الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ} أي عما كان من الفرار، ولم يؤاخذهم في الآخرة، وجعل عقوبتهم في الدنيا درسا وتربية وتمحيصا، وهذا يفتح أمامهم باب الأمل، ويدفع استيلاء اليأس على نفوسهم.
إن الله غفور يغفر الذنوب جميعها صغيرها وكبيرها بعد التوبة والاعتراف بالتقصير، حليم لا يعجل بالعقوبة على الذنب، وإنما يترك فرصة للعبد لتصحيح أخطائه، ومعالجة تقصيره.
فقه الحياة أو الأحكام:
الناس في الماضي كالناس في الحاضر يعيشون في الأحلام والخيالات، فهم ينتظرون النصر منحة إلهية خالصة للمؤمنين، دون أن يقوموا بواجباتهم ويعملوا بما تقتضيه متطلبات الحروب مع العدو، فهم المكلفون من الخلق بالجهاد وحمل الأمانة، وإذا جاهدوا وصبروا وثبتوا، أيدتهم العناية الإلهية، وتحقق لهم النصر والفوز.
والله صادق الوعد بنصر المؤمنين ما داموا على الحق ثابتين، وفي ميدان المعارك مجاهدين صابرين مطيعين متوحدين غير متفرقين، وأما الجبن والضعف والتفرق والنزاع والأطماع الدنيوية فهي سبب الخذلان والهزيمة المنكرة، وقد صدق الله وعده للمؤمنين في أحد، وأراهم الفتح في بداية المعركة حين صرع صاحب لواء المشركين وقتل معه سبعة نفر، فلما عصوا وخالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على جبل الرماة، واشتغلوا بالغنيمة أعقبهم البلاء، وأدى بهم إلى الجراح والقتل، والهزيمة وفرار الناس من حول قائدهم النبي.
وتغير وجه المعركة من نصر إليه هزيمة، فبعد أن استولى المسلمون على المشركين ردهم عنهم بالانهزام، لقوله تعالى:{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} وهذا دليل على أن المعصية مخلوقة لله تعالى.
ولكن من لطف الله بعباده الذين أخطئوا هذه المرة أن عفا عنهم، ولم يستأصلهم بالمعصية والمخالفة، والله ذو فضل دائم على المؤمنين بالعفو والمغفرة، قال ابن عباس: ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم كما نصر يوم أحد، فأنكر الصحابة ذلك، فقال لهم: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول في أحد:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} والحسّ: القتل.
ولم يكن فرار المسلمين في أحد مقبولا؛ لأن القائد وهو النبي صلى الله عليه وسلم ما يزال صامدا يقاتل في قلب المعركة، ويدعو الفارّين إلى العودة والكرّ، فلما لم يرجعوا جازاهم الله بالغم والحزن وهو القتل والجراح وعدم الظفر بالغنيمة، بسبب الغم والضيق الذي ملأ قلب النبي صلى الله عليه وسلم لمخالفتهم إياه. وسمي الغم ثوابا كما سمي جزاء الذنب ذنبا.
ولكن فضل الله ورحمته بالمؤمنين بعد هذا الغم ألقى عليهم النعاس أو النوم ليشعرهم بالأمن وليجددوا عزائمهم وترتاح نفوسهم من بعد هذه الهزيمة. أما المنافقون فظلوا في قلقهم واضطرابهم لا ينامون ولا يشعرون بالطمأنينة والأمن، ويقولون:{هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} استفهام معناه الجحد والإنكار، أي ما لنا شيء من أمر الخروج، وإنما خرجنا كرها، بدليل قولهم:{لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا} قال الزبير: أرسل علينا النوم ذلك اليوم، وإني لأسمع قول معتّب بن قشير، والنعاس يغشاني يقول:{لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا} . وقيل: المعنى: يقول ليس لنا من الظّفر الذي وعدنا به محمد شيء.
فرد الله تعالى عليهم: {إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ} أي النصر بيد الله، ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء. والأجل والعمر بيد الله، وما من ميت إلا ويموت بأجله، سواء في الحرب وساحاتها، أم في المنازل والمضاجع وغرفها وحدائقها.
وهكذا كان أهل غزوة أحد بعد انتهائها فريقين: