الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا التحريم لا يشمل ما قد سلف قبل التحريم، فما مضى لا مؤاخذة فيه.
إن الله كان وما يزال غفورا رحيما يغفر لكم ما قد سلف من آثار أعمالكم السيئة، ويغفر لكم ذنوبكم بالتوبة والإنابة، ويرحمكم بتشريع أحكام الزواج التي فيها الخير والمصلحة لكم وتوثيق الروابط بينكم.
فقه الحياة أو الأحكام:
وضح في أثناء التفسير كثير من الأحكام الشرعية، وأوجزها هنا مع الإشارة إلى أحكام أخرى.
دلت الآية: {وَلا تَنْكِحُوا} على تحريم منكوحة الأب أو الجد، إلا ما قد سلف، والاستثناء منقطع، أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه ولا إثم فيه، فهو كما وصف سبحانه:{إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً} وهو دليل على أنه فعل في غاية من القبح، لذا سماه العرب نكاح المقت: وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها. ويقال للولد إذا ولدته: المقتيّ. وأصل المقت: البغض.
واختلف العلماء فيمن زنى بها الأب، أتحرم على ولده كما حرمت عليه زوجته، أم لا تحرم، فيكون الوط ء الحرام غير ناشر للحرمة كالوط ء الحلال.
واختلفوا في الزنى بأم الزوجة، أيحرم الزوجة أم لا يحرمها؟ ذهب إلى الرأي الأول الحنفية والأوزاعي والثوري ومالك في رواية ابن القاسم عنه، وذهب إلى الثاني الليث والشافعي ومالك في رواية الموطأ عنه، وهو الراجح لدى المالكية.
وسبب الخلاف: الاشتراك في لفظ النكاح، فهو يطلق على الوط ء وعلى العقد، فمن قال: إن المراد به في الآية الوط ء، حرم من وطئت ولو بزنا. ومن
إطلاقه على الوط ء قوله تعالى: {حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة 230/ 2]{الزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور 3/ 24] إذ لو كان العقد للزم الكذب، وقوله:{وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ} [النساء 6/ 4]
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ضعيف: «ناكح اليد ملعون» .
ومن قال: المراد به العقد لم يحرم بالزنا. ومن إطلاقه على العقد قوله تعالى: {إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب 49/ 33] وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} [النور 32/ 24] وقوله:
{فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ} [النساء 3/ 4]
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه:
«النكاح من سنتي» أي العقد،
وقوله في الحديث الثابت: «أنا من نكاح ولست من سفاح» .
فما الراجح أن تحمل عليه الآية أهو الوط ء أم العقد؟ ذهب الحنفية: إلى أن الراجح أن يكون المراد بالنكاح في الآية الوط ء؛ لأن النكاح حقيقة في الوط ء مجاز في العقد، والحمل على الحقيقة أولى، حتى يقوم الدليل على الحمل على المجاز، وإذا كان المراد به الوط ء، فلا فرق بين الوط ء الحلال والوط ء الحرام. والوط ء آكد في إيجاب التحريم من العقد؛ لأنا لم نجد وطئا مباحا إلا وهو موجب للتحريم كالوط ء بملك اليمين ونكاح الشبهة، وقد وجدنا وطئا صحيحا لا يوجب التحريم وهو العقد على الأم لا يوجب تحريم البنت، ولو وطئها حرمت، فعلمنا أن وجود الوط ء علة لإيجاب التحريم، فكيفما وجد ينبغي أن يحرم، سواء كان مباحا أو محظورا.
ورأى الشافعية: أن النكاح وإن كان مجازا في العقد، ولكنه اشتهر فيه، حتى صار حقيقة فيه، كالعقيقة كانت اسما لشعر المولود، ثم أطلقت على الشاة التي تذبح عند حلقة مجازا، واشتهر ذلك حتى صارت حقيقة فيها، تفهم منها عند الإطلاق. وقد عبر الله بجانب هذه المحرمات بما يفيد الزوجية كقوله:
{وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ} {وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ} . ثم إنه كيف يجعل للزنا حرمة وهو فاحشة ومقت؟ ثم إن النسب لا يثبت بالزنا، فكذلك التحريم لا يثبت بالزنا.
وهذا هو الراجح.
ودلت آية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ..} . على تحريم سبع من النسب وهي: الأم ومثلها الجدات وان علون، والبنت ومثلها بنت الأولاد وإن سفلن، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت.
وتحريم الأم من الآية؛ لأن الأم حقيقة في الأم مباشرة، مجاز في الجدة، ويكون تحريم الجدات من الإجماع، وقال بعضهم: من الآية؛ لأن الأم تطلق على الأم المباشرة والجدة من باب المشترك المعنوي.
وأما البنت من الزنى فهل هي داخلة في قوله: {وَبَناتُكُمْ} ؟ قال أبو حنيفة: إنها داخلة في الآية ولها حرمة البنت الشرعية؛ لأنها متخلقة من مائه وبضعة منه، فحرمها عليه، فهو قد نظر إلى الحقيقة. وقال الشافعي:
ليست داخلة في الآية، فلا تكون حراما، وليس لها حرمة البنت الشرعية؛ لأن الشارع لم يعطها حكم البنتيه، فلم يورثها منها، ولم يبح الخلوة بها، ولم يجعل له عليها ولاية، وليس له أن يستلحقها به
لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» .
ورجح بعض علماء العصر رأي أبي حنيفة قياسا على ولد الزنا، فإنه تحرم عليه أمه؛ لأنه متخلق منها. ورأى آخرون ترجيح رأي المالكية والشافعية، حتى لا يجعل الزنى في مرتبة القرابة والمصاهرة والرضاع، والقاعدة الشرعية تقرر أن النقمة لا تكون طريقا إلى النعمة.
ودلت الآية على تحريم ست بغير النسب وهم:
الأم من الرضاع، والأخت من الرضاع، ومثلهما جميع أصول وفروع
المرضع. وأمهات الزوجات، والربائب المدخول بأمهن، وزوجات الأبناء، والجمع بين الأختين، ومثل الأخت: العمة والخالة وابنة الأخ وابنة الأخت.
وأما زوجة الابن المتبنى فأحلها الإسلام، خلافا لما كان عليه العرب في الجاهلية،
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه عليه الصلاة والسلام، عملا بقوله تعالى:{فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ} [الأحزاب 37/ 33] وقوله: {اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ} [الأحزاب 5/ 33].
وقد استنبط العلماء من قوله تعالى: {وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ.} . القاعدة الشرعية وهي: «العقد على البنات يحرّم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات» فأم المرأة تحرم بمجرد العقد على بنتها، سواء دخل بها أو لم يدخل بها. وأما الربيبة: وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد حتى يدخل بأمها، فإن طلق الأم قبل الدخول بها، جاز له أن يتزوج بنتها.
ودل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} على أن تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه. وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحرمات، فهو تحريم مؤبد دائم.
والتحريم بالرضاع مثل التحريم بالنسب تماما،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . ويجوز للمرأة أن يحج معها أخوها من الرضاعة، كما صرح الإمام مالك رحمه الله.
وأجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء، وما عقد عليه الأبناء على الآباء، سواء كان مع العقد وط ء أو لم يكن؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا
ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ} وقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} . فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح؛ لأن النكاح الفاسد إن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه، وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلّق بالصحيح؛ لاحتمال أن يكون نكاحا، فيدخل تحت مطلق اللفظ، والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلّب التحريم. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطأ بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه، وعلى أجداده وولد ولده.
أما الوط ء بالزنى فهو يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال في رأي الحنفية، بدليل قصة جريج، وقوله:«يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي» فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرّم الوط ء الحلال.
وقال المالكية والشافعية: إن الزنى لا حكم له؛ لأن الله تعالى قال:
{وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ} وليست التي زنى بها من أمّهات نسائه، ولا ابنتها من ربائبه،
روى الدارقطني عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: «لا يحرم الحرام الحلال، إنما يحرم ما كان بنكاح» .
وأما اللائط: فقال مالك والشافعي والحنفية: لا يحرم النكاح باللواط.
وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها: أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة.
واختلفوا إذا طلقها طلاقا بائنا لا يملك رجعتها، فقال الحنفية والحنابلة:
ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلّق. وقال المالكية والشافعية: له أن ينكح أختها وأربعا سواها.
وإذا عقد المسلم على أختين في عقد واحد بطل نكاحها عند أبي حنيفة.
ويخير بين الأختين في رأي مالك والشافعي، سواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما، أو جمع بينهما في عقدين.
وأما النكاح القائم بين الأختين في الجاهلية فهو نكاح صحيح، ثم يخير بينهما إذا أسلم الزوج.
والخلاصة: روى هشام بن عبد الله بن محمد بن الحسن أنه قال: كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرّمات كلّها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين:
إحداهما-نكاح امرأة الأب.
والثانية-الجمع بين الأختين.
ألا ترى أنه قال: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ} {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ} ولم يذكر في سائر المحرمات: {إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ} .
انتهى الجزء الرابع ولله الحمد