمهم الله.
قال مجاهد: كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حلّ الأجل زادوا في الثّمن على أن يؤخّروا، فأنزل الله عز وجل:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً} .
قال القرطبي
(1)
: وإنما خصّ الرّبا هنا من بين سائر المعاصي؛ لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة 279/ 2]، والحرب يؤذن بالقتل؛ فكأنه يقول: إن لم تتّقوا الرّبا هزمتم وقتلتم، فأمرهم بترك الرّبا؛ لأنه كان معمولا به عندهم.
ودلّت عبارة {أَضْعافاً مُضاعَفَةً} المؤكّدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حالة التّضعيف خاصة، فإنهم كانوا يكرّرون التّضعيف عاما بعد عام.
(1)
تفسير القرطبي: 202/ 4
ودلّت آية {وَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} على أنّ النّار مخلوقة، ردّا على الجهمية؛ لأنّ المعدوم لا يكون معدّا.
وأرشدت آية {وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ} إلى وجوب المبادرة إلى ما يوجب المغفرة، وهي الطاعة، وقدم المغفرة على الجنّة؛ لأنّ التّخلي مقدم على التّحلي، فلا يستحقّ دخول الجنّة من لم يتطهّر من الذّنوب أولا.
واختلف العلماء في تأويل قوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ} فقال ابن عبّاس: تقرن السّموات والأرض بعضها إلى بعض، كما تبسط الثياب، ويوصل بعضها ببعض، فذلك عرض الجنّة، ولا يعلم طولها إلا الله. وهذا قول الجمهور. ولم تقصد الآية تحديد العرض، ولكن أراد بذلك أنها أوسع شيء رأيتموه. وأشارت آية {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} إلى أن الجنّة مخلوقة موجودة كالنّار، وهذا قول عامّة العلماء. ويؤيده نص حديث الإسرار وغيره في الصحيحين وغيرهما،
وحديث أبي ذر عن النّبي صلى الله عليه وسلم: «ما السّموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض» .
وقالت المعتزلة: إنهما غير مخلوقتين في وقتنا، وإن الله تعالى إذا طوى السّموات والأرض، ابتدأ خلق الجنّة والنّار حيث شاء؛ لأنهما دار جزاء بالثّواب والعقاب، فخلقتا بعد التّكليف في وقت الجزاء؛ لئلا تجتمع دار التّكليف ودار الجزاء في الدّنيا؛ كما لم يجتمعا في الآخرة.
ويلاحظ أنه تعالى أمر بالمسارعة إلى عمل الآخرة في آيات كثيرة:
{وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ} [آل عمران 133/ 3]، {سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ} [الحديد 21/ 57]، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ} [البقرة 148/ 2]، {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ} [الجمعة 9/ 62]، {وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ} [المطففين 26/ 83]، وأما السّعي للدّنيا فذكر بها تذكيرا برفق مثل:{فَامْشُوا فِي مَناكِبِها}
[الملك 15/ 67]، {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} [المزمل 20/ 73]. وفي الآية (134) صفات المتّقين الأبرار: وهي الإنفاق في الرّخاء والشّدة، وفي حال الصّحة والمرض؛ وكظم الغيظ وكتمه وردّه في الجوف دون إنفاذ وإمضاء مع القدرة على ذلك، والغيظ أصل الغضب والفرق بينهما: أن الغيظ لا يظهر على الجوارح (الأعضاء) بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل ما، ولا بدّ أن يظهر، ولهذا جاء إسناد الغضب إلى الله تعالى؛ إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم؛ والعفو عن النّاس عند الإساءة، وكل من استحقّ عقوبة فتركت له، فقد عفي عنه، والإحسان بعد الإساءة أعلى المراتب، والإحسان: أن تحسن وقت الإمكان، فليس كلّ وقت يمكنك الإحسان. ومعنى قوله:{وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي يثيبهم على إحسانهم.
وهذه أصول الفضائل وأمّهات مكارم الأخلاق. ثم ذكر الله تعالى بقوله:
{وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً..} . صنفا هم دون الصنف الأول، فألحقهم به برحمته ومنّه، وهم التّوابون. ذكر التّرمذي وقال: حديث حسن،
وأبو داود الطيالسي في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر-وصدق أبو بكر-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يذنب ذنبا، ثم يتوضأ ويصلّي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر له» ، ثم تلا هذه الآية:{وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، ذَكَرُوا اللهَ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ..} . الآية، والآية الأخرى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء 110/ 4]. والفاحشة تطلق على كلّ معصية، وقد كثر اختصاصها بالزّنى، حتى فسّر جابر بن عبد الله والسّدّي هذه الآية بالزّنى. وذكر الله: معناه الخوف من عقابه والحياء منه، وذكر العرض الأكبر على الله، والتّفكر في النّفس أن الله سائل عن الذّنب.
والاستغفار عظيم وثوابه جسيم، ووقته الأسحار،
روى التّرمذي عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم،
وأتوب إليه، غفر له، وإن كان قد فرّ من الزّحف».
وروى مكحول عن أبي هريرة قال: «ما رأيت أكثر استغفارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم» . قال علماء المالكية: الاستغفار المطلوب: هو الذي يحلّ عقد الإصرار، ويثبت معناه في الجنان، لا التّلفّظ باللسان. فأما من قال بلسانه: أستغفر الله، وقلبه مصرّ على معصيته، فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرته لا حقة بالكبائر. قال الحسن البصري: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
وليس أحد يغفر المعصية، ولا يزيل عقوبتها إلا الله تعالى.
والباعث على التوبة وحلّ الإصرار: إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار، وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنّة، ووعد به المطيعين، وما وصفه من عذاب النار وتهدّد به العاصين، ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه، فدعا الله رغبا ورهبا، والرّغبة والرّهبة: ثمرة الخوف والرّجاء، يخاف من العقاب، ويرجو الثّواب، والله الموفق للصّواب.
وتصحّ التّوبة بعد نقضها بمعاودة الذّنب؛ لأن التّوبة الأولى طاعة وقد انقضت وصحّت، وهو محتاج بعد مواقعة الذّنب الثّاني إلى توبة أخرى مستأنفة، والعود إلى الذّنب وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه أضاف إلى الذّنب نقض التّوبة، فالعود إلى التّوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه أضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، وأنه لا غافر للذّنوب سواه. ودليل ذلك
ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبي صلى الله عليه وسلم، فيما يحكي عن ربّه عز وجل قال: «أذنب عبد ذنبا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى:
أذنب عبدي ذنبا، فعلم أنّ له ربّا يغفر الذّنب، ويأخذ بالذّنب، ثم عاد فأذنب فقال: أيّ ربّ اغفر لي ذنبي-فذكر مثله مرّتين، وفي آخره: اعمل ما شئت فقد غفرت لك». ومعنى العبارة الأخيرة وهو الأمر: الإكرام، فيكون من باب قوله:{اُدْخُلُوها بِسَلامٍ} .
ودلّت الآية وهذا الحديث على عظيم فائدة الاعتراف بالذّنب والاستغفار منه، أخرج الشّيخان في صحيحيهما،
قال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله، تاب الله عليه» .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون، فيغفر لهم» وهذه فائدة اسم الله تعالى: الغفار والتّواب.
أنواع الذّنوب: الذّنوب التي يتاب منها: إما كفر أو غيره، فتوبة الكافر: إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره، وليس مجرّد الإيمان نفسه توبة.
وغير الكفر إما حقّ الله تعالى، وإما حقّ لغيره.
فحقّ الله تعالى يكفي في التّوبة منه التّرك، لكن مع القضاء كالصّلاة والصّوم، أو مع الكفارة كالحنث في الأيمان والظهار وغير ذلك.
وأما حقوق الآدميين: فلا بدّ من إيصالها إلى مستحقيها، فإن لم يوجدوا تصدّق عنهم. فإن كان معسرا فعفو الله مأمول وفضله مبذول.
وليس على الإنسان إذا لم يذكر ذنبه ويعلمه: أن يتوب منه بعينه، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنبا تاب منه.
ودلّ قوله: {وَلَمْ يُصِرُّوا} على أنّ الإنسان يؤاخذ بما وطّن عليه بضميره، وعزم عليه بقلبه من المعصية. وهذا يدلّ على أنّ الهم بالمعصية يؤاخذ عليه إن وطّن نفسه عليها
(1)
. وأما معنى
قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة واحدة» أي لم يعزم على عملها، فإن أظهرها أو عزم عليها عوقب عليها. وفي التّنزيل:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} [الحجّ 25/ 22] عوقبوا قبل فعلهم بعزمهم.
(1)
تفسير القرطبي: 215/ 4