الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقق الله نصركم يوم بدر وأمدكم بالملائكة ليهلك طائفة من رؤوس الكفر والشرك بالقتل والأسر، فقد قتل يوم بدر سبعون وأسر سبعون من رؤساء قريش وصناديدهم؛ أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة، فينقلبوا خائبين غير ظافرين بمبتغاهم، وذلك نحو قوله تعالى:{وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ، لَمْ يَنالُوا خَيْراً} [الأحزاب 25/ 33]؛ أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا إلى الله؛ أو يعذبهم إن أصروا على الكفر والعداوة، فيكونون ظالمين لأنفسهم.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الأمر كله بيد الله، فقال: ليس لك يا محمد من أمر البشر شيء، وما عليك إلا تنفيذ أمري وإطاعتي، وإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، فلا تتألم منهم، ولا تدع عليهم، فربما تاب بعضهم، وقد تاب وأسلم أبو سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية.
ثم أكد سبحانه وتعالى أن الأمر بيده، فلله ملك السماء والأرض وما فيهما، وكلهم خلقه وعبيده، يحكم فيهم بما يشاء، فيغفر لمن يشاء المغفرة له، ويعذب من يشاء تعذيبه، بحكمة وعدل، وهو الغفور الذي يستر ذنوب من أحب من أوليائه، الرحيم بأهل طاعته، فيعفو ويصفح، ويترك العقاب عاجلا أو آجلا.
وفي ذلك تعليم للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته؛ إذ الأمر كله لله، والكل خاضعون له، لا فرق في ذلك بين ملك مقرّب أو نبي مرسل أو بشر آخر ممن خلق، إلا من سخره الله لمهمة أو أذن له بشفاعة، على وفق السنة الكونية العامة، وبمقتضى المشيئة الإلهية المطلقة، ولحكمة قد لا ندركها إلا يوم القيامة.
فقه الحياة أو الأحكام:
خلاصة ما دلت عليه الآيات ما يأتي:
-لا بد للبشر في كل أمورهم من اتخاذ الأسباب والقيام بواجباتهم المعتادة،
سواء في حال السلم أو في حال الحرب والقتال، ومنها إعداد القوة وتعبئة الجيش وتنظيم المقاتلين.
-ومن اتخاذ الأسباب المطلوبة في الظاهر والفعل: إطاعة أوامر الله والقائد، فقد انتصر المسلمون في بدر، وأمدهم الله تعالى بالملائكة فعلا، وشاركوهم في القتال، لما صبروا وثبتوا واتقوا وأطاعوا الله سبحانه، وهزموا في أحد لما خالفوا أوامر النبي صلى الله عليه وسلم وتركوا مواقعهم في جبل الرماة، وهذا دليل واضح على أثر التقوى والصبر في غزوتي بدر وأحد، كما أن لهما أثرا في التعامل مع الأعداء، فإن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيدهم شيئا، كما في الآية (120).
-وإنجاز النصر مرهون بنصر الله تعالى ودينه، وتحقيق النتائج إنما هو بيد الله تعالى وحده، ولله الأمر كله، وله ملك السموات والأرض وما فيهن.
أما تفصيل دلالات الآيات وأهم الأحداث التي صاحبت غزوتي بدر وأحد فهو ما يأتي:
1 -
لا بد لكل قائد حربي من وضع خطة استراتيجية للمعركة التي يخوضها مع الأعداء، ولا بد من تنظيم صفوف المقاتلين وترتيب مواقعهم وإنزالهم في أماكن معينة يتم من خلالها لقاء المحاربين، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بوصفه قائد الحرب في معركة أحد، كما أشارت الآية:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ.} ..
2 -
إن صدق الإيمان وإخلاص المقاتلين يعصمان من الوساوس والهم بالشيء وأحاديث النفس، كما عصم الله طائفتي بني حارثة وبني الأوس من الأنصار من التراجع بقوله:{وَاللهُ وَلِيُّهُما} حين رجع المنافقون إلى المدينة.
3 -
شارك النبي صلى الله عليه وسلم فعلا في القتال في تسع غزوات، منها غزوة أحد، وفيها جرح في وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة
(الخوذة)
(1)
من على رأسه، وكان الذي رماه في وجهه عمرو بن قميئة الليثي، الذي أدمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص.
4 -
كان من كوارث أحد أن قتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم وسيد الشهداء، قتله وحشي الذي كان مملوكا لجبير بن مطعم، وقد كان جبير قال له: إن قتلت محمدا جعلنا لك أعنة الخيل، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلنا لك مائة ناقة كلّها سود الحدق، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر.
فقال وحشي: أما محمد فعليه حافظ من الله لا يخلص إليه أحد. وأما علي ما برز إليه أحد إلا قتله. وأما حمزة فرجل شجاع، وعسى أن أصادفه فأقتله.
وكانت هند كلما تهيأ وحشي أو مرّت به قالت: إيها أبا دسمة، اشف واستشف. فكمن له خلف صخرة، وكان حمزة حمل على القوم من المشركين؛ فلما رجع من حملته، ومرّ بوحشي زرقه بالمزراق (رمح قصير) فأصابه فسقط ميّتا، رحمه الله ورضي عنه. قال ابن إسحاق: فبقرت هند عن كبد حمزة، فلاكتها، ولم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها، فقالت أبياتا مطلعها:
نحن جزيناكم بيوم بدر
…
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر
…
ولا أخي وعمّه وبكري
5 -
دل قوله تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} على أن التوكل على الله من الإيمان. والتوكل في اللغة: إظهار العجز والاعتماد على الغير. وأما في الشرع فليس هو ترك الأسباب، كما زعم قوم، وإنما هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من
(1)
وهي زرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.
مطعم ومشرب وتحرز من عدوّ، وإعداد الأسلحة، واستعمال سنة الله تعالى المعتادة
(1)
. و
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر، وهو ضعيف:«إن الله يحب العبد المؤمن المحترف» .
6 -
أرشدت الآيات {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ} [123 - 125] إلى أن الله تعالى نصر عباده المؤمنين في بدر أول لقاء مسلح مع المشركين، فرق الله بين الحق والباطل وسماه «يوم الفرقان» ، وأسفر عن معركة حاسمة بعيدة المدى في التاريخ الإنساني، وأمد الله تعالى به المؤمنين بالملائكة، باعتباره سببا من أسباب النصر، لتطمئن قلوبهم وتتعلق بالله وتثق به، وليمتثلوا ما أمرهم به من اتخاذ الأسباب التي قد خلت من قبل:{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب 62/ 33].
أما في الحقيقة فالناصر هو الله تعالى بسبب وبغير سبب: {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ} [يس 82/ 36].
وأما كلمة {مُسَوِّمِينَ} بكسر الواو اسم فاعل: فمعناها أنهم أعلموا أنفسهم بعلامة، وأعلموا خيلهم، وقال كثير من المفسرين: مسوّمين أي مرسلين خيلهم في الغارة. وأما بفتح الواو اسم مفعول: فالمعنى: معلّمين بعلامات. وعلى القراءة الأولى اختلفوا في سيما الملائكة،
فروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما «أن الملائكة اعتمّت بعمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم» ذكره البيهقي عن ابن عباس، وحكاه المهدوي عن الزجاج. وقال الربيع: كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق
(2)
.
وذلك دليل على اتخاذ الشارة (الهيئة) والعلامة للقبائل والكتائب، يجعلها السلطان لهم، لتتميز كل قبيلة وكتيبة عن غيرها عند الحرب.
(1)
تفسير القرطبي: 189/ 4
(2)
البلق: سواد وبياض.
7 -
إن الإمداد بالملائكة يوم بدر كان إمدادا فعليا، لا معنويا، بدليل الثابت في الروايات الكثيرة في السنة النبوية. وقد جعله الله بشرى للمؤمنين بالنصر وتطمينا لقلوبهم، وإهلاكا لأعدائهم. والنصر الحقيقي بسبب أو بغير سبب هو من عند الله القوي الغالب الحكيم الصنع، المدبر لكل الأمور على وفق الحكمة بوضع كل شيء في المحل المناسب له.
8 -
إن جرح النبي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد أمر عظيم الوقع والتأثير على النبي نفسه وعلى المؤمنين، لذلك
قال كما ثبت في صحيح مسلم حينما جعل يمسح الدم عنه: «كيف يفلح قوم شجّوا رأس نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله تعالى» فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
قال الضحاك: همّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين، فأنزل الله تعالى:
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
وقيل: استأذن في أن يدعو في استئصالهم، فلما نزلت هذه الآية، علم أن منهم من سيسلم، وقد آمن كثير، منهم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم. وروى الترمذي عن ابن عمر قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على أربعة نفر، فأنزل الله عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} فهداهم الله للإسلام، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وعلى أي حال: فهذه الآية {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} دليل قاطع على أن القرآن من عند الله، فهذا تنبيه لرسول الله وإعلام له بأن الأمر كله لله، سواء دعا على المشركين أو لم يدع.
9 -
بناء على ما ثبت من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على جماعة من المشركين في صلاة الفجر، اختلف العلماء في القنوت في صلاة الفجر وغيرها. فمنعه الكوفيون (الحنفية والحنابلة) لما
روي في الموطأ عن ابن عمر: «أنه كان لا يقنت في شيء