الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
تصدير التغريب والترويج لكلمة الرجعية
1:
فالتغريب هو محاولة "تغيير المفاهيم" في العالم العربي والإسلامي، والفصل بين هذه الأمة وبين ماضيها وقيمها والعمل على تحطيم هذه القيم والتشكيك فيها، وإثارة الشبهات حول الدين واللغة والتاريخ ومعالم الفكر ومفاهيم الآراء والمعتقدات جميعا.
لقد صوَّر لورد كرومر منهج هذا العمل الذي اصطنعته فرنسا وإنجلترا وهولندا في العالم الإسلامي حين قال: "إن الشبان الذين يتلقون علومهم
1 أنور الجندي تغريب أخطر التحديدات في وجه الإسلام صـ14 بتصرف. دار الاعتصام.
في انجلترا وأوربا يفقدون صلتهم الثقافية والروحية بوطنهم، ولا يستطيعون الانتماء في نفس الوقت إلى البلد الذي منحهم ثقافته، فيتأرجحون في الوسط ممزقين".
وكان هذا بالطبع هو الهدف من الإرساليات المختلفة التي غزت بلادنا في صورة مدراس وجامعات، وفي البعثات الموجهة إلى أوروبا وإلى عواصم الدول المختلفة بالذات.
وفي هذا، قال جبران: إن الشباب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية قد تحول بالطبع إلى معتمد أمريكي، والشاب الذي تجرع رشفة من العلم يسوعية صار سفيرا لفرنسا، والشاب الذي لبس قيمصا من نسج مدرسة روسية أصبح ممثلا لروسيا، وكان هذا هو الحق إلى حد كبير، فقد غزا الغرب الشرق بجحافل من العلماء والمبشرين والمستشرقين والأثريين والصحفيين، وشيدت مؤسسات ضخمة في مختلف عواصم العالم الإسلامي؛ لفتح أبوابها لثقافة بلادها، وبدأ هذا النفوذ الفكري يعمل ويسيطر في مجالات المدرسة والجامعة والصحافة، والثقافة والتربية والطب والسينما والإذاعة.
وهكذا كان "التغريب" عملا خطيرا دقيقا، قوامه الحرب المنظمة للقيم التي عاشت عليها أمتنا، في أسلوب مغلف بالضباب، يحاول أن يثير غمامة كثيفة من التشكيك والتحقير والاستهانة بكل ما لدينا من قيم باسم "القديم" البالي الموروث، ولم تمض سنوات قليلة حتى كان أبرز المسيطرين على "الصحافة" في العالم العربي والإسلامي من هؤلاء المتنكرين لقيمنا الذاهبين مع التغريب؛ فقد كانت الصحف التي تعمل للمبادئ تسقط واحدة بعد الأخرى، بينما ظلت الصحف التي تخدم التغريب تقوى وتتوسع، وفي مجال "الترجمة" كان الهدف هو إذاعة القصة المكشوفة والآراء المسمومة، وفي الأدب بث فكر جديدة قوامه
القصص، وفي مجال المدرسة كانت تقدم الكتب التي تنتقص من قدرنا، وتصم ترايخنا بالضعف وماضينا بالذلة، وسيطر على الجو الفكري كله تيار جديد هدام قوامه الاستهانة بكل القيم وفي مقدمتها الدين والمعنويات، كما فرضت الحضارة على بلادنا أسوأ ثمراتها، لم ترسل لنا إلا تجارة الرقيق الأبيض والكحول ومواد الزينة واللهو بغية تحطيم كيان المجتمع، وبدت في جو مجتمعنا ريح تدعو إلى الرخاوة والمتعة واللذة والتخلص من كل القيود.
ولم تكن هذه الدعوة تهدف إلا إلى تدمير القيم الأساسية لهذا الأمة، قيم المقاومة والصلابة والتصميم وتحويل نظر الأمة عن الجهاد والتضحية والفداء في سبيل الحرية"1.
الترويج لكلمة الرجعية:
يرمي أهل أوربة والدول الاستعمارية الموصوفة بالدول المتقدمة المسلمين بالرجعية التي تعني التخلف والجمود، ويوهمون المسلمين دائما بأنهم يتمسكون بالماضي والدين، ولا يتطورون بتطور الحياة، ويقارنون بين تقدمهم في علوم الطبيعيات وعلوم الصناعات وبين تخلف دول العالم الإسلامي في هذا المضمار، فينسبون تخلف المسلمين إلى تمسكهم بالدين واعتقادهم المتين في منهجه، وتلك مقارنة ظالمة فيها إجحاف للمسلمين، واتهام لا يليق بالدين الإسلامي الحنيف الذي يحقق السعادة لكل البشر إذا ما اتبعوا تعاليمه وساروا على نهجه، هل تحققت السعادة للناس في أوربة بسبب هذا التقدم الحضاري المزعوم؟!
إن ما يصفونه بالحضارة هو في الواقع ليس بحضارة؛ لأن غاية الحضارة تحقيق الأمان للفرد في مجتمعه حتى يعبد الله عز وجل وهو آمن في سربه، ولا نجد للأمان معنى عند هؤلاء.. وبالتالي لا تتحقق العبادة الخالصة لله،
1 المصدر السابق ص15.
ولهذا تنتفي صفة الحضارة الحقيقية، ويشهد لذلك تخبط أهل تلك البلاد في أمور حياتهم، وظهور الفسوق في مجتماعتهم، وأنهم يأتون المنكر في نواديهم.
إن الإسلام نظام تقدمي، ولا يعيبه أنه لم ينهض به أهله في الأزمان المتأخرة؛ لما أصابهم من أحوال الضعف والتفكك، ولِما أصابهم من عسف المستعمرين الذين دخلوا إلى أراضيه بالقوة والعنف، فعاثوا فيها الفساد ردحا طويلا من الزمن، ولو كان المستعمرون ذوي حضارة كما يزعمون لتركوا في البلاد التي احتلوها أثارة من الخير، ولكنهم كانوا كما وصفهم أمير الشعراء أحمد شوقي بقوله:
وللمستعمرين وإن ألانوا
…
قلوب كالحجارة لا ترق
أما المسلمون فإنهم حين فتحوا البلاد التي دخلوها أيام عزتهم فقد تركوا من أسباب الخير لهذه البلاد ما يجل عن الوصف والتاريخ يشهد على ذلك.
ولقد كتب بعض مفكري عصرنا يقول:
"هناك عدة نقاط يسوقها أعداء الإسلام للتشكيك في صلاحيته كفلسفة شاملة في عصرنا الحديث. وأول ما يدعي من ذلك أن الإسلام الذي كان صالحا للبدو الحفاة قبل أربعة عشر قرنا لم يعد يصلح في عهد المدنية والحضارة والآلية عصر الصواريخ والذرة والتكنولوجيا، وأنه لا مناص من هذه حتى يمكننا أن نتحضر ظنا منهم أن الإسلام يحرم البشر من ثمرات الحضارة الحديثة والأخذ بوسائل المدنية وهي دعوى لا يقول بها إلا من لم يعرف تاريخ هذا الدين وحضارته.
حقا نزل الإسلام في قوم من البدو بلغ من جفوتهم وغلظتهم أن قال الله تعالى في وصفهم: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 1. فكانت معجزته أن جعل من هؤلاء الأجلاف أمة متآخية من الآدميين بل أمة وسطا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتهدي البشرية إلى ما اهتدت إليه من الخير، وفي هذا دليل على قدرة الإسلام على تحضير النفوس وتهذيبها، ولم يكتفِ الإسلام بهذا وإنما فسح صدره فضم إليه كل مظاهر الحضارات والمدنيات التي وجدها في الأقطار المفتوحة وتبناها؛ تنبى الحضارات التي وجدها في مصر وفارس وبلاد الروم ما دامت لا تخالف عقيدته في وحدانية الله، ولا تصرف الناس عن الخير الذي يدعو إليه، وتبنى الحركات العلمية التي كانت لليونان من طب وفلك ورياضيات وطبيعيات وفلسفة ومنطق، وظلَّ يضيف إليها ما أثبت تعمق المسلمين في البحث والدرس والاشتغال بالعلم حتى تجمع كل هذا في الأندلس وصقلية وهو ما قامت عليه نهضة أوربا الحديثة واكتشافاتها في العلم والابتكار، فكل من يعرف جهود المسلمين في مختلف ألوان الفكر والمعرفة والعلوم لا يستطيع أن يدعي أن الإسلام وقف مرة في وجه أية حضارة نافعة"2.
بنفس النظرة فإن الإسلام لا يقف من آية حضارة معاصرة موقف العداء طالما كانت تدعو إلى ما يدعو إليه من الخير، بل إنه يتقبل منها ما تستطيع أن تقدمه من فائدة، ويرفض ما فيها من شرور، ومن ثم فإن الإسلام لا يدعو بصورة من الصور إلى الانعزال الفكري أو المادي ولا يعادي الحضارات الأخرى عداء شخصيا أو عنصريا أو دينيا؛ لإيمانه بوحدة البشرية، واتصال الأواصر بين البشر من جميع الأجناس والألوان التي لا يقيم لتباينها وزنا؛ نتيجة لإيمانه بواحدانية الله والتساوي بين خلق الله في الحقوق والواجبات والمسئولية والجزاء العادل المرتب عليها.
1 سورة التوبة: آية 97.
2 د/ النعمان عبد المجيد القاضي: الإسلام عقيدة وحياة ص108 - مجموعة دراسات في الإسلام يصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية العدد 175 سنة 1395هـ 1975م.
وهكذا فإنه لا صحة للدعوى التي تزعم أن الإسلام يحول دون التمتع بثمار الحضارة الحديثة، فمنتجات الحضارة الحديثة لا يمكن أن يكون لها جنسية أو دين أو وطن، وإنما هي ملك للبشرية؛ لأنها إنتاج بشري عام، وإنما الهدف من استخدامها هو الذي يتأثر بهذه العوامل، فهذه الوسائل جميعا لا عنوان لها، ولكنها تكتسب عنوانها من استخدامها في هدف دون آخر، وبالتزامها بغايات سامية وتحقيقها لمثل وأهداف رفيعة سواء في ذلك السلاح العسكري أو الوسيلة الثقافية أو الفكرة الاجتماعية أو السياسية، فالإسلام لا يصادر على الأفكار الصالحة ولا يقف دون التفاعل معها؛ إذ كل تجربة إنسانية صالحة يمكن أن يتحاور معها، فيأخذ منها ما يتفق وغاياته، ويطرح ما دون ذلك.
وأما إذا كانت الحضارة عند هؤلاء تعني التحلل من القيم وإهدار المثل والانسياق وراء التهتك والانحلال ومعاقرة الخمر والميسر والتقليد الأعمى للسلوك المنحرف والعبودية والخنوع للغزو الفكري الأجنبي، والاكتساء بقشرة الحضارة الغربية من أجل أن نبدو متحضرين وتقدميين؛ فإن الإسلام حينئذ؛ حفاظًا على شخصيتنا الحضارية ومقومات وجودنا- يقف في وجه هذا المنكر ويقيم نفسه حاجزًا بين أبنائه وبين التردي في تلك المهاوي1.
1 المصدر السابق ص108، 109.