الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تربية الله لعباده
1:
وتربية الله تعالى مخالفة لتربية غيره، وبيان ذلك من وجوه:
الأول: أنه يربي عبيده لا لغرض نفسه بل لغرضهم، وغيره يربون لغرض غيرهم.
الثاني: أن غيره إذا ربَّى فبقدر تلك التربية يظهرالنقصان في خزائنه وفي ماله، وهو تعالى متعالٍ عن النقصان والضرر، كما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} 2.
الثالث: أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليهم أبغضه وحرمه ومنعه، والحق تعالى بخلاف ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام:"إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء".
الرابع: أن غيره من المحسنين مالم يطلب منه الإحسان لم يعط، أما الحق تعالى فإنه يعطي قبل السؤال، ترى أنه رباك حال ما كنت جنينًا في رحم الأم، ورحال ما كنت جاهلًا غير عاقل، لا تحس أن تسأل، ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته، وما كان لك عقل ولا هداية.
1 انظر فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، العدد3، ص282.
2 سورة الحجر الآية:21.
الخامس: أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت، والحق تعالى لا ينقطع إحسانه البتة.
السادس: أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم، ولا يمكنه التعميم، أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكلِّ، كما قال:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 1 فثبت أنه تعالى رب العالمين، ومحسن إلى الخلائق أجمعين، فلهذا قال تعالى في حق نفسه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2.
ثم إن الذي يحمد ويمدح ويعظم في الدنيا إنما يكون كذلك لأحد وجوه أربعة: إما لكونه كاملًا "في ذاته وفي صفاته، منزهًا عن جميع النقائص والآفات، وإن لم يكن منه إحسان إليك، وإما لكونه محسنًا إليك ومنعمًا عليك، وإما لأنك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل من الزمان، وإما لأجل أنك تكون خائفًا من قهره وقدرته وكمال سطوته، فهذه الحالات هي الجهات الموجبة للتعظيم، فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إن كنتم ممن يعظِّمون الكمال الذاتي فاحمدني فإني إله العالمين، وهو المراد من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، وإن كنتم ممن تعظِّمون الإحسان فأنا رب العالمين، وإن كنتم تعظِّمون للطمع في المستقبل فأنا الرحمن الرحيم، وإن كنتم تعظمون الخوف فأنا مالك يوم الدين"3.
1 سورة الأعراف: الآية 156.
2 مفاتيح الغيب، ج3، ص283.
3 المصدر السابق نفسه.
ووجوه تربية الله للعبد كثيرة غير متناهية، ونحن نذكر منها أمثلة:
المثال الأول: لما وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم، فانظر كيف أنها صارت علقة أولًا، ثم مضغة ثانيًا، ثم تولَّدت منها أعضاء مختلفة؛ مثل: العظام والغضاريف والرباطات الأوتار والأوردة والشرايين، ثم اتصل البعض بالبعض، ثم حصل في كل واحد منها نوعٌ خاصٌّ من أنواع القوى، فحصلت القوة الباصرة في العين، والسامعة في الأذن، والناطقة في اللسان، فسبحان من أسمع بعظم، وبصَّرَ بشحم، وأنطق بلحم، وكل ذلك يدل على تربية الله تعالى للعبد"1.
المثال الثاني: أن الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت لا تشق من شيء من الجوانب إلّا من أعلاها وأسفلها، مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب؛ أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة؛ وأما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائض في الأرض، وهو عروق الشجرة، فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق، ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة، ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولًا، ثم الثمار ثانيًا، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة واللطافة وهي القشور اللبوب ثم الأدهان، وأما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها؛ وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة، مع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة2.
1 المصدر السابق، ص284.
2 المصدر السابق نفسه.
"وأودع الله فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها1، والحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبيد إليه من الغذاء والإدام والفواكه والأشربة والأدوية، كما قال تعالى:{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} [عبس: 25، 26]2.
المثال الثالث: أنه وضع الأفلاك والكواكب بحيث صارت أسبابًا لحصول مصالح العباد، فخلق الليل ليكون سببًا للراحة والسكون، وخلق النهار ليكون سببًا للمعاش والحركة {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] واقرأ قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} إلى آخر آيات [النبأ: 6، 7] ، واعلم أنك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن والنبات والحيوان، وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان، قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية الله كثيرة، ودلائل رحمته لائحة ظاهرة، وعند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3.
ولقد أضاف الله سبحانه الحمد إلى نفسه، فقال تعالى:{الحمد لله} ، ثم أضاف نفسه إلى العالمين، والتقدير: "إني أحب الحمد فنسبته إلى
1 وهو ما يسمى بالخاصة الشعرية.
2 فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، العدد3 ص284.
3 فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، التفسير الكبير، ج1/ 3/ 284.
نفسي بكونه ملكًا، ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني ربًّا للعالمين، ومن عرف ذاتًا بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات وأكملها، وذلك يدل على أنه كونه ربًّا للعالمين أكمل الصفات، والأمر كذلك؛ لأن أكمل المراتب أن يكون تامًّا، وفوق التمام، فقولنا الله، يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته وبذاته، وهو التمام، وقوله: رب العالمين، معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته وإحسانه وجوده، وهو المراد من قولنا: إنه فوق التمام.
والله سبحانه يملك عبادًا غيرك، كما قال:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] ، وأنت ليس لك ربٌّ سواه، ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك، وأنت تخدمه كأن لك ربًّا غيره، فما أحسن هذه التربية، أليس أنه يحفظ في النهار عن الآفات من غير عوض، وبالليل عن المخافات من غير عوض؟ واعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة، فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات؟ وهل يحرسونه عن أن تنزل به البليات؟ أما الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات، ويصونه من المخافات؛ بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات وأقسام المحرمات والمنكرات، فما أكبر هذه التربية وما أحسنها، أليس من التربية أنه صلى الله عليه وسلم قال:"الآدمي بنيان الرب، ملعون من هدم بنيان الرب"، فلهذا المعنى قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42] ، ما ذاك إلّا الملك الجبار، والواحد القهار، ومقلب القلوب والأبصار، والمطلع على الضمائر والأسرار"1.
1 المرجع السابق، ج1 العدد 3/ 285.
ولقد شرَّف الله سبحانه وتعالى الإنسان وأكرمه بأن خلق له العقل كي يميز به بين الأشياء، ويدرك به النافع من الضار؛ فهو الوسيلة التي يستعان به على قبول التربية والانتفاع بها، وهو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة.
من تربية الله للناس أنه خلقهم على الفطرة:
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول ما خلق الله العقل، فقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال الله عز وجل: "وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقًا أكرم عليّ منك، بك آخذ، وبك أعطي وبك أثبت، وبك أعاقب"1.
والدين يحتاج إلى عقل وبصيرة؛ إذ لا يمكن تقبل المسائل أو رفضها إلّا عن طريقه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
"يا أيها الناس إن لكلِّ شيء مطية، ومطية المرء العقل، وأحسنكم دلالة ومعرفة بالحجة أفضلكم عقلًا"2.
كما جعل القلب مستودع العلوم كلها؛ إذ هو مصدر الإلهام ومنبع الكشف، وفي الحديث أنه -صلى عليه وسلم- قال:"استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك"3. والدين الذي هو التربية يحتاج إلى كلا العقل والقلب، وقد فطرهما الله كليهما على الحق.
قال سبحانه وتعالى:
1 الغزالي، إحياء علوم الدين، ج1/ 89، طبعة مصطفى البابي الحلبي، سنة 1368هـ- 1939م.
2 المصدر السابق والصفحة.
3 المصدر السابق: ج1/ 77.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} سورة الروم 30-32. قال ابن كثير في التفسير: "فسدد وجهك واستمرّ على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره كما تَقَدَّم عند قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 1.
وفي الحديث القدسي: "َإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ "، حيث طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وكقوله تعالى:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} 2، قال بعضهم: معناه لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها فيكون خبرًا بمعنى الطلب، وقال آخرون: هو خبر، ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، لا يولد أحد إلّا على ذلك، ولا تفاوت بين الناس في ذلك، ولهذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وابن زيد في قوله:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي: لدين الله، وقال البخاري في قوله:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لدين الله، خلق الأولين، دين الأولين، الدين والفطرة الإسلام"3.
1 الأعراف: 172.
2-
الروم: 30.
3 ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3/ 432، من تفسير سورة الروم بتصرف. نشر مكتبة الدعوة الإسلامية. شباب الأزهر 1400هـ / 1980م.
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه"، ثم يقول:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} " رواه مسلم1. قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا يونس، عن الحسن، عن الأسود بن سريع قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغزوت معه، فأصبت ظفرًا، فقاتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله، أما هم أبناء المشركين؟ فقال: "لا، إنما خياركم أبناء المشركين -ثم قال: لا تقتلوا ذرية، لا تقتلوا ذرية، وقال:"كل نسمة تولد على الفطرة، حتى يعرب عنها لسانها، فأبواها يهودانه أو ينصرانها" ، رواه النسائي في كتاب السير. وعن جابر، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرًا وإما كفورًا". وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله -صلى الله عليه سلم- سئل عن أولاد المشركين فقال:"الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم"، أخرجاه في الصحيحين عن ابن عباس مرفوعًا بذلك، وقد قال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا عفّان، حدثنا حماد -يعني: ابن سلمة، أنبأنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: أتى عليَّ زمان وأنا أقول: أولاد المسلمين مع المسلمين، وأولاد المشركين مع المشركين، حتى حدثنى فلان عن فلان أن رسول الله
1 مسلم بن الحجاج القشيري، صحيح مسلم، كتاب القدر، ج2، ص458، طبعة عيسى الحلبي، دار إحياء الكتب العربية.
الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن أولاد المشركين فقال: "ألله أعلم بما كانوا عاملين"، قال: فلقيت الرجل فأخبرني، فأمسكت عن قولي.
وعن قتادة، عن مطرف، عن عياض بن حمار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته:"إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا: كل ما نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا"1.
ويقول ابن كثير في أثناء تفسير سورة الروم، وقوله تعالى:{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} ، أي: التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 2، وقوله تعالى:{مُنِيبِينَ إِلَيْه} ، قال ابن زيد وابن جريح، أي: راجعين إليه {وَاتَّقُوهُ} ، أي: خافوه وراقبوه، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ، وهي الطاعة العظيمة، {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3 أي: بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة لا يريدن بها سواه، وعن يزيد بن أبي مريم قال: مرَّ عمر رضي الله عنه بمعاذ بن جبل فقالك عمر: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث؛ وهن المنجيات: الإخلاص؛ وهي الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها، والصلاة؛ وهي الملة والطاعة، وهي العصمة، فقال عمر:
1 راجع، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، في تفسير سورة الروم، ج3، ص432.
2 سورة الروم:30.
3 سورة الروم الآية:31.
صدقت، وقوله تعالى:{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 1 أي: لا تكونوا من المشركين الذين قد فرقوا دينهم، أي: بدَّلُوه وغيَّروه، وآمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض، وقرأ بعضهم: فارقوا دينهم، أي: تركوه وراء ظهورهم، وهؤلاء كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة مما عدا أهل الإسلام، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} 2 الآية. فأهل الأديان هنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومثل باطلة.
وكلة فرقة منهم تزعم أنهم على شيء، وهذه الأمة أيضًا اختلفوا فيما بينهم على نِحَلٍ كلها ضلالة إلّا واحدةً؛ هم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين من قديم الدهر وحديثه، كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية منهم فقال:"من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي"3.
1 سورة الروم الآية 32.
2 الأنعام 159.
3 ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج3/ 433.