الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال أبو العالية: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرق بها بين المؤمن والمنافق، فأنزل الله تعالى هذه الآية
(1)
.
سبب نزول الآية (180):
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ.} . جمهور المفسرين على أنها أنزلت في مانعي الزكاة. وروى عطية عن ابن عباس أن الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، وأراد بالبخل: كتمان العلم الذي آتاهم الله تعالى
(2)
.
المناسبة:
أدى انتصار المشركين في أحد وإصابة المؤمنين بشيء كثير من الأذى، إلى استغلال المنافقين تلك النتيجة، فصاروا يقولون: لو كان محمد نبيا ما قتل ولا هزم، وإنما هو طالب ملك، فتارة ينتصر وتارة ينهزم، وبادروا في نصرة الكفار وتثبيط المؤمنين عن القتال، فتألم النبي صلى الله عليه وسلم وحزن، فنزلت هذه الآيات تسري عنه وتزيل الحزن من نفسه، كما سرّى عنه حينما أعرض الكافرون عن الإيمان، وطعنوا في القرآن أو شخصه، في قوله تعالى:{وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} [يونس 65/ 10] وقوله: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف 6/ 18].
التفسير والبيان:
يخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على الناس: لا يحزنك أيها الرسول مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق ومناصرة الكفر، كأبي سفيان وغيره من أهل مكة، واليهود والمنافقين.
(1)
أسباب النزول للواحدي: ص 75 - 76
(2)
المرجع السابق: ص 76
إنهم لن يضروا أولياء الله وهم النبي وصحته شيئا من الضرر، وإنما يضرون أنفسهم، ويحاربون الله تعالى ويستعدونه عليهم والدائرة تكون عليهم، ويحرمون من ثواب الله تعالى في الآخرة، ولهم عذاب عظيم لا يعرف قدره، والله يعاقبهم على فعلهم لا يظلمهم، وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وضلالهم ومناصرتهم ملة الكفر ومقاومة المؤمنين:{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ} .
[فاطر 43/ 35] وهذا يدل على أنه لا يؤبه بهم ولا يخشى خطرهم.
وهي مثل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ، لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، مِنَ الَّذِينَ قالُوا: آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة 41/ 5].
وهذا لا يقتصر عليهم، وإنما هو حكم عام مقرر يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان، لذا قال: إن الذين استبدلوا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا، ولكن يضرون أنفسهم، ولهم عذاب مؤلم شديد الألم في الدنيا والآخرة.
وهي تشبه آية {أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون 55/ 23] وآية: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم 44/ 68] وآية: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ} [التوبة 85/ 9].
ثم بيّن تعالى استدراج الكافرين وإمهالهم لوقت معين، فأخبر أنه لا يحسبن هؤلاء الكفار أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير لأنفسهم؛ لأنهم لا يستغلون العمر في عمل الخير، وإنما يستغلونه في الشر، فتكون عاقبتهم ازدياد الإثم على الإثم، والمبالغة في الباطل والبهتان، ولهم عذاب مهين: ذو إهانة وإذلال لهم، أي إنما هو معدّ لهم.
ولا يظنن الكفار أن إمهالنا يقصد به ازدياد الإثم كما يفعلون، وإنما الإمهال
لهم هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان، لا لزيادة الإثم وللتعذيب، فيكون الإملاء خيرا لهم، ولكن علم الله سابقا أن بعضهم لن يعود إلى دائرة الحق والخير والرشاد، فهؤلاء لهم عذاب مهين.
قال الزمخشري في قوله: {أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ} : ما: هذه حقها أن تكتب متصلة؛ لأنها كافة، دون الأولى. وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيرا لهم؟ فقيل: {إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً} .
فإن قلت: كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضا لله تعالى في إملائه لهم؟ قلت: هو علة للإملاء، وما كل علة بغرض، فلو قلت: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشر، ليس شيء منها بغرض لك، وإنما هي علل وأسباب، فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإمهال وسببا فيه.
فإن قلت: كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء، كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ قلت: لما كان في علم الله المحيط بكل شيء أنهم مزدادون إثما، فكأن الإملاء وقع من أجله وبسببه، على طريق المجاز
(1)
.
والخلاصة: إن هذا الإمهال والتأخير ليس عناية من الله بهم، وإنما هو قد جرى على سنته في الخلق: بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر، فإنما هو ثمرة عمله. ومن مقتضى هذه السنة العادلة أن يغتر الإنسان بهذا الإمهال، ويسترسل في فجوره، فيوقعه ذلك في الإثم، الذي يترتب عليه العذاب المهين
(2)
.
ثم بيّن الله تعالى أن المحن والشدائد تظهر صدق الإيمان، وأنه لا بد من أن
(1)
الكشاف: 364/ 1
(2)
تفسير المنار: 205/ 4، تفسير المراغي: 141/ 4
يعقد شيئا من المحنة، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه، فلا يترك الناس على مثل حالتهم يوم أحد، حتى يميز المؤمن من المنافق، ويعرف المؤمن الصابر والمنافق الفاجر، كما قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ} [محمد 31/ 47].
يقصد به أن يوم أحد كان اختبارا امتحن الله به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهتك به ستار المنافقين، فظهرت مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد، وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد يفكر بعض الناس أن تمييز المؤمن الصادق من المنافق يحدث بالوحي وبأن يطلع الله المؤمنين على الغيب، فأجاب الله تعالى: لم يكن من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب، وإنما خلق الإنسان وقدر له أن يصل إلى مراده بعمله الكسبي الذي ترشد إليه الفطرة ويهدي إليه الدين وتدل عليه النبوة، فهو تعالى يختار من رسله من يشاء، ويطلعه على بعض المغيبات، كما قال سبحانه:{عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ} [الجن 26/ 72 - 27] ثم يخبر الرسول بعض الناس بنفاق رجل وإخلاص آخر، فيكون مصدر ذلك الخبر هو اطلاع الله على كفر أناس وإيمانهم، لا أنه يطلعه على ما في القلوب اطلاع الله.
ثم يترك الناس لتمييز المؤمن منهم والمنافق بواسطة الأسباب الكاشفة عن ذلك.
لذا يجب عليكم الإيمان بالله والرسل ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم، وإطاعة الله والرسول واتباعه فيما شرع لكم، والاعتقاد بأن الرسل لا يخبرون عن شيء إلا بما أخبرهم الله به من الغيوب. وهذا رد على الكافرين، قال السّدّي: قال الكافرون: إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر، فنزلت.
وإن تؤمنوا بما جاؤوا به من أخبار الغيب، وتتقوا الله بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، فلكم ثواب عظيم لا يستطيع أحد تحديد مقداره.
ويلاحظ أن القرآن يقرن دائما بين الإيمان والتقوى، كما يقرن بين الصلاة والزكاة، لتلازمهما والاعلام بأن الإيمان لا يكتمل إلا بهما، ويقرن أيضا بين الجهاد بالنفس والجهاد بالمال.
وبما أن الآيات السابقة كانت في الحث على الجهاد والتحريض على بذل النفس، أعقب ذلك الحث على بذل المال في الجهاد.
فلا يظننّ أحد أن بخل البخلاء خير لهم بكنز المال وادخاره، وأن الجود والإنفاق يفقر، وإنما هو شر عظيم على الأمة والفرد في الدنيا والآخرة، والمراد بالبخل: حجب الزكاة المفروضة عن المستحقين، وعدم الصدقة عند رؤية حاجات المحتاجين.
أما ضرر البخل في الدنيا فتعريض مال الغني للضياع والنهب والسرقة والأحقاد، وفي عصرنا وغيره ظهور الحملات الشنيعة على الأغنياء المترفين، وانتشار الأفكار والنظريات المسماة بالاشتراكية التي ظهرت لتقويض أركان الرأسمالية.
وأما ضرره في الآخرة والدين: فهو ما أخبر عنه تعالى بأنهم سيلزمون وبال بخلهم وعاقبة شحهم إلزام الطوق في العنق، فلا يجدون مناصا ولا مهربا من توجيه اللوم والسؤال والعقاب على فعلهم.
أخرج البخاري عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالا، فلم يؤد زكاته، مثّل له شجاعا أقرع له زبيبتان، يطوّقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه-أي شدقيه-ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك» ثم تلا هذه الآية: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ.} . إلى آخر الآية.