الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{هُمْ دَرَجاتٌ} أصحاب درجات {عِنْدَ اللهِ} أي مختلفو المنازل، فلمن اتبع رضوانه الثواب، ولمن باء بسخطه العقاب {وَاللهُ بَصِيرٌ} أي يشاهد ويرى كل شيء.
{لَقَدْ مَنَّ} أنعم وتفضل {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} عربيا من جنسهم، ليفقهوا كلامه ويشرفوا به.
{وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من الذنوب وأدران الوثنية والعقيدة الفاسدة {الْكِتابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} السنة النبوية {مِنْ قَبْلُ} أي قبل بعثته {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي ضلال بيّن واضح لا ريب فيه.
سبب النزول:
أخرج أبو داود والترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء، افتقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فأنزل الله:{وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} .
وقال الكلبي ومقاتل: إن هذه الآية نزلت حين ترك الرماة المركز الذي وضعهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، طلبا للغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئا من مغنم فهو له، وألا يقسم الغنائم، كما لم يقسمها يوم بدر،
فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال لهم: بل ظننتم أنّا نغل ولا نقسم»
(1)
.
التفسير والبيان:
تتابع الآيات في بيان صفات النبي صلى الله عليه وسلم ومهامه في إصلاح أمته، فما كان من شأنه أن يخون، بل وما كان لنبي أن يخون؛ لأن الله عصم أنبياءهم عما لا يليق بمقامهم؛ لأن النبوة منزلة عالية تربأ بصاحبها عن فعل ما فيه دناءة وخسة، مما يدل على هول الاتهام والخطأ الصادر من المنافقين بنسبة الخيانة والغلول من المغنم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو منه براء.
(1)
أسباب النزول للواحدي: ص 72 - 73
وكل من يخون فيأخذ شيئا من الغنائم خفية، يأتي به يوم القيامة حاملا إياه على عنقه، أي متحملا مسئولية فعله ووزر ما ارتكبه.
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، أيدته السنة النبوية،
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا، فذكر الغلول وعظمه، وعظم أمره ثم قال:
ألا لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول:
يا رسول الله، أغثني، فأقول له: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة
(1)
فيقول:
يا رسول الله، أغثني، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق
(2)
، فيقول:
يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت
(3)
، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك» وهذا كله من قبيل تمثيل الذنب وثقله وفضيحة صاحبه، وأنه يتحمل وزره يوم القيامة، كما جاء في آية أخرى:{وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ} [الأنعام 31/ 6].
فأخذ أي شيء بغير حق يستوجب العقاب، كما قال تعالى حكاية عن لقمان:
(1)
حمحمة الفرس: صوته دون الصهيل. والثغاء: صياح الغنم.
(2)
الرقاع: هي التي يكتب عليها، وأراد بها ما عليها من الحقوق المكتوبة، وخفوقها: حركتها.
(3)
الصامت: الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان.
ثم توفى كل نفس في الآخرة ما كسبت من خير أو شر، فينال الغالّ وغيره جزاء فعله دون ظلم، لا ينقص منه شيء، كما قال تعالى:{وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ، لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف 49/ 18].
ثم بين سبحانه نفي المساواة بين المحسن والمسيء، فأخبر أن من اتقى الله وعمل صالحا لا يستوي مع من عصى الله وعمل سوءا، أي فلا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه، فاستحقّ به رضوان وجزيل ثوابه وأمن العذاب، ومن استحق غضب الله وألزم به، فلا محيد له عنه، ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير. وهذا مثل قوله تعالى:{أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً، لا يَسْتَوُونَ} [السجدة 18/ 32] وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ} [ص 28/ 38].
وإن لكل من أهل الخير وأهل الشر درجات ومنازل، يتفاوتون فيها، فللمتقين الطائعين درجات في الجنة، وللعصاة دركات في النار، فهم يتفاوتون في الجزاء بسبب تفاوت أعمالهم في الدنيا.
فأعلى الدرجات درجة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأسفل الدركات درك المنافقين:{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} [النساء 145/ 4] والله تعالى بصير بأعمال العباد، فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم بدءا من تزكية نفوسهم إلى أرفع الدرجات، ومن إهمال التزكية إلى أسفل الدركات، كما قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها} [الشمس 9/ 91 - 10]. وسيوفيهم جزاء
أعمالهم، لا يظلمهم خيرا، ولا يزيدهم شرا، بل يجازي كل عامل بعمله.
ثم بيّن تعالى ما امتن وتفضل به على الناس، فأرسل نبيه محمدا متصفا بأوصاف ومكلفا بمهام هي:
-إنه عربي من ولد إسماعيل من جنس قومه، مما يدعوهم إلى الاهتداء به والثقة برسالته، فضلا عن أنهم شرفوا به، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف 44/ 43] وتخصيصهم بالذكر يقتضيهم مزيد الانتفاع به، وإن كان هو للناس كافة، كما قال تعالى:{وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} [الأنبياء 107/ 21].
-إنه يتلو عليهم آيات الله الدالة على قدرته ووحدانيته وعلمه وكمال أوصافه، كما أشار تعالى في آية:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ} [آل عمران 190/ 3].
-إنه يزكيهم ويطهرهم من زيف الوثنية وفساد العقيدة الجاهلية، كاعتقادهم بتأثير الأصنام والأحجار، وبدلالة الطير، وغير ذلك من الأوهام والخرافات، وينقلهم إلى معطيات العقل الصحيح والفكر الناضج، والمدنية والحضارة، وإقامة الدولة والإدارة والسياسة التي تفاخر العالم وتنافس المجتمع الدولي القائم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم.
-إنه يعلمهم القرآن والسنة، فيصبح منهم العلماء والكتاب والحكماء والقادة وأساتذة العلوم والمعارف والثقافات المتنوعة، وإن كانوا من قبل هذا الرسول لفي غي وجهل ظاهر، إذ كانوا أمة أمية، فأصبحوا بنور الإسلام، وعلم القرآن، ومعرفة الحياة أمة متمدنة متحضرة نافست الأمم الأخرى وسبقتهم.