الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
تصدير العلمانية:
العلمانية اصطلاح حديث يقصد به ما ليس دينيا ولا كهنوتيًّا1.
ولعله مشتق من لفظ العالَم، وجاء في بعض المعاجم:
العَلْمَاني عند الغربيين المسيحيين: من يعنى بشئون الدنيا، نسبة إلى العَلْم بمعنى العالَم، وهو خلاف الكهنوتي"، ويمكن تلخيص مفهوم هذا المصطلح في أنه: "الإيمان العقلي المادي"2.
ويرى الاستاذ فتحي رضوان أن أصول العلمانية ترجع إلى ردود الفعل لثورة مارتن لوثر في سنة 1520م على البابا وانتقاده العنيف إياه؛ لبيع صكوك الغفران للعصاة والخاطئين والمسيحيين مقابل مال كثير يدفع للبابا فيضمن لهم دخول الجنة، ولسخط لوثر على عبادة القديسين، ودعوته إلى العمل بالكتاب المقدس وحده، وقد ترتب على ذلك تجريد الدولة من كل نشاط ديني، وعدم تحميل ميزانية الدولة شيئا من نفقات الكنائس والأديرة وتحريم التعليم الديني في المدراس والمعاهد الحكومية3.
والعلمانية باختصار شديد هي فلسفة جديدة في العالم الغربي "الأوربي والأمريكي" ترمي إلى تهميش الدين، وإلغاء الإيمان بالغيب وتنصيب الإنسان إلها جديدًا، مع الاعتراف فقط بالعقل والمادة والشيء المحسوس الملموس.
1 فتحي رضوان: "الإسلام ومشكلات الفكر، ص184، مجموعة اقرأ، دار المعارف بمصر، العدد 377.
2 مجمعة اللغة العربية، معجم الوجيز، طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم سنة 1414هـ-1993م.
3 فتحي رضوان الإسلام ومشكلات الفكر ص185.
دول الغرب تتجرع مرارة الوثنية بسبب العلمانية:
ولما كانت العلمانية ترمي إلى التقليل من شأن الدين، فإنها أثرت في نفوس ضعاف الإيمان وصار الاعتقاد الديني عند بعض أهل دول الغرب دقيقا يغشاه قترة من الشك، ويصحبه شيء من الاضطراب والحيرة حتى تمرد الشباب، وخرج معظمهم عن حدود المألوف حيث تبلبلت أفكارهم، وصار الدين بالنسبة لهم غريبا عنهم، ولم تعد تؤثر فيهم نصائح القديسين ومواعظ القسيسين، وأصبح الأدب في عرفهم ضربا من الجنون والفنون لونا من العبث، ولعلنا نلمس كل ذلك من قراءتنا للمقال الذي كتبه الأستاذ/ فهمي هويدي بجريدة الأهرام تحت عنوان:"الوثنية الجديدة" حيث كتب يقول1:
الوثنية الجديدة: "بقلم فهمى هويدي"
تهمنا للغاية تلك المناقشات المثيرة الدائرة الآن في بريطانيا حول "الوثنية الجديدة" ليس فقط لكي نتابع ما أصاب الاعتقاد الديني من تآكل وتخريب، ولكن أيضا لكي نستشرف مآلات ما يدعونا إليه البعض في بلادنا!
لقد نشرت صحيفة الجارديان في الثاني عشر من الشهر الماضي تقريرا تحت عنوان "الوثنية الجديدة"، وذكرت فيه أن الدوائر الكنسية تبدي قلقا شديدا إزاء تفشي مظاهر الوثنية بين قطاعات متزايدة من الناس حيث انصرف هؤلاء بصورة تدريجية عن الديانة المسيحية، وراحوا يبحثون عن الإشباع الروحي في كائنات الفضاء وعالم الخرافة والتنجيم والخواص السحرية للكريستال وقراءة "الكوتشينة" والكف، وغير ذلك من المصادر المريبة والغامضة، الأمر الذي يعد من علامات "تفكك الإيمان" وانهيار مقوماته ومن ثم فإنه يعد أكبر تحدٍّ يواجه الكنيسة في العصر الحديث.
ذكر التقرير أن الكنائس البريطانية المختلفة كلفت لجنة من خبرائها بدراسة الظاهرة بعد ما بدأت تستحفل في المجتمع الإنجليزي، وقد أمضت اللجنة أربع سنوات في رصدها للتحولات عن الإيمان المسيحي، وكان أبرز ما لاحظته أن 70% من أبناء الشعب البريطاني يعلنون أنهم يؤمنون بالله بينما 14% فقط منهم هم الذين يترددون
1 جريدة الأهرام، ص11 بتاريخ 10 ديسمبر سنة 1996م.
على الكنيسة "النسبة في ألمانيا تهبط إلى 5%، وفي فرنسا ما بين 3 و4%، وهؤلاء الذين قطعوا صلتهم بالكنيسة يشبعون أشواقهم الدينية بعيدا عنها، حيث يختاون ما يشاءون من معتقدات وخرافات، خصوصا تلك القادمة من الشرق الآسيوي "مستودع الخرافات" الذي لا ينفد، ويخلطونها بعضا ببعض ثم "يؤمنون" بتلك الخزعبلات، ويعتبرونها دينا جديدًا"!
"سوبر ماركت الروحانيات":
حذر التقرير الذي عنوانه "البحث عن الإيمان" من أن هذا التفلت من الاعتقاد الديني، والتعامل مع الروحانيات بأسلوب الانتقاد من "السوبر ماركت" من شأنه أن يؤدي إلى "انهيار مجتمعنا وتقويض أركان حضارتنا".
نقل تقرير الجارديان عن مطران ونشستر- اسمه ميخائيل نظير علي! قوله: إن تلك "الروحانية الانتقائية" هي نوع من الوثنية الجديدة، وإن المصطلح الذي شاع عنها في الأدبيات الغربية الحديثة. والذي يعتبرها بمثابة "معتقدات العصر الجديد" يثير الالتباس ويخفي حقيقتها؛ إذ هي تستبدل الإيمان المسيحي اليهودي بخزعبلات وخرافات تم تلفيقها طبقا لأهواء بعض الأشخاص.
من الفقرات المهمة في التقدير تصريح على لسان واحدة ممن شاركوا في الإشراف على دراسة الكنائس البريطانية، قالت فيه:"إن تعاظم شأن الفردية في المجتمع الإنجليزي "والغربي بعامة" دفع كل واحد إلى اصطناع الدين الذي يستريح إليه فيمحنه الرضا عن النفس والتفاؤل بالمستقبل، وهو ما دفع أمثال هؤلاء إلى الانقطاع عن الكنسية وإدراة ظهورهم للإيمان الديني التقليدي، ومحاولة إشباع حاجاتهم الروحية بالطريقة التي تروق لهم"!
هذه الطرائق التي اختارها الناس من "سوبر ماركت الروحانيات" توافقوا على تسميتها بديانات العصر الجديد، وهم لم يجهروا بها فحسب، إنما مضوا يرجون لها، ويستقطبون شرائح من الشباب الذي يعاني من الفراغ الروحي، ولا يزال يفتش في "السوبر ماركت" عن اعتقاد يتجاوب معه ويستريح إليه!
وهذه الظواهر أزعجت قيادات الكنيسة الإنجليكانية بطبيعة الحال، فلم يكتفوا بمحاولة تحقيقها ودراستها، والبحث عن كيفية إعادة جذب الشباب إلى الكنيسة مرة أخرى، ولكنهم انتقدوا بشدة دعاة معتقدات العصر الجديد، وفي هذا السياق فإنهم حذروا من أن تلك المعتقدات تعد خطرا يهدد المجتمع، وتؤدي إلى انقسامه وإلى تدمير مقومات الإيمان الصحيح.
وجدت في نشرة "حول العالم" الأسبوعية التي تصدرها من لندن وكالة "قدس
برس"، متابعة للموضوع فقط ذكرت في عددها الأخير "الصادر في 23-11" أن أتباع "الديانات الجديدة" لم يلتزموا الصمت إزاء تعريض الكنيسة بمعتقداتهم، فردوا على ناقديهم بقولهم: "إن مطارنة الكنيسة الإنجليكانية هم آخر من يحق لهم انتقاد غيرهم"، فإذا كانوا يتنقدوننا؛ لأننا نؤمن بأشياء غريبة وخرافات، فإنهم أول من باعوا لنا تلك الأشياء الغريبة والخرافات، والكثير مما يقولونه خارج عن العقل ولا يقبله المنطق، إذًا "فما الضير أن يؤمن الإنسان بظواهر غريبة، وإن يزداد الاعتماد على ما يسمى بالخرافات ورموز التطير والتشاؤم حسب تعبير المؤمنين"؟
أضافوا أنه "إذا كان آباء الكنيسة يطالبوننا بالاعتقاد في أشياء خارقة للطبيعة، فإن إيماننا بالخواص الخارقة لكرة الكريستال وعبادة ظواهر الطبيعة يغدو أمرًا سهلًا بالمقارنة".
الشذوذ: تحدٍّ داخل الكنيسة
أضاف تقرير القدس برس أن الكنيسة الإنجليكانية التي توصف عادة بأنها "كنيسة واسعة الصدر" تضم تحت لواءها طوائف وتيارات متعددة، يصل الاختلاف فيما بينها إلى درجة التناقض الكامل إلا أن مأزقها الآن صار مضاعفا فهي من ناحية تواجه تحدي معتقدات العصر الجديد الذي يأتيها من الخارج؛ إذ يشيع الوثنية والإلحاد المتمثل في عبادة مظاهر الطبيعة والإيمان بالسحر والشعوذة والأبراج وقراءة الحظ والطالع غير أنها تواجه تحديًا آخر لا يقل خطورة، يجيء هذه لمرة من داخل الكنيسة ذاتها، وهذا التحدي يتمثل في تنامي حركة "الشاذين والسحاقيات المسيحيين"!
وإذا كانت الوثنية الجديدة تسحب البساط من تحت الكنيسة وتحاصر وجودها ثم تلغيه في نهاية المطاف فإن حركة الشاذين تبقى على الكنيسة لكنها تفرغها من مضمونها وتهتك قداسة تعاليهما الأخلاقية والاجتماعية.
لقد عقدت الحركة احتفالا دينيا كبيرا يوم 23 نوفمبر الماضي في كاتدرائية "ساذان" البريطانية، وحضره أكثر من ألفي شخص من مختلف أنحاء البلاد. وكانت مناسبة الاحتفال الذي استمر يوما كاملا هي ذكرى مرور 20 سنة على تأسيسها!
اللافت للنظر أن ثلاثة مطارنة للأبرشيات الإنجليزية حضروا الاحتفال. كما أن فكرته تحظى بتأييد قادة كنائس إنجليكانية العالم، منهم رئيس أساقفة جنوب إفريقيا ديزموند توتو، الحائز على جائزة نوبل للسلام، عن كفاحه ضد التمييز العنصري في بلاده.
هذا الحديث أثار انقساما حادا في جسم الكنيسة الإنجليكانية، لا سيما في صفوف الطوائف الإصلاحية والجناح التقليدي لها؛ إذ قرر هؤلاء الرد على
"الاحتفال الشذوذي" بإقامة سلسلة من النشاطات الاحتجاجية، التي تراوحت بين الصلوات والنشاطات الدعائية، في هذا السياق قررت 50 كنيسة إنجليكانية إقامة صلوات قوية ضد ذلك الاحتفال.
إزاء ذلك لم يعد خافيا على أحد أن الكنيسة تعاني من خلافات عميقة حول أمور عدة، منها موقفها من مسألة الشذوذ الجنسي. وعند التحقيق في الأمر تبين أن ثمة مواقف ثلاثة داخل الكنيسة أزاء هذا الموضوع. موقف تبناه المجمع الكنسي العام "السينود" في سنة 1987، وهو يرى أن العلاقات الجنسية بين أفراد الجنس الواحد مرفوضة، ويجب أن تقابل بالتوبة.
الموقف الثاني يتمثل في تقرير صدر عن مجلس المطارنة عام 1991م جاء فيه: يسمح للمؤمنين غير المرسمين ككهنة بممارسة الشذوذ الجنسي في بعض الظروف، ولكن ذلك غير مسموح به للكهنة إطلاقا.
أضاف تقرير قدس برس أن كلا الموقفين يتناقض مع الموقف غير الرسمي المعروف للكنيسة الإنجليكانية، والذي كان مجلس المطارنة يتبناه فعليا حتى وقت قريب، وهو ما تلخصه عبارة:"لا تفعله في الشارع؛ لتخيف الأحصنة المارة" ومعناه: "افعله في صمت وتكتم عليه ولا تثر ضجة من حوله".
ثارت حفيظة المعارضين لاحتفال حركة الشاذين والسحاقيات، ذلك النفوذ المتزايد للجماعات الشاذة داخل الكنيسة الإنجليكانية حتى أن مطران "جلاسجو" الأسقف ديربك رد كلف ألَّف ترنيمةً خاصةً لاحتفال حركة الشاذين، الذي أقيم في كاتدرائية "ساذن".
وقد ألَّف الأسقف رد كلف الترنيمة التي سماها "ترنيمة المعركة"؛ لتكون "صيحة الحرب" التي تحث الجماعات المسحيية الشاذة على مواصلة مسيرة كفاحها في سبل حقوقها "المشروعة" حسب وؤيته.
تقول بعض مقطاع الترنيمة: "إلى الأمام أيها الشاذون المسيحيون سيروا بكل افتخار.. سيروا جنبا إلى جنب نحن نحن لسنا متفرقين.. كلنا جسد واحد شاذون وسحاقيات ومسيحيون.. من أجل المساواة!
وواضح من هذه الكلمات أنها اقتباس استخدام مفردات ومعاني ترنيمة "إلى الأمام يا جند المسيح" الشهيرة التي كانت تزحف على أصدائها حملات الفرنجة "الصليبية" المتجه إلى بيت المقدس والشرق في القرنين الحادي عشر والثاني عشر".
تداعيات لتهميش الدين:
ما الذي جرى حتى تم تخريب الإيمان الديني وتدمير البنية الأخلاقية، والعلاقة بين الأمرين وثيقة وعميقة كما سنرى توًّا....
قبل أن أحاول الإجابة عن السؤال ألفت النظر إلى أمرين هما:
- أن هذا التفسخ الحاصل داخل الكنيسة وخارجها لا شأن له بالديانة المسيحية وإنما هو نتاج المنظومات الفكرية السائدة في المجتمعات الغربية، التي تصادف أنها مجتمعات مسيحية. لو أن تلك المنظومات انتشرت في العالم الإسلامي وأخذت مداها الذي يدعو إليه البعض، لأصاب المجتمعات الإسلامية ما أصاب مجتمعات الغرب المسيحي من تصدعات أو انهيارات.
- أن هذا التيار المدمر والفاسد يلقى مقاومة من جانب تيارات أخرى في الدول الغربية ذاتها، لا تزال تستميت في الدفاع عن العقيدة والفضيلة والأسرة الطبيعية. وقد رأينا أنه في مقابل احتفال الشاذين الذين أقيم في كنيسة "شاذن" فإن خمسين كنيسة أخرى أقامت صلوات توبة مناهضة لذلك الاحتفال، من ثم فإنه يتعذر الادعاء بأن الصورة التي قدمناها تعبر عن واقع المجتمع الغربي كله، وإنما هي تعكس أحد جوانب ذلك الواقع، التي سلطت عليها الأضواء مؤخرا، بعدما بدا أن مثل تلك الظواهر تتنامى وتتمدد في الفراغ الروحي السائد.
نعود إلى سؤالنا: ما الذي جرى؟
رأيي أن ذلك كله من حصاد علمنة المجتمع بما تضمنته من تهميش للأديان وإقصاء مرجعيتها، وإطلاق فلسفة جديدة في العالم الغربي تلغي الغيب وتنصب الإنسان إلها جديدًا، وتعترف بالعقل والمادة والمحسوس، ولا شيء سواها.
أدري أن مصطلح العلمانية في عالمنا العربي، موضع الالتباس الشديد، فهناك سذج يربطون بينها وبين العلم، وهناك أناس طيبيون يحصرونها فيما يسمى بالفصل بين الدين والسياسة، وهناك هواة متحذلقون يفصلونها حسب هواهم وما يتمنونه، فيربطون بينها وبين التقدم والحرية والإبداع، وغير ذلك هناك خبثاء يحتمون بالمصطلح لتصيفية حساباتهم الخاصة مع الإيمان والمؤمنين.
العلمانية الشاملة غير هذا كله؛ وذلك إذ هي في أصلها وفي تطبيقاتها العلمية الملموسة في المجتمعات الغربية دعوة إلى الإيمان بالإنسان وعقله قبل الإيمان بالله والغيب. وفي مقام سابق قلت: إن كلمة "الدنيوية" هي أدق وأصوب في ترجمة مفهوم مصطلح Secularism وهو الأصل الإنجليزي للكلمة، التي ترجمت علمانية في العربية، والباكستانيون كانوا أصح منا عندما ترجموها في لغتهم الأردية إلى "الدنيوية"!
تسعفنا موسوعة الدكتور عبد الوهاب المسيري حول "العلمانية الشاملة" 4 أجزاء وهي تحت الطبع الآن" بمادة غزيرة في الكشف عن حقيقة الدور الذي لعبته
العلمانية في المصير الذي تعاني منه المجتمعات الغربية عامة بما فيها المجتمع البريطاني الذي نتحدث عنه.
هو ينطلق من أن العلمانية رؤية مادية للكون تهتك القداسة، ولا تعترف بالغيب، ويستعير عبارة الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي التي قال فيها: إن المشروع العلماني الغربي هو نموذج يقوم على نزع الألوهية في العالم، بحيث لا يعبد الإنسان شيئا، ولا حتى ذاته، ومن ثم فإنه لا يجد في الكون أي شيء مقدس ولا رباني، ولا نصف رباني؛ إذ بمقتضاه يظل الإنسان في عالمه المادي، لا يتجاوزه.
العلمانية حين تجلت:
في أحد مداخل الموسوعة يعتبر الدكتور المسيري النموذج العلماني الغربي مشروعا "تفكيكيا" ينكر الكليات والمطلق وكل أنواع التجاوز.
ومن ثم فإنه يؤدي إلى تفكيك الواقع الموضوعي وتفكيك الإنسان.
فالإيمان العقلاني المادي بالتقدم يضرب بالضرورة الثوابت والمطلقات، يجعل كل شيء نسبيا، وهو ما يجمع عليه فلاسفة العلمانية، ومنهم الإنجليزي جيريمي ينتام الذي ذهب مثلا إلى أنه لا يوجد مطلقات أخلاقية، وأن سلوكنا الأخلاقي يمكن تفسيره ماديًّا في إطار المنفعة واللذة. داروين وماركس وفرويد عبروا بصياغات متفاوتة عن ذات الفكرة:"رفض الثابت والمطلق والغيب".
حين هيمنت هذه الثقافة على المجتمعات الغربية، سادت المرجعية المادية التي لا تعول على الغيب وتؤمن بعقل الإنسان وحده، لم يختلف إنسان العصر الحديث كثيرا عن الإنساني البدائي أو الوثني. وهذا التشابه تحدث عنه الفيلسوف الألماني ماكس فيبر، فقال: إن كليهما يفتقر إلى إطار مرجعي معرفي وأخلاقي متكامل ومتماسك يكتب تكامله في عقيدة دينية ثابتة وكل منهما يعيش في عالم يفتقد إلى المركز، ويتسم بتعدد العقائد والنظم العرفية والأخلاقية، لذلك فالإنسان الوثني البدائي الذي كان يعيش في عالم مخيف يتهدده من كل جانب، وجد نفسه محاطا بآلهة وشياطين متصارعة لصيقة بعالمه المادي، ولأن إدراكه الخاص أو عقيدته الدينية البسيطة التي تلبسته كانت عاجزة عن أن تجيب عن أية أسئلة كلية، باعتبار أنها لا تقدم رؤية كونية شاملة، فإن أقصى ما استطاعت عقيدته أن تفعله أنها كانت تهدئ من روعه قليلا وبشكل مؤقت، شريطة أن يذهب إلى الساحر لكي يزوده بالتعويذة اللازمة لهذه المناسبة، ثم يطالبه بتقديم القرابين والقيام ببعض الطقوس لإلهه الخاص أو إله القبيلة دون أن يكون هناك منطق واضح وراء هذه الأشياء.
الإنسان الحديث يفعل نفس الشيء بعد أن تمت علمنته، فبعد أن عزف عن
الديانات الشاملة التي تؤمن بإله واحد للكون، فإنه راح يبحث عن ديانة تستهويه وتشبع أشواقه الروحية، ومن ثم فإنه اتجه إلى انتقاد التعاليم والطقوس التي تعجبه دون أن تحمله أية أعباء أخلاقية بكلام آخر فإنه حين تمت علمنته لم يعد يبحث عن الإله في السماء، ووجد نفسه يبحث عن آلهة أخرى في الوحل! هذا ما يفسر الوثنيات الجديدة التي ظهرت في بريطانيا وفي عدة دول أوروبية أخرى، التي وصفها أحد مثقفي الكنيسة الإنجيلية بأنها "ديانات العلمانية".
الانفلات العقيدي استصحب ذلك الانفلات الأخلاقي الذي يعد الشذوذ الجنسي أحد أبرز تجلياته، وهذا وذلك من إفرازات العلمنة وتداعياتها الضرورية، وفي الموسوعة التي نتحدث عنها معالجة مستفيضة لمفرادات العلمنة وتعبيراتها المجازية، ومن عنواينها التي تعنينا في السياق الراهن ما يشير إلى الجسد والجنس كتعبيرات أساسية عن السلوك العلماني؛ إذ حين يصبح الإنسان هو المركز، ويصبح كل شيء كامنا فيه، فإن الإنسان يختزل إلى جسده، ويختزل جسده إلى نشاطه الجنسي، وهو ما أدركه واحد من أهم فلاسفة العلمانيين، آرثر شوبنهاور "القرن 19"، الذي أدرك في وقت مبكر أن الجسد والجنس هما التعبير المجازي عن العلمانية الأساسية، ففرويد عبر عن ذات الفكر حيث فسر السلوك الإنساني منطلقا من مركزيته معتبرا أنه جسد محض ودوافعه جسدية وجنسية.
أيضا ينبه الدكتور المسيري في الموسوعة إلى ارتباط الحضارة العلمانية بالمنفعة المادية واللذة أدى إلى تعظيم دور الجسد والجنس، وفي رأيه أن الجسد هو التعبير المجازي عن عصر الحداثة، وأن الجنس هو التعبير المجازي عن عصر ما بعد الحداثة، وهو يعزز هذا الرأي باستشهادات من أقوال كبار الفلاسفة الغربيين مثل فوكو وليوتار وغيرهما..
هذه التداعيات تهمنا للغاية؛ لسبب جوهري هو أن بعض العلمانيين في بلادنا العربية اتجهوا خلال السنوات الأخيرة إلى محاولة هتك المقدس وتفكيك الإيمان الديني، من خلال العبث بالنصوص والزعم بأنها تاريخية "صلحت لمرحلة ولا تصلح لأخرى". فضلا عن أننا صرنا نطالع شعارات من قبيل "تجفيف الينابيع" تصب كلها في ذات اتجاه حصار الدين وتفكيك الإيمان.
وهذه الدعوات تمثل لعبًا بالنار لا ريب وتقودنا إلى مآلات مدمرة للدنيا والدين معا. أما ما هي تلك المآلات، فإنك ستراها بوضوح تعرفها جيدًا، إذا قرأت المقال مرة أخرى.