الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التربية بالقصة والعظة
مدخل
…
د- التربية بالقصة والعظة:
من أظهر الأساليب في التأثير في النفس، القصص الحكايات، ولذلك فإن القصة من أنجح الوسائل في التربية، والقرآن أتى بكثير من القصص والأمثال؛ لما فيها من الهداية والإيمان والعظة والتدبر، وينبغي للمؤدبين والمربين أن يحببوا إلى الناشئين والناشئات أسلوب الموعظة القصصية؛ لما في ذلك من فوائد جليلة في الاستفادة من هدي القرآن.
وتمتاز قصص القرآن بسمو الغاية، وشريف المقاصد، ولها مسلك عظيم في التوجيه والإرشاد يدعو الناس إلى العظة والتدبر، فقد حوت كثيرا من تاريخ الرسل مع أقوامهم، والشعوب مع حكامهم، وبرزت فيها شخصيات عرفت بالخير والهداية، وشخصيات عرفت بالشر والضلال، وأقوام سلكوا طريقة النور، وأقوام تاهوا في دياجير الظلام.
ونحن في هذه الأيام نجد الناس قد انصرفوا عن قصص القرآن وما فيها من العظات البالغات، إلى قصص المؤلفين من الكتاب والأدباء، والتي يمتزج فيها الحق بالباطل، وأقبلوا على ما يعرض من المسلسلات والمسرحيات على الشاشة الصغيرة، واتخذوا القرآن مهجورا، وغيره لا يربي ولا يفيد. وفي ذلك خطر على التربية كبير، وفساد لنفوس فتياننا وفتياتنا عظيم.
والقرآن قد استخدم القصة في التربية والتوجيه والتعليم على أبدع ما يكون، نجد ذلك في قصة يوسف مع أخوته، وقصة أصحاب الكهف، وقصة صاحب الجنتين، وقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، وقصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج، وقصة صاحب ياسين، وكثير من القصص الأخرى التي تمدنا بأمثلة عالية في تحقيق الموعظة واكتساب الأخلاق الحميدة، وإلى ما في أنواع القصص المذكورة من فوائد تاريخية واجتماعية وعلمية.
ولعل من أمتع ما نجده في تفسير بعض الآيات التي وردت مجملة في القرآن، ذلك التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته أو عن التابعين ومما يثير في النفوس دوافع الإعجاب والتعجب في الوقت نفسه أن هذه الآيات أو تلك كانت معلومة لدى العارفين بالقرآن على نحو قصصي واقعي مفصل كما جاء مثلا في تفسير قوله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176] .
فهذا الأمر من الله في الآية أن يقص النبي صلى الله عليه وسلم على الناس خبر ذلك الرجل الذي أضله الله على علم ولم ينفعه علمه فصار مثلا يضرب للناس، وكان عبرة لمن ذكب بآيات الله فما الذي تعلمه صحابة رسول الله من هذه القصة؟
يقول ابن عباس: هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل يقال له: بلعام -وكان يعلم اسم الله الأكبر- ولما نزل موسى بالجبارين ومن معه، أتاه -يعني بلعام- بنو عمه فقالوا: يا بلعام، إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله ما كان عليه.
وروى ابن كثير بسنده عن سالم أبي النضر أنه حدث أن موسى عليه السلام لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه فقالوا له: هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من
بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وإنا قومك وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله عليهم قال: ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون كيف أذهب أدعو علهيم وأنا أعلم من الله ما أعلم؟ قالوا له: ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرفقونه يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل وهو جبل حسبان، فلما سرا عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها حتى إذا أزلقها قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به فضربها حتى إذا أزلقتها أذن لها، فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعام أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ تذهب إلى نبي الله والمؤمنين؛ لتدعو عليهم؟ فلم ينزع عنها فضربها فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان على عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشرٍّ إلا صرف الله لسانه إلى قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا قال: فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه، قال: واندلع لسانه، فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال، جملوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى المعسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كفيتموهم. ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرَّت امرأة من الكنعانيين اسمها كستبي -ابنة صور رأس أمته- برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو زمرى بن شلوم رأس سبط بني شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، فلما رآها أعجبته، فقام، فأخذ بيدها، وأتى بها موسى وقال: إني أظنك ستقول: هذا حرام عليك لا تقربها؟ قال: أجل هي حرام عليك، قال: فوالله لا أطيعك في هذا فدخل بها قبته فوقع
عليها، وأرسل الله عز وجل الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع فجاء والطاعون يحوس فيهم، فأخبر الخبر، فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر العيزار، وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، ورفع الطاعون فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفا، والمقلل لهم يقول عشرون ألفا في ساعة من النهار، فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها الرقبة والزراع واللحى والبكر من كل أموالهم وأنفسهم؛ لأنه كان بكر أبيه العيزار، ففي بلعام بن باعور أنزل الله:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} ، إلى قوله:{لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1.
وقصة بلعام تتضمن الكثير من الفوائد التي تنهض بمستوى التربية إلى أعلى درجة، وليس من ذلك شيء عند المناهج التربوية الحديثة فإنها لا تذكر مثل هذه القصص كما رواها لنا القرآن، ولعل الدرس النفيس الذي نجنيه من وراء هذه القصة هو أن العلم ليس بكثرة التحصيل، ولكن العلم إنما يكون بالعمل. وقد قال الإمام الشافعي في هذا المعنى:"ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع"2.
يندرج تحت هذا المعنى فوائد عظمى، منها:
1 تفسير الإمام الشافعي.
2 انظر ابن جماعة الكناني، تذكرة السامع المتكلم في أدب العالم والمتعلم، ص95، دار الكتب العلمية ببيروت.
- أن العلم ليس كما يظن كثير منا لناس الآن من حيث هو العلم الكوني، ولكن العلم الذي يصح أن يطلق عليه هذا اللفظ على الاطلاق هو العلم الديني.
- أن العلم الديني يبلغنا الغاية وهو معرفة الحقيقة التي هي معرفة اسم الله الأعظم الذي يستطيع من يعرفه أن يحرك به الجبال وأن يكونبه عبدا ربانيا يقول للشيء كن فيكون.
- أن الله يدافع عن الذين آمنوا فمهما حاول الكفار والمشركون هلاك المؤنين بعلومهم رد الله كيدهم في نحورهم.
- أن في الطاعة البعد عن المعاصي حفظا وصيانة لمجتمع المؤمنين، فإن ظهرت فيهم المعصية ولم ينكروها يقضوا عليها فلاحفظ لهم ولا صيانة من الله تعالى.
والمنهج الإسلامي يضع في الاعتبار أن النفوس تسأم كما تسأم الأجسام وأنه لا بد لها من الترويح عنها بتسليتها برواية القصص والأشعار؛ لما في ذلك من تجديد الهمم واستعادة النشاط، فنجد إلى جانب القصص القرآني قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم، والقصص التي رواها العرب وغير العرب عن الحوادث التي كانت تقع مع الصالحين والطالحين والملوك والسلاطين، ومنها ما حدث في الواقع، ومنها ما أضيف إليه شيء من التأليف، وهي في عمومها يلتمس منها العظة والدرس، نذكر منها على سبيل المثال: