المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: التربية في القرآن الكريم - من قضايا التربية الدينية في المجتمع الإسلامي

[كمال الدين عبد الغني المرسي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: مفهوم التربية الدينية في الإسلام

- ‌معنى التربية:

- ‌تربية الله لعباده

- ‌علم التربية والتعليم علم بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌علم التربية والتعليم في المدرسة المحمدية

- ‌الفصل الثاني: مصادر التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌أولًا: التربية في القرآن الكريم

- ‌ثانيا: السنة النبوية

- ‌مدخل

- ‌الرسول نعمةٌ أنعم الله بها على المؤمنين وعلى العالمين:

- ‌سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحة في القرآن:

- ‌المثل الأعلى في التربية:

- ‌للرسول حقوق على كل من آمن به

- ‌ثالثا: هدى الصحابة

- ‌مدخل

- ‌تربية الله للصحابة:

- ‌تربية الرسول للصحابة:

- ‌الصحابي إنسان عالمي:

- ‌رابعا: هدى التابعين

- ‌مدخل

- ‌التابعون في القرآن

- ‌التابعون في السنة:

- ‌طبقات التابعين:

- ‌الفصل الثالث: منهج الإسلام في التربية

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى: الزواج وتكوين الأسرة

- ‌العقيدة وحسن اختيار الزوج

- ‌آداب المعاشرة:

- ‌التعاون بين الزوجين

- ‌المرحلة الثانية: الاستعداد لإستقبال المولود

- ‌إعداد البنية الصالحة لنشأة الطفل قبل الميلاد

- ‌المرحلة الثالثة: مرحلة الطفولة والصبا

- ‌آداب استقبال المولود:

- ‌ختان المولود:

- ‌العناية بالرضاع:

- ‌تأديب الولدان

- ‌التلطف بالصبيان:

- ‌مداعبة الأطفال واللعب معهم:

- ‌الإحسان إلى اليتيم:

- ‌المرحلة الرابعة: مرحلة الشباب الباكر إلى الرجولة

- ‌الارتقاء في أسلوب التربية:

- ‌تعليمه حقوق الأخوة الإسلامية:

- ‌تعليمه حقوق الجوار:

- ‌كما جاء في حقوق الأقارب والرحم عند الغزالى

- ‌الفصل الرابع: وسائل تطبيق المنهج الإسلامي في التربية

- ‌مدخل

- ‌التربية بالتلقين والتعويد

- ‌مدخل

- ‌رفاعة بك رافع الطهطاوي:

- ‌عبد الله باشا فكري:

- ‌علي مبارك باشا:

- ‌الشيخ محمد عبده:

- ‌ التربية بالقدوة:

- ‌التربية بشغل أوقات الفراغ وتنظيم الأوراد

- ‌مدخل

- ‌رياضة الباطن:

- ‌رياضة البدن:

- ‌التربية بالقصة والعظة

- ‌مدخل

- ‌قصة جريج العابد:

- ‌قصة التائب قاتل المائة:

- ‌شجاعة غلام:

- ‌التربية بالعقوبة

- ‌مراعاة طبيعة الطفل المخطئ في استعمال العقوبة

- ‌التدرج في المعالجة من الأخف إلى الأشد

- ‌شبهة "حقوق الإنسان" التي تنادي بها منظمة اليونسكو:

- ‌خصائص منهج التربية الدينية الإسلامية تقود إلى السيادة

- ‌مدخل

- ‌ الأصالة:

- ‌ الشمولية والتكامل:

- ‌ الأخلاقية:

- ‌ الواقعية وقابلية التطبيق:

- ‌ الثبات والخلود:

- ‌الفصل الخامس: الجهات المسئولة عن التربية

- ‌مدخل

- ‌أولا: الأسرة

- ‌تعويد الطفل على الخصال الحميدة

- ‌تجنيب الطفل العادات السيئة:

- ‌حال الأسرة المسلمة في عصرنا الحاضر:

- ‌ثانيا: المدرسة

- ‌مدخل

- ‌المدرسة هي البيت الثاني للولد:

- ‌ضعف المناهج:

- ‌مشكلة التعليم المعاصر:

- ‌معنى العلم في الإسلام:

- ‌حل مشكلة التعليم:

- ‌ثالثا: المسجد

- ‌مدخل

- ‌رسالة المسجد في التعليم والتربية:

- ‌رابعا: المجتمع

- ‌عناية الإسلام بالتشريع الإجتماعي

- ‌المجتمع المسلم ضرورة لازمة للتربية الإسلامية:

- ‌الفاقد في حياتنا الاجتماعية:

- ‌خاتمة البحث:

- ‌ملحق مضاف إلى البحث

- ‌فصل في الأخطار التى تتهدد المجتمع الإسلامي في الأخلاق والعادات والتقاليد

- ‌تصدير المنكرات إلى بلاد المسلمين

- ‌مدخل

- ‌ تصدير العقائد الزائغة وتأليه الدولة:

- ‌ تصدير التغريب والترويج لكلمة الرجعية

- ‌ تصدير العلمانية:

- ‌ تصدير عبارة "الدين أفيون الشعوب

- ‌ تصدير السفور واختلاط الجنسين:

- ‌المصادر والمراجع:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌أولا: التربية في القرآن الكريم

‌أولًا: التربية في القرآن الكريم

قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] .

فلم يدع القرآن شيئًا من أمور الناس في دنياهم إلّا وله فيه ذكر، كما بيَّنَ الله في هذا القرآن ما يقيم أمر الإنسان ويضمن له سعادته في الدنيا، ويضمن له أيضًا فوزه في الآخرة.

ولقد وضع القرآن للإنسان دستور حياته، وهو دستورٌ كاملٌ للإنسانية يشتمل على العقائد والعبادات والمعاملات والآداب الفردية والاجتماعي بأسلوب واضح وحجة قوية؛ بحيث يصلح لكلِّ الأجناس ولكل زمان ومكان؛ فمنهجه من صنع الخبير العليم، الذي أحكم كل شيء صنعه، وهو منهج تتضاءل بجانبه قوى العقول البشرية، وتتقاصر دونه كل الجهود البشرية.

السور التي تختص بأمور التربية في القرآن:

ولقد أرسى القرآن العظيم في عمومه قواعد الأخلاق الكريمة، لكن هناك سورًا منه اختصت بالتربية وعنيت بالأمر بمكارم الأخلاق، واشتملت على النهي عن القبائح والمنكرات مع الأمر بالمعروف، وتضمنت الآداب العامة التي ينبغي لكل مسلم أن يتحلَّى بها، نجد ذلك في سورة النساء، وسورة النور، وسورة لقمان، وسورة الأحزاب، وسورة الحجرات، وسورة الطلاق، وفيما يلي بيان موجز لما اشتملت عليه كل سورة من هذه السور في مجال التربية الإسلامية.

"سورة النساء"

سورة النساء إحدى السور المدنية الطويلة، وهي سورة مليئة بالأحكام الشرعية، التي تنظِّمُ الشئون الداخلية والخارجية للمسلمين، وهي تُعْنَى بجانب التشريع، كما هو الحال في السور المدينة، وقد تحدثت السورة الكريمة عن أمور هامَّةٍ تتعلق بالمرأة، والبيت، والأسرة، والدول، والمجتمع، ولكن معظم الأحكام التي وردت فيها، كانت تبحث حول موضوع النساء، ولهذا سُمَّيَتْ "سورة النساء"!!

ص: 28

تحدثت السورة الكريمة عن حقوق النساء والأيتام -وبخاصة اليتيمات- في حجور الأولياء والأوصياء، فقررت حقوقهن في الميراث والكسب والزواج، واستنقذتهن من عسف الجاهلية وتقاليدها الظالمة المهينة.

- وتعرضت لموضع المرأة فصانت كرامتها، وحفظت كيانها، ودعت إلى إنصافها بإعطائها حقوقها التي فرضها الله تعالى لها؛ كالمهر، والميراث، وإحسان العشرة.

- كما تعرضت بالتفصيل إلى "أحكام المواريث" على الوجه الدقيق العادل، الذي يكفل العدالة ويحقق المساواة، وتحدثت عن المحرمات من النساء "بالنسب، والرضاع، والمصاهرة".

- وتناولت السورة الكريمة تنظيم العلاقات الزوجية، وبينت أنها ليست علاقة جسد، وإنما علاقة إنسانية، وأن المهر ليس أجرًا ولا ثمنًا، وإنما هو عطاءٌ يوثق المحبة، ويديم العشر، ويربط القلوب.

- ثم تناولت حق الزوج على زوجته، وحق الزوجة على زوجها، وأرشدت إلى الخطوات التي ينبغي أن يسلكها الرجل لإصلاح الحياة الزوجية، عندما يبدأ الشقاق والخلاف بين الزوجين، وبيَّنَتْ معنى "قوامة الرجل"، وأنها ليست قوامة استعباد وتسخير، وإنما هي قوامة نصح وتأديب؛ كالتي تكون بين الراعي ورعيته.

- ثم انتقلت من دائرة الأسرة إلى دائرة المجتمع، فأمرت بالإحسان في كل شيء، بيَّنَتْ أن أساس الإحسان التكافل والتراحم، والتناصح والتسامح، والأمانة والعدل، حتَّى يكون المجتمع راسخ1.

1 الصابوني، صفوة التفاسير، ج1/ 257 مكتبة الإيمان المنصورة، سنة 1977.

ص: 29

البنيان قوي الأركان.

- ومن الإصلاح الداخلي انتقلت الآيات إلى الاستعداد للأمن الخارجي، الذي يحفظ على الأمة استقرارها وهدوءها، فأمرت بأخذ العدة لمكافحة الأعداء.

- ثم وضعت بعض قواعد المعاملات الدولية بين المسلمين والدول الأخرى المحايدة أو المعادية.

- واستتبع الأمر بالجهاد حملةً ضخمة على المنافقين، فهم نابتة السوء، وجرثومة الشر التي ينبغي الحذر منها، وقد تحدثت السورة الكريمة عن مكايدهم وخطرهم.

- كما نبهت إلى خطر أهل الكتاب، وبخاصة اليهود، وموقفهم من رسل الله الكرام.

- ثم ختمت السورة الكريمة ببيان ضلالات النصارى في أمر المسيح عيسى بن مريم؛ حيث غالوا فيه حتى عبدوه، ثم صلبوه1 مع اعتقادهم بألوهيته، واخترعوا فكرة التثليث، فأصحبوا كالمشركين الوثنيين، وقد دعتهم الآيات إلى الرجوع عن تلك الضلالات إلى العقيدة السمحة الصافية "عقيدة التوحيد"، وصدق الله حيث يقول:{وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1.

1 المرجع السابق، ص258.

ص: 30

"سورة النور"

- سورة النور من السور المدنية، التي تتناول الأحكام الشرعية، وتُعْنَى بأمور التشريع، والتوجيه والأخلاق، وتهتم بالقضايا العامة والخاصة، التي ينبغي أن يُرَبَّى عليها المسلمون أفرادًا وجماعات، وقد اشتملت هذه السورة على أحكام هامة، وتوجيهات عامة تتعلق بالأسرة، التي هي النواة الأولى لبناء المجتمع الأكبر.

- وضَّحَتْ السورة الآداب الاجتماعية التي يجب أن يتمسك بها المؤمنون في حياتهم الخاصة والعامة؛ كالاستئذان عند دخول البيوت، وغَضِّ الأبصار، وحفظ الفروج، وحرمة اختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات، وما ينبغي أن تكون عليه الأسرة المسلمة والبيت المسلم، من العفاف والستر، والنزاهة والطهر، والاستقامة على شريعة الله، صيانةً لحرمتها، وحفاظًا عليها من عوامل التفكك الداخلي، والانهيار الخلقي، الذي يهدم الأمم والشعوب.

- وقد ذُكِرَ في هذه السورة الكريمة بعضُ الحدود الشرعية التي فرضها الله؛ كحد الزنى، وحد القذف، وحد اللعان، وكل هذه الحدود إنما شُرِّعَتْ تطهيرًا للمجتمع من الفساد والفوضى، واختلاط الأنساب، والانحلال الخلقي، وحفظًا للأمة من عوامل التردي في بؤرة الإباحية والفساد، التي تسبب ضياع الأنساب، وذهاب العِرْضِ والشرف.

- وباختصار، فإن هذه السورة الكريمة عالجت ناحيةً من أخطر النواحي الاجتماعية، هي "مسألة الأسرة"، وما يحفُّها من مخاطر، وما يعترض طريقها من عقباتٍ ومشاكل، تؤدي بها إلى الانهيار، ثم الدمار، هذا عدا ما فيها من آداب سامية، وحكم عالية، وتوجيهات رشيدة1.

1 الصابوني، صفوة التفاسير ج2/ 325.

ص: 31

إلى أسس الحياة الفاضلة الكريمة، ولهذا كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة يقول لهم:"علموا نساءكم سورة النور".

"سورة لقمان"

وقد سُمِّيَتْ سورة لقمان لاشتمالها على قصة "لقمان الحكيم"، التي تضمَّنَتْ فضيلة الحكمة وسرّ معرفة الله تعالى وصفاته، وذمّ الشرك، والأمر بمكارم الأخلاق، والنهي عن القبائح والمنكرات، وما تضمنته كذلك من الوصايا الثمينة التي أنطقه الله بها، وكانت من الحكمة والرشاد بمكان!

"سورة الأحزاب"

أما سورة الأحزاب فهي من السور المدنية، التي تتناول الجانب التشريعيّ لحياة الأمة الإسلامية، شأن سائر السور المدنية، وقد تناولت حياة المسلمين الخاصة والعامة، وبالأخص أمر الأسرة، فشرَّعَتْ الأحكام بما يكفل للمجتمع السعادة والهناء، وأبطلت بعض التقاليد والعادات المورثوة؛ مثل: التبني، والظهار، واعتقاد وجود قلبين لإنسان، وطهَّرت الناس من رواسب المجتمع الجاهلي، ومن تلك الخرافات والأساطير الموهومة التي كانت متفشيةً في ذلك الزمان، وتجد في هذه السورة من الموضوعات التربوية ما يلي:

أولًا: التوجيهات والآداب الإسلامية.

ثانيًا: الأحكام والتشريعات الإلهية1.

1 الصابوني، صفوة التفاسير، ج2/ 487.

ص: 32

أما الأولى: فقد جاء الحديث عن بعض الآداب الاجتماعية؛ كآداب الوليمة، وآدب الستر والحجاب، وعدم التبرج، وآداب معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم واحترامه، إلى آخر ما هنالك من آداب اجتماعية.

وأما الثانية: فقد جاء الحديث عنها في بعض الأحكام التشريعية؛ مثل: حكم الظهار، والتبني، والإرث، وزواج مطلقة الابن من التبني، وتعدد زوجات الرسول الطاهرات والحكمة منه، وحكم الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وحكم الحجاب الشرعيّ، والأحكام المتعلقة بأمور الدعوة إلى الوليمة، إلى غير ما هنالك من أحكام تشريعية.

"سورة الحجرات"

هذه السورة الكريمة مدنية، وهي على وجازتها سورة جليلة ضخمة، تتضمَّن حقائق التربية الخالدة، وأسس المدنية الفاضلة، حتى سمَّاها بعض المفسرين "سورة الأخلاق".

- ابتدأت السورة الكريمة بالأدب الرفيع الذي أدَّبَ الله به المؤمنين، تجاه شريعة الله وأمر رسوله، وهو ألَّا يبرموا أمرًا، أو يبدوا رأيًا، أو يقضوا حكمًا في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يستشيروه ويستمسكوا بإرشاداته الحكيمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .

- ثم انتلقت إلى أدبٍ آخر، هو خفض الصوت إذا تحدثوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيمًا لقدره الشريف، واحترامًا لمقامه السامي، فإنه ليس كعامة الناس، بل هو رسول الله، ومن واجب المؤمنين أن يتأدبوا معه في الخطاب، مع التوقير التعظيم والإجلال1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا

1 الصابوني، صفوة التفاسير، ج2/ 507.

ص: 33

أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} .

- ومن الأدب الخاصِّ إلى الأدب العام، تنتقل السورة لتقرير دعائم المجتمع الفاضل، فتأمر المؤمنين بعدم السماع للإشاعات، وتأمر بالتثبت من الأنباء والأخبار، لا سيما إن كان الخبر صادرًا عن شخصٍ غير عدلٍ، أو شخص مُتَّهَمٍ، فكم من كلمة نقلها فاجر فاسق سبَّبَتْ كارثةً من الكوارث، وكم من خبر لم يتثبت منه سامعه جَرَّ وبالًا، وأحدث انقسامًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} .

- ودعت السورة إلى الإصلاح بين المتخاصمين، ودفع عدوان الباغين:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآيات.

- وحذَّرَتْ السورة من السخرية والهمز واللمز، ونفَّرَتْ من الغيبة والتجسس والظن السيئ بالمؤمنين، ودعت إلى مكارم الأخلاق، والفضائل الاجتماعية، وحين حذَّرَتْ من الغيبة جاء النهي في تعبير رائع عجيب، أبدعه القرآن غاية الإبداع، صورة رجل يجلس إلى جنب أخٍ له ميت ينهش منه ويأكل لحمه {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} الآية. ويا له من تنفيرٍ عجيب!!

- وختمت السورة بالحديث عن الأعراب الذين ظنوا الإيمان كلمةً تُقَالُ باللسان، وجاءوا يمنُّون على الرسول إيمانهم، فتبين حقيقة الإيمان، وحقيقة الإسلام، وشرط المؤمن الكامل، وهو الذي جمع الإيمان والإخلاص والجهاد والعمل الصالح {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . إلى آخر السورة الكريمة1.

1 الصابوني، صفوة التفاسير، ج3/ 230-231.

ص: 34

"سورة الطلاق"

- سورة الطلاق مدنية، وقد تناولت بعض الأحكام التشريعية المتعلقة بأحوال الزوجين؛ كبيان أحكام الطلاق من العدة، والنفقة، والسكنى، وأجر المرضع، إلى غير ما هنالك من أحكام.

- وتناولت السورة الكريمة في البدء أحكام الطلاق -الطلاق السنِّي، والطلاق البدعي- فأمرت المؤمنين بسلوك أفضل الطرق عند تعذر استمرار الحياة الزوجية، ودعت إلى تطليق الزوجة في الوقت المناسب، وعلى الوجه المشروع، وهو أن يطلقها طاهرًا من غير جماع، ويتركها إلى انقضاء عدتها.

- وفي هذا التوجيه الإلهي دعوة للرجال أن يتمهلوا ولا يسرعوا في فصل عرى الزوجية، فإن الطلاق أبغض الحلال إلى الله، ولولا الضرورات القسرية لما أبيح الطلاق؛ لأنه هدمٌ للأسرة.

- ودعت السورة إلى إحصاء العدة لضبط انتهائها، لئلَّا تختلط الأنساب، ولئلَّا يطول الأمد على المطلقة فيلحقها الضرر، ودعت إلى الوقوف عند حدود الله، وعدم عصيان أوامره.

- وتناولت السورة أحكام العدة، فبينت عِدَّةَ اليائس التي انقطع عنها دم الحيض لكبرٍ أو مرض، وكذلك عدة الصغيرة، وعدة الحامل؛ فبينته أوضح بيانٍ مع التوجيه والإرشاد.

- وفي خلال تلك الأحكام التشريعية تكررت الدعوة إلى "تقوى الله" بالترغيب تارةً، وبالترهيب أخرى، لئلَّا يقع حيفٌ أو ظلمٌ من أحد الزوجين، كما أوضحت أحكام السكنى والنفقة1.

1 الصابوني: صفوة التفاسير، ج3/ 397.

ص: 35

- وختمت السورة بالتحذير من تعدي حدود الله، وضربت الأمثلة بالأمم الباغية التي عتت عن أمر الله، وما ذاقت من الوبال والدمار، ثم أشارت إلى قدرة الله في خلق سبع سموات طباق، وخلق الأرضين، وكلها براهين على وحدانية رب العالمين.

عالمية القرآن في التربية:

تربية المولى -عزَّ وعَلَا- للناس بعامة:

وجَّه المولى سبحانه وتعالى النداء في القرآن للناس جميعًا في كل البقاع والأصقاع؛ بقوله: يا أيها الناس، أو بقوله: يا بني آدم، أو بقوله: يا أيها الإنسان، أو بأمره لنبيه بأن يقول لهم ما أبلغه به جبريل عن الله عز وجل بقوله:"قل يا أيها الناس"، فنجد في القرآن من مباشرة النداء آيات كثيرة تدعو الناس إلى عبادة الله وتوحيده؛ لأنه ربهم الذي خلقهم؛ كقوله عز من قائل:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 21] .

فتجد "ربكم" فيها تنبيه على أن الموجب للعبادة هي الربوبية، والآية تدل على أن الطريق إلى معرفة الله والعلم بوحدانيته واستحقاقه للعبادة: النظر في صنعه، والاستدلال بأفعاله، وأن العبد لا يستحق بعبادته ثوابًا، لكنه لما أداها فإنه كأجيرٍ أخذ الأجر قبل العمل.

فالله المربِّي قد هيأ للناس الأرض، وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة، حتى صارت صالحة لأن يقعدوا عليها، ويناموا عليها؛ كالفراش المبسوط، فهي مع اتساع جرمها، لا تأبى الافتراش عليها، كما جعل

ص: 36

السماء مبنية ينزل منها المطر الذي أودع الله فيه قوة فاعلة قادرة على أن تمتزج بقوة الأرض الفاعلة أيضًا، فيتولد منهما أنواع الثمار التي يكون منها زرق الإنسان، فلا يصحُّ للإنسان المرزوق بقدرة الله أن يجعل له أندادًا، مع علمه بأنه سبحانه لا نِدَّ له، ولا شريك له، وإذا كان ذلك كذلك، فإنه سبحانه أباح لهم بأن يأكلوا من طيبات الرزق فقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168] ، و"مما" للتبعيض؛ لأن كل ما في الأرض ليس بمأكولٍ؛ فمنه ما هو طيب طاهر من كل شبهة، ومنه ما هو غير ذلك، والشيطان يزين لهم الحرام ويدعوهم إليه، حتى يقعوا في المحظور؛ فيخالفوا أوامر الرب عز وجل، ولذلك قال بعدها:{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] ؛ ليبين لهم أنهم يجب عليهم الانتهاء عن الشيطان؛ لأنه يزيّن لهم أعمالهم، ويريد بذلك هلاكهم، فهو لا يأمرهم بخير أبدًا، ولكن يأمرهم بالسوء والفحشاء؛ قيل: إن السوء ما لا حَدَّ فيه، والفحشاء ما فيه حَدٌّ، ومن ذلك: القول على الله بما لا يعلمون، فيحلون ويحرمون من عند أنفسهم، وبتزيين الشيطان لهم يقولون: هذا حلال وهذا حرام، والله لا يرضى منهم هذه الادعاءات الباطلة، وكيف يطيعون أوامر الشيطان ولا يستجيبون لأوامر الرحمن؟!

ويأتي النداء في سورة النساء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} فيطالب الناس بتقواه؛ وهي عبادته وحده لا شريك له، فهم من خلقه، والدليل على ذلك خلقه إياهم من نفسٍ واحدة هي نفس آدم، حيث خلق من ضلعه الأيسر حواء، وذرأ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم

ص: 37

وألوانهم ولغاتهم، وهو سبحانه مراقب لجميع أحوالهم وأعمالهم، وفي ذلك تذكير للناس بأصل الخلقة وقدرة الخالق مما يستوجب منهم عبادته وحده، وطاعة أوامره وحده.

أما في سورة الأعراف فيأمر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن ينادي في الناس ويُعْلِمَهُمْ بأنه رسول الله إلى جميع الخلق، وأن عليهم أن يتبعوه إن أرادوا لأنفسهم رحمةً؛ حيث يقول عز من قائل:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} آية 158.

وهذه الآية تحمل عالمية الدعوة، فهي لعموم الناس؛ أبيضهم وأسودهم، وأحمرهم وأصفرهم، وعربيهم وعجميهم، يطلب منهم الإيمان بالله وبرسوله وبكلماته، وهي شاهدةٌ على جميع البشر بأن الله أخبرهم عن طريق الرسول والقرآن وأقوال علماء المسلمين في كل مكان وزمان، فلاحجة لأحدٍ منهم أن ينكر البلاغ1.

ثم يأتي النداء في سورة يونس:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} آية 23.

ليبيِّنَ لهم على أن ظلمهم إنما يعد في النهاية عليهم، وأن المآل والمرجع إلى الله؛ فيخبرهم به يجازيهم عليه.

وفي سورة يونس أيضًا يكون النداء من العليّ القدير إلى الناس بالهداية والرحمة بمجيء القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ

1 ابن كثير الدمشقي، تفسير القرآن العظيم ج1/ 448.

ص: 38

مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} آية 57.

أي قد جاءكم كتاب جامع لكلِّ الفوائد من موعظةٍ وتنبيهٍ على التوحيد، والموعظة التي تدعو إلى كل مرغوب، وتزجر عن كل مرهوب؛ إذ الأمر يقتضي حسن المأمورية فيكون مرغوبًا، وهو يقتضي النهي عن ضده وهو قبيح، وعلى هذا، ففي النهي شفاء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة، وهدًى من الضلالة ورحمة للمؤمنين1.

وفي السورة نفسها أمر من الله سبحانه إلى النبي -محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس: إن كنتم في شكٍّ من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إليَّ، فأنا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له، وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم ثم إليه ترجعون {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 104] .

ثم يكون النداء الأخير في سورة يونس لمحمد صلى الله عليه وسلم على الناس بأمرٍ من الله أن يخبرهم أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مِرْيَةَ فيه ولا شك، فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك الاتباع على نفسه، قال تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس: 108] .

وتتكرر النداءات من الله عز وجل إلى الناس في القرآن الكريم، كما نجد مثلًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ

1 النسفي، تفسير النسفي، ج2/ 167، طبعة عيسى البابي الحلبي.

ص: 39

خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر آية 3] . وقوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر آية: 5] .

وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر آية: 15] .

وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات آية: 13] .

وفي مواضع أخرى يناديهم بقوله: يا بني آدم، وإن كانوا من أهل ملةٍ غير الإسلام قال: يا أيها الذين أوتوا الكتاب؛ ليذكِّرَهُم بالدين، وبأن الدنيا منقطعة وزائلة، وأن الحياة الحقيقية هي الآخرة، والآخرة إما أن تكون دار سعادة، وإما أن تكون دار شقاء، وأنه عز وجل أرسل إليهم آخر الأنبياء من لدنه ليربيهم على ملة الإسلام ملة أبي الأنبياء إبراهيم، وقد يوجه سبحانه النداء إلى الإنسان بمفرده، لعله يذكَّرُ أو يخشى، كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} 1 وفي قوله -عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} 2.

فالله سبحانه وتعالى يخاطب الجنس البشريّ كله موضحًا للناس أنه خالقهم، وأنه الملك سبحانه، وأنه ملك يوم الدين، وأنه هيأ لهم الأرض ومهدها كي تصلح لخدمتهم ومتاعهم وإقامتهم عليها، وأنه صاحب النعم وصاحب الرزق، ودعاهم إلى عبادته وطاعته، وفي الوقت نفسه حذرهم من عدوهم اللدود، وهو الشيطان الذي أضلَّ من قبلُ خلقًا

1 سورة الانفطار آية 6.

2 سورة الانشقاق آية 6.

ص: 40

كثيرًا، وقصته مع أبيهم آدم من قبل معروفة، فلا يصحُّ لهم أن يستجيبوا لما يُخَيَّلُ إليهم من الزينة حتى لا ينغص علهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ويذيع بينهم العداوة والبغضاء، وأنه سبحانه وتعالى قد خلقهم ليعمر بهم الأرض، وينزل من لدنه رسله ليهدهم سواء السبيل، وليبلغوهم بما يحب الله ويرضى، وأنه جعل المفاضلة بينهم قائمة على ميزان التقوى، فأكرم الخلق عنده هو أكثرهم عبادةً وخشوعًا واستجابةً لأوامره ونواهيه.

ويا حبذا لو أن هذه النداءات الموجهة من الله عز وجل إلى الناس بعامَّةٍ تترجم إلى اللغة الإنجليزية، وتبلغ للعالم أجمع؛ لأن من حقِّ هؤلاء الناس علينا أن نبلغهم ما أبلغنا القرآن، وما أبلغنا به سيد الخلق سيدنا -محمد صلى الله عليه وسلم، وليكن ذلك تحت عنوان:

"God's Call To all"

بمعنى "نداء الله للجميع"، فتترجم للناس معاني الآيات التي تبدأ بقوله:"يا أيها الناس"، وما جاء في معناها بلغةٍ سهلةٍ حتى يفهم الناس مراد الحق تبارك وتعالى، فيدخلوا في دين الله حين يسمعون كلامه ويفهمونه.

أما من رضي بالله تعالى ربًّا، وبإلإسلام دينًا، وبسيدنا محمد نبيًّا ورسولًا، فهؤلاء لهم نداء خاصٌّ بهم وهو قوله:"يا أيها الذين آمنوا"، وهذا النداء من الله تعالى للمؤمنين به، الموحدين له، يأتي بعده تشريع وتوحيد وتأديب من رب العالمين، وقد صدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ إذ قال لرجل:"إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا" فارعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"1.

ولقد تكرر النداء في القرآن قرابة تسع وثمانين مرة، كلها آداب

1 ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج1/ 148.

ص: 41

وتزكية وتشريع استحق بها المؤمنون من أمة محمد -صلى الله عليه سلم- أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس؛ لأنهم عُرِفُوا بصفة هي من خواصِّ صفات الأنبياء، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يحمل لنا التاريخ اسم أمة من الأمم الغابرة، أو جماعة من الجماعات حملت هذه الصفة التي وصف بها القرآن أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهي الأمة الوحيدة التي فهمت عن الله كلامه، وفهمت عن نبيه كلامه وبلاغاته، فلا تزال تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

تربية القرآن للعرب:

ولعل من أعظم ما أتى به القرآن الكريم في شأن التربية، تربية الكبار من قبائل العرب، وتليين قلوب الذين كان لديهم الاستعداد الدفين منهم لقبول هذه التربية الإسلامية والتأثر بها، والدخول في الدين الجديد المنزَّل إليهم من السماء؛ حيث نجد القرآن المكيّ بما فيه من الترغيب والترهيب يؤثر في نفوسهم ويجذبهم جذبًا من مهاوي الضلال إلى مدراج الهداية، فانقبلوا بنعمة الله وفضله من أشداء في الظلم والكبر، إلى أشداء في العدل والرحمة.

فهذا عمر بن الخطاب صاحب القوة والجبرت قبل إسلامه، والذي كان يخشاه صناديد قريش، ويعملون له ألف حساب، يسمع الآيات من سورة طه فتنقشع عن قلبه سحابة الكفر، وتزول عن بصره غشاوة الظلم، فيذعن من فوره إلى النداء الرباني، ويذهب إلى محمد -صلى الله عليه سلم- معلنًا إسلامه وخضوعه إلى الله عز وجل، ويكون بعد ذلك عمر العادل الرحيم بالمؤمنين، الذابّ عن الدين والحامي لعرين الإسلام.

وكان أبو ذر قاطع طريق، وكان شجاعًا، فاتكأ يتفرد وحده بقطع

ص: 42

الطريق، ويهجم وحده على الجماعة في أول الصباح على ظهر فرسه، أو على قدميه كأنه السبع، فيطرق الحمى ويأخذ ما أخذ، والعجيب أننا نجد في أخباره أنه كان أيام جاهليته يتأله ويقول: لا إله إلّا الله، ولم يكن يعبد الأصنام، وقد مَرَّ عليه رجلٌ من أهل مكة فقال: أي أبا ذر، إن رجلًا بمكة يقول مثل ما تقول، ويزعم أنه نبيّ، فقال أبو ذر: ممن هو؟ قال: من قريش، فطلب أبو ذر من أخٍ له أن يذهب إلى مكة ليأتيه بخبر ذلك الرجل الذي هو من قريش، ويزعم أنه نبي، فلمّا عاد إليه أخوه، أخبره أنه رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بمكارم الأخلاق، فلم يلبث أبو ذر أن جمع نفسه وخرج إلى مكة ليسمع ويرى.

وما أن التقى أبو ذر بالنبيّ وسمع منه حتى أعلن إسلامه، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم، يا نبيَّ الله! ما تأمرني؟

قال -صلى الله عليه سلم- ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري.

فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فنادى بأعلى صوته:

أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله.

فضربه كفار قريش حتى صرعوه، فحذَّرهم العباس عم النبي -صلى الله عليه سلم- قتله، وقال: أنتم تجار، وطريقكم على غِفَار، فتريدون أن يقطع الطريق؟ فأمسكوا عنه.

وعلى يد أبي ذر أسلم أهله وعشيرته، وأسلم نصف قومه من بني غفارو وقال الباقون: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلموا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غفار غفر الله

ص: 43

لها، وأسلم سالمها الله"1.

وهذا الوليد بن الوليد بن المغيرة من بيت الكفر والضلال؛ فأبوه الوليد بن المغيرة عدو الله ورسوله، لم يزل على دين قومه، وخرج مع كفار قريش إلى بدرٍ ليحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاء الله له أن يقع في الأسر، فقد أسره عبد الله بن جحش، فقدم في فدائه أخواه خالد وهشام ابنا الوليد بن المغيرة، لكن الوليد كان قد سمع كلام القرآن وتأثر به، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبى أن يفدى الوليد إلّا بشكة أبيه، فرفض خالد وطاع هشام بن الوليد؛ لأن الوليد أخوه لأبيه وأمه، وكانت الشكة درعًا فضفاضةً وسيفًا وبيضةً، فطاعا به وسلماه، فلما قُبِضَ ذلك خرجا بالوليد حتى بلغا به "ذا الحليفة"، فأفلت منهما، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، فقال له خالد: هلّا كان ذلك قبل أن تفتدى، وتخرج مأثرة أبينا من بين أيدينا، فاتبعت محمدًا إذ كان هذا رأيك؟ 2.

فقال: ما كنت لأسلم حتى اُفْتَدَى بمثل ما افْتُدِيَ به قومي، ولا تقول قريش: إنما اتبع محمد فرارًا من الفدي، ثم خرجا به إلى مكة وهو آمن لهما فحبساه، ثم هرب بعد ذلك فارًّا إلى المدينة، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات بها.

وهناك أمثلة كثيرة تدل على أن القرآن بهديه الذي يَمَسُّ شغاف القلوب تأثر به كثير ممن كانوا عتاة في الكفر، وأن الذين دخلوا في الإسلام منهم كان لديهم الاستعداد الدفين كامنًا في قلوبهم، حتى إذا جاء الإسلام أزاح غشاوة الكفر التي كانت تحجبه فاستجابت قلوبهم

1 محمد بن سعد كاتب الواقدي، الطبقات الكبرى ج4/ 163.

2 المصدر السابق ج4/ 97، 98.

ص: 44

لباريها، آمنوا بالله وبرسوله، واهتدوا بهديه، وتحولوا بعد الإيمان من رجالٍ جبَّارين إلى رجالٍ من نوع آخر، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تلين قلوبهم إلى ذكر الله، ويتراحمون فيما بينهم، ويربط بينهم رباط الأخوة الإسلامية، فهم على اختلاف أشكالهم وألوانهم وهيئاتهم أخوة في الله، وهي أسمى معاني الأخوة.

والقرآن بترغيبه وترهيبه فيه دعوةٌ إلى استخدام العقل وإعمال البصيرة، إذ هو يخاطب الإنسان الذي أنعم الله عليه بنعمة العقل والبصيرة، لذلك نجد الآيات التي تختم بقوله تعالى: أفلا يعقلون، أفلا يبصرون، نجد فيها الدعوة إلى استعمال العقل والانتفاع بالحواس، ووصف القرآن من لا يسترشد بعقله وبصيرته بأنه لا يفقه؛ حيث لم ينتفع بعقله {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] .

ويستخدم التعبير القرآن في أسلوب الاستدلال في تفهيم الناس، والعقل آلة الفهم والربط، وبه يستدل على الأشياء، ولذلك نجد القرآن يسرد الأشياء التي تراها العين مضفيًا عليها قبسًا من نور العلم الرباني، وكلامًا ووصفًا لم يعهده كفار مكة من قبل في كلام حكمائهم وكهانهم وبلغائهم، ويطلب من الناس بعد ذلك أن يصلوا بعقولهم إلى الحقيقة، حقيقة الخالق الواحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.

نقرأ مثلًا من القرآن المكي ما جاء في سورة الرعد قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ

ص: 45

يَتَفَكَّرُونَ، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 2-4] .

إنها دعوةٌ إلى التفكر، ودعوة لاستعمال العقل بالتدبر في ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه وتعالى ودلائله في خلقه، فالله تعالى يخبر عن كمال قدرته وعظيم سلطانه، أنه الذي بإذنه وأمره رفع السماوات بغير عمد، رفعها بحيث لا تنال ولا يدرك مداها

وسخر الشمس والقمر تسخيرًا أبديًّا؛ فهما يجريان بلا تعطيل ولا تأخير ولا اختلاف إلى انقطاعهما بقيام الساعة، والله يوضح للناس الآيات والدلالات على أنه هو الله الذي لا إله إلّا هو، وأن لقاءه حق.

وبعد أن ذكر الله تعالى العالم العلوي، شرع في ذكر قدرته وحكمته وأحكامه للعالم السفلي، وهو الأرض المتسعة الراسية بجبالها الراسيات الشامخات، ثم أجرى في الأرض الأنهار والجداول والعيون ليُسْقَى بها الزروع التي تنتج الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم، وجعل من كل شكلٍ صنفين، وهذه القدرة هي التي سخَّرت أيضًا الليل والنهار، وجعلت كلًّا منهما يطلب الآخر، فإذا ذهب هذا غشيه هذا.. كل ذلك يسوقه ويذكره لأجل أن يتفكر الإنسان في آلاء الله ودلائله.

ثم يذكر بعد ذلك أن الأراضي يجاور بعضها بعضًا، وفيها الطيبة وفيها السبخة المالحة، ويذكر أن فيها البساتين والمروج التي يخرج منها الأعناب والزورع والنخيل، منها ما له أصول مجتمعة في منبت واحد كالرمان والتين وبعض النخيل، ومنها غير الصنوان وهو ما كان على أصلٍ واحدٍ كسائر الأشجار، ومع ذلك فكلها تسقى بماءٍ واحدٍ، مع هذا الاختلاف في الأشكال والطعوم، وفي ذلك آيات لمن كان واعيًا مدركًا لحقائق الأمور، فهو يعلم أن هذه الدلالات كلها تشير إلى أن الفاعل

ص: 46

المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء هو الله عز وجل.

هكذا يمنحنا القرآن منهجًا كاملًا لمعرفة العوالم المحيطة بنا:

عالم الطبيعة، وعالم الغيب، ويرسم لنا صورة كاملة عن نشأة الحياة، وعن سر خلقنا ودورنا في هذه الحياة، وعَمَّا بعد الموت، وما يتصل بالبعث ويوم القيامة والجزاء بما يرضي النفوس الحائرة، ويشفي الصدور القلقة، ويقيم الإنسان المسلم على الطريق المضيء الذي لا يحتاج معه إلى سؤال أو إلى تساؤل.

كما منحنا القرآن فهم دورنا الحقيقي في هذه الحياة رسالة ومسئولية إرادة حرة، وكشف لنا عن الطريقين، ودعانا إلى الصراط المستقيم الذي هو صراط الله، وترك لنا حرية أعمالنا، وذلك على نحوٍ لم يتحقق لأي منهج تربوي بشري، فلم يجعلنا في حاجة إلى استيراد المناهج أو الأساليب بعد تحديد "الهدف" و"الغاية"، وإتاحة الفرصة لنا على مدى العصور واختلاف البيئات في اتخاذ الأسلوب المناسب للعصر"1.

1 الأستاذ/ أنور الجندي، عالمية الإسلام ص86، مجموعة اقرأ العدد 426، طبعة المعارف سنة 1977.

ص: 47