الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علم التربية والتعليم في المدرسة المحمدية
1:
هكذا كانت التربية والتعليم علمًا نما مع تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ونضج معه وبه، واهتمَّ به القرآن الكريم اهتمامًا بالغًا في قصصه، ثم ترعرع وأخذ قالب تنظيم وترتيب أكثر في عهد التابعين ومن بعدهم، ثم ألّّف فيه العلماء بشكلٍ مستفيضٍ في نهاية القرن الثاني الهجري، فقد أشار القرآن الكريم إلى طريق الامتحان والاختبار في قصة آدم عليه السلام؛ حيث أجرى امتحانًا بينه وبين الملائكة، فقال تعالى:{وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 2.
وقد أشار هذه الآيات أيضًا إلى أن من سُئِلَ ولم يعلم جوابه بقوله: لا أدري، والله أعلم، قال القرطبي: من سُئِلَ عن شيء لم يعمله، فالواجب عليه أن يقول: الله أعلم، لا أدري، اقتداءً بالملائكة والأنبياء، والفضلاء من العلماء، قال مالك بن أنس: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده "لا أدري"، حتى يكون أصلًا في أيديهم، فإذا سُئِلَ أحدهم عَمَّا لا يدري قال: لا أدري، وذكر الهيثم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سُئِلَ عن ثمانِ وأربعين
1 من هنا إلى آخر ص28 من هذا البحث، منقول من كلام الأستاذ علي محيي الدين على القره داغي، من مقالةٍ له في التعريف برسالة "أيها الولد" لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، من ص27-31، نشر دار الاعتصام سنة 1983.
2 سورة البقرة الآية 31، 32، وراجع تفسير القرطبي "1/ 279"، طبعة دار الكتاب المصرية، عام 1986م.
مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري1.
كذلك أشار القرآن الكريم إلى أدب المتعلِّم مع المعلِّم؛ من التسليم والصمت والصبر، في قصة موسى وخضر عليهما السلام، فقد رحل موسى -وهو نبي من أنبياء الله عليهم السلام في طلب العلم إلى شاطئ البحر تاركًا قومه، في سبيل التعلُّم من عبدٍ من عباد الله تعالى، ثم لما رآه استأذنه في أن يصاحبه للعلم، غير أن خضر عليه السلام اشترط عليه شروطًا وقبلها موسى عليه السلام؛ حيث يقول القرآن الكريم حاكيًا كلام خضر لموسى
…
{إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ، ثم كان مشفقًا عليه فبيَّنَ أن عدم استطاعته يعود إلى عدم إحاطته بعلم هذه الأشياء فقال:{كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} ، فقال موسى:{قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} ، فقد استجاب موسى لكلامه وزاد أدبًا آخر، وهو أنه لا يعصيه في أمره، بل يستجيب إليه بكل ما أوتي من وسائل، ثم عاد خضر ليبين له الطريق الأسلم والأنجح في التعليم وهو الاقتناع الكامل بمنهج المعلِّم وسلامته، والتسليم الكامل إليه، والصمت الحقيقي حتى ينتهي الأستاذ من أعماله، ثم يقوم بشرحها له، فقال خضر:{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} ، ثم مضيا على ساحل البحر بعد أن اتفقا على هذه الآداب، حتى إذا ركبا سفينةً فقام خضر بخرق السفينة وتعييبها، وهنا عارضه موسى عليه السلام فقال:{أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} ، أي: منكرًا، فقد كان مع سيدنا
1 تفسير القرطبي ط: دار الكتب المصرية سنة 1986م "1/ 285-286".
موسى كلَّ الحق في معارضته، مع أنه التزم بأن لا يعترض عليه؛ لأن وظيفته -وهو نبي- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية خالق، وأن كل شرط أحلَّ حرامًا، أو حَرَّمَ حلالًا فهو باطل، وسيدنا موسى لم يعلم بعد بالسر الذي وراء عملية الخرق، ولَمَّا عَلِمَ بحقيقة الأمر اقتنع، وهكذا إلى آخر القصة في سورة الكهف "الآيات 60-82".
وكذلك لو فتشنا عن آداب المتعلم والعالم في القرآن الكريم، لوجدناه مليئًا بها من خلال قصص الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم.
وأما مدرسة سيدنا ورسولنا محمد -صلى الله عليه سلم- فهي أعجوبة الزمن ومعجزة العالم في التربية والتزكية والتعليم والسمو، حتى شهد الله تعالى بنجاح مدرسته فقال:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1.
وقد بيَّنَ القرآن الكريم أسباب نجاحه وهي الرحمة والرأفة والعزم والتشاور واللين وبشاشة الوجه، فقال:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} 2.
فقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم الأسس العامة للتعليم، وهو استعمال
1 سورة آل عمران، الآية 110.
2 سورة آل عمران، الآية 159.
الرحمة والرفق والتيسير والتبشير، فقد قال لأبي موسى ومعاذٍ لما بعثهما إلى اليمن:"يسَّرَا ولا تعسِّرَا، وعلِّمَا ولا تنفِّرَا" 1، وقال صلى الله عليه وسلم:"علموا ولا تعنفوا، فإن المعلِّمَ خيرٌ من المعنِّفِ"2.
ويكفي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى كتب الصحاح والسنن، حيث تجدها مليئة بطرق التربية والتزكية، فقد خصص جميعهم كتبًا أو أبوابًا خاصّةً للعلم وفضائله، وفضل تعلمه وتعليمه، وأدب ذلك3.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن بعض الأحاديث والآثار تشير إلى أنه كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، كتاتيب منظمة يتعلم فيها أبناء المسلمين الفقراء والأغنياء على السواء، وأن هناك من اتخذ التعليم مهنةً وصناعةً لها أصولها ومناهجها وآدابها، فكان يقوم بها رجال أكفاء متخصصون في طرائق التعليم، وفي تهذيب الأخلاق، والعناية بتنشئة أطفال المسلمين4.
وأكثر من ذلك، فقد أثبت لنا الإمام محمد بن سحنون روايات عن
1 رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب - مع فتح الباري "10/ 524".
2 رواه الطيالسي في مسنده.
انظر: المقاصد الحسنة، ص"289".
3-
راجع: صحيح البخاري، كتاب العلم مع فتح الباري "1/ 140-232"، وصحيح مسلم، كتاب العلم "4/ 2053-2060"، وسنن أبي داود -مع العون- كتاب العلم "10/ 72-103"، والترمذي -مع التحفة- كتاب العلم "7/ 404- 459"، وغيرها.
4 الدكتور محمود عبد المولى، في القسم الدراسي لكتاب آداب المعلمين، لمحمد بن سحنون ص "62".
أنس تثبت أزهار مدارس التعليم "الكتاتيب" في عهد الخلفاء الراشدين منها، أنه قيل لأنس بن مالك: كيف كان المؤدبون على عهد الأئمة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، قال أنس: كان المؤدِّبُ له إجالة -إي إناء- وكل صبيٍّ يأتي كلَّ يومٍ بنوبته ماء طاهرًا فيصبونه فيها، فيمحون به ألواحهم، قال أنس:"ثم يحفرون حفرة في الأرض، فيصبون ذلك الماء فينشف"1.
فهذه النصوص وغيرها تدل دلالةً واضحةً على أنه بدأت الكتاتيب المنظمة "المدارس" لتحفيظ القرآن وتعليم العلوم في وقتٍ مبكرٍ جدًّا، فقد كان في المدينة دار تُسَمَّى "دار القرآن"، وإن بعض القراء كانوا يسكنونها ليحفظوا آي كتاب الله تعالى ويجوّدوا قراءته، ويقصدهم الناس إليها فيفيدون مما عندهم من علم الكتاب، وما حفظوا من حروفه وتلاوته2.
وقال المستشرق "ديبس" في دائرة المعارف الإسلامية: "ويظهر أنه قد وُجِدَتْ منذ فجر الإسلام أمكنة كانوا يجتمعون فيها لاستظهار القرآن وتدراسه، ولا شكَّ في أن هذه المواضع كانت كالمدارس الأولية، يتعلمون فيها مبادئ القراءة وأصول الكتابة العربية، كما يحدثنا الواحدي، ويذكر أن عبد الله بن أم مكتوم كان يسكن دار القراءة بالمدينة"3.
1 آدب المعلمين لمحمد بن سحنون، ص74.
2 المصدر السابق، والتربية والتعليم في الإسلام، للدكتور محمد أسعد طلس، ط: دار العلم للملايين- بيروت سنة 1957م.
3 دائرة المعارف الإسلامية بالفرنسية "2/ 401"، نقلًا عن القسم الدارسي للدكتور محمود عبد المولى، ص:62"، في مقدمة كتاب آداب المعلمين.
ولما بدأت الفتوحات الإسلامية وانتشرت رقعة الإسلام، جَدَّ الصحابة والتابعون في ترسيخ الإسلام عقيدةً وشريعةً في نفوس الناس، فبرزت الكتاتيب بصورةٍ واضحة، وتعددت مدارس التعليم في البصرة، والكوفة، والفسطاط، والقيروان، حتى انتهت إلى القمة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، فقد رُوِيَ عن غياث بن أبي غياث أنه لما كان طفلًا كان في الكُتَّابِ، فكان الصحابي سفيان بن رحب يزور كتّابهم، ويلاطف الأطفال، ويدعو لهم بالفتوح والبركة1.
وقد ظهرت كتب خاصة بآداب المعلِّمِ والمتعلِّم، وأول ما وصلنا من هذه الكتب: كتاب آداب المعلمين لمحمد بن سحنون "ت256"2، الذي يعتبر رائدًا في هذا الميدان؛ حيث تناول فيه أبوابًا كثيرة، وأهمها هو ما يتعلق بتعليم القرآن العزيز، وما جاء في العدل بين الصبيان، وكيفية محو الصبيان خطوط القرآن من ألواحهم، وما جاء بالأدب بالكلام أو بالضرب، وما يجب على المعلِّم من لزوم الصبيان، وما جاء في إجازة
1 مقدمة كتاب آداب المعلمين ص "63".
2 هو محمد بن سحنون: عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، ولقب أبوه بالسنحون لحدة ذكائه، فقد كان إمامًا ثقة عالمًا بالمذهب المالكيّ وبالآثار، جمع فنون العلم، وألَّفَ في جميع العلوم وفي المغازي والسير، وُلِدَ بالقيروان سنة "202هـ" وتأدَّب بأبيه"، وتفقَّه عليه، ثم رحل لأجل العلم حتى جمع فأوعى، ثم ألَّفَ مؤلفات كثيرة في كثير من العلوم، وتوفي سنة "256هـ" ودفن بالقيروان.
انظر ترجمته في: الديباج المذهب في معرفة أعيان لمذهب ط: القاهرة سنة "1351 هـ" ص "161-166" والمدارك للقاضي عياض، ط: الجامعة التونسية سنة 1968م، ص"171".
المعلم ومتى تجب؟ ما جاء في إجازة المصحف وكتب الفقه وما شابهها، ص "93"، فقد قال الدكتور طلس:"وقد أزاح -أي: محمد بن سحنون- لنا الستار عن معلوماتٍ كنَّا نعتقد أنه لا بُدَّ كانت موجودة لدى المسلمين، ولكننا نجهل تفصيلها، فإذا بابن سحنون يرويها لنا عن أبيه عن شيخنا الإمام مالك إمام المدينة، وعن غيره من الأئمة الأعلام، والشيوخ الأكابر الذين عاصروا الصحابة، فعرفوا عن كثبٍ طريقة التربية العربية الإسلامية"، ثم توالت التآليف بعده في هذا الحقل، فألف الآجري المتوفى سنة "360هـ"، والخوارزمي المتوفى سنة 377هـ"، ثم جاء ابن جزار القيراوني، المتوفي سنة "395هـ"، فألف كتابه باسم "سياسية الصبيان وتدبيرهم"، وجاء أبو الحسن عليّ بن خلف القابيني، المتوفى سنة "403هـ"، فألف كتابًا جمع فيه وأوعى في أحوال المعلمين، وأحكام المعلمين والمتعلمين"، ثم ألف في الحقل أيضًا أبو عمر أحمد بن محمد بن عفيفي، المتوفي سنة "420هـ"، وسماه:"آداب المعلمين" في خمسة أجزاء1. ثم جاء الغزالي، فجمع ما بين طرق التعليم والتربية، وطرق التزكية والتصفية، فأبدع فيه وابتكر، ذلك من خلال رسالة الغزالي إلى تلميذه بعنوان: "أيها الولد"، وكتابه "إحياء علوم الدين"، ثم تبعهم المؤلفون فأكثروا ولخصوا فاختصروا2.
1الفكر التربوي عند الغزالي، للدكتور عبد الغني عبود، ص"35".
2 المصدر السابق والصفحة.
وبذلك عرفنا أن المسلمين بسبب محركِهم الأساسي: القرآن والسنة، لم يهملوا هذا الجانب الهام في حياة الأمة، وهو الاهتمام بطرائق تربية الأطفال، والبحث عن أنجح الطرق والمناهج انطلاقًا من أنه لا حضارة بغير علم، ولا علم بغير تعليم، ولا تعليم بغير نظام معيِّنٍ ينظِّمُ الصلة بين المتعلِّم والمعلِّم، ولذلك انتشر الإسلام لا بالسيف وإنما بالعلم واستعمال الحكمة في كيفية إيصاله إلى الناس؛ فقد تفجَّر هذا الينبوع في وادٍ غير ذي زرع عند بيت الله الحرام، الذي كانت قلوب الناس تهوي إليه، فلم يلبث أن أصبح فيضًا غَمَرَ الجزيرة العربية، وغيثًا جاوزها في سرعة عجيبة خارقة ليعمَّ أقطارًا كثيرة في آسيا وإفريقية وأوروبا، "والمؤرخون يعلمون بأن انتشار الإسلام بهذه السرعة ظاهرةٌ فريدةٌ في التأريخ البشري كله، وبعضهم لا يكاد يجد لها تعليلًا يقبله الفكر في سهولة ويسر"1. فقد كان شغل الفاتحين المسلمين الشاغل هو الإسلام، فظهرت على أيدي الصحابة الكرام وتابيعهم مدارس العلم في العالم الإسلامي أجمع.
فما أحوجنا اليوم إلى العودة إلى هذا التراث الضخم، وما أحوجنا اليوم إلى الأخذ بطرق السلف في التربية والتعليم، والتزكية والتصفية، وإنه ليوم قريب -إن شاء الله تعالى"2.
1 أطلس التأريخ الإسلام ط، مكتبة النهضة المصرية سنة 1954م، مقدمة الجزء الثاني عشر، وراجع: مقدمة الدكتور محمود عبد المولى لكتاب آداب المعلمين، ص "22".
2 إلى هنا ينتهي كلام الأستاذ علي محيي الدين على القره داغي، من مقاله في التعريف برسالة "أيها الولد" لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، ص32، نشر دار الاعتصام سنة 1983م، بتصر طفيف.