الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحابي إنسان عالمي:
هكذا أدَّبَ الله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا أدَّبهم رسول الله بسنته وموعظته حتى أصبحوا مجتمعًا له عقيدة تختلف عن كل العقائد التي توارثوها عن الآباء والأجداد، مجتمعًا يستمد عقيدته من السماء، مجتمعًا ربانيًّا ينبثق فيه التعامل مباشرة من الإيمان بالله تعالى والتحاكم إلى شرعه، وصار هناك مفهوم جديد لمن تربى بهذه التربية، هذا المفهوم يطرح القبلية والعصبية والعنصرية، ويقبل على الناس جميعهم بروح المساواة والعدالة: إنه الإنسان العالمي الذي يشعرنا بالانتماء إلى الأسرة الإنسانية كلها، من واقع ما عرفه من دين الله الذي يدعو إلى التعارف والتآلف، ويأمر بالعدل والإحسان وتقديم الخير للبشرية، ويحقق السعادة للناس جميعًا؛ أسودهم وأبيضهم، وأحمرهم وأصفرهم، فالكل يتساوى أمام نظرة هذا الإنسان الجديد الذي لا تميزه عنصرية، ولا يحجبه عن الناس شيء.
ولقد كانت تربية الله لمجتمع الصحابة بكلامه وبإرشاد رسوله صلى الله عليه وسلم شاملة لجميع مناحي الحياة، في حالات السلم وحالات الحرب، فقد مروا باختبارات عملية تصهرهم بتجارب قاسية؛ لتخلق منهم الرجال الأشداء الأقوياء الذين لا يهابون شيئًا إلّا الله، وجعل الله منهم رجالًا مؤمنين ونساء مؤمنات، من طبقة عالية في الصدق والأمانة ودماثة الخلق، فصاروا أمةً من أرقى الأمم، لم يأت مثلهم في أمة سابقة، ولن يأتي مثلهم في أمة لاحقة، فكانوا بحقٍّ خير أمة أُخْرِجَتْ للناس، لهذا نجد علماء المسلمين الذين كانوا يقومون بجمع الحديث النبوي لا يسألون عن الصحابي، بسبب تعديل الله لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي عن
مائة ألف إنسانٍ من رجل أو امرأة، كلهم قد روى عنه سماعًا أو رؤية1.
وهؤلاء الصحابة قد شهد الله لهم بصدق حديثهم وطهارتهم، فعدَّلهم في قرآنه، ووصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس، ولهذا يقول أبو بكر الخطيب البغدادي في باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة:
"كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، لم يلزم العمل به إلّا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن"2.
فمن ذلك قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، وقوله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . [البقرة: 143] .
وهذا اللفظ وإن كان عامًّا فالمراد به الخاص، وقيل: هو وارد في الصحابة دون غيرهم3، وقوله:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} ، وقوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، وقوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، وقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
1 ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، ج1/ 3، دار الكتب العلمية، بيروت، نسخة طبق الأصل عن النسخة المطبوعة سنة 1853 في بلدة كلكتا.
2 الخطيب البغدادي: كتاب الكفاية في علوم الرواية، ص92.
3 المصدر السابق ص93.
دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في آيات يكثر إيرادها، ويطول تعدادها، ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة مثل ذلك، وأطنب في تعظيمهم، وأحسن الثناء عليهم1.
وروي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختارني، واختار أصحابي، فجعلهم أصهاري، وجعلهم أنصاري، إنه يجيء في آخر الزمان قوم ينتقصونهم، ألا فلا تناكحوهم، ألا فلا تنحكوا إليهم، ألا فلا تصلوا معهم، ألا فلا تصلوا عليهم، عليهم حلت اللعنة"2.
والأخبار في هذا المعنى تتسع، وكلها مطابقة لما رود في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله لهم، المطلع على بواطنهم، إلى تعديل أحد من الخلق، فهم على هذه الصفة إلّا أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية والخرج من باب التأويل، فيحكم بسقوط العدالة، وقد بَرَّأَهم الله من ذلك، ورفع أقدارهم عنده، على أنه لو لم يرد من الله عز وجل، ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، والقطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم
1 المصدر السابق ص94.
2 المصدر السابق ص96.