الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تربية الله للصحابة:
كان القرآن يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليربي هذا الجيل العظيم جيل الصحابة، وليؤهلهم لحمل رسالة التبليغ، تبليغ الدين للبشرية كلها، ولتعليم الناس في أرجاء المعمورة كيف يعبدون الله عز وجل لا يشركون به شيئًا، ليبلغوهم بالدين الحنيف، وليطهروا الوجود من عبث الشياطين وطغيان الظالمين، وليوفروا الأمان للإنسان في كل مكان، ومع إخلاص العبادة يتصل الإنسان بالسماء، وباتصاله بالسماء ينصلح كل ما على الأرض، وتحققت تربية الله لهم على مدى عشر سنوات هي مدة القرآن المدني، حتى كان أحدهم يؤمن إيمانًا مطلقًا بأن الله سبحانه وتعالى معه يراقبه، ويحصي عليه حركاته وسكناته وأنفاسه، ووثِقَ كلٌّ منهم أن في مقدروه أن يستتر من الناس، لكن ليس بمقدروه أن يستتر من الله، وكيف يستتر من الله أو يخفي في نفسه أمرًا منه، والله تعالى يقول:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 1، ويقول:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 2.
وكيف يخفي عن الله شيئًا مهما صغر في أي مكان، مهما خفي على الناس، وهو يعلم قول الله عز وجل:{لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 3.
لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا حتى أذن على ظهر الكعبة، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنًا؟ وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئًا
1 سورة طه آية: 7.
2 سورة البقرة من آية: 284.
3 سورة سبأ آية 3.
يغيره، وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئًا، أخاف أن يخبر به رب السماء، فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا، فأقروا: فأنزل الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء.
وكان ثابت بن قيس بن شماس يحب أن يجلس إلى جنب رسول الله -صلى الله عليه سلم؛ لأنه كان في أذنه وقر، فكان إذا أتى أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه، فجاء يومًا وقد أخذ الناس مجالسهم، فجعل يتخطى الرقاب ويقول: تفسحوا تفسحوا، فقال له رجل: قد أصبت مجلسًا فأجلس، فجلس ثابت مغضبًا، فغمز الرجل فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة، وذكر أمًّا كانت له يعيَّرُ بها في الجاهلية، فنكَّس الرجل رأسه استحياءً، فأنزل الله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} 1 الآية، وقيل أيضًا: إن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2. نزلت في ثابت بن قيس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذاكر فلانة؟ فقال ثابت: أنا يا رسول الله، فقال: انظر في وجوه القوم، فنظر فقال: ما رأيت يا ثابت؟ فقال: رأيت أبيض وأحمر وأسود، قال: فإنك لا تفضلهم إلّا في الدين والتقوى3.
لقد كان كلام الله بالنسبة لهم المنهاج اليومي الذي يتلقونه ليعملوا به فورًا، فلا يتخلَّف أحدٌ منهم ولا يتباطأ منهم فرد، بل يسارعون إلى التنفيذ والتلبية.
1 الحجرات: 11.
2 الحجرات: 13.
3 أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري: أسباب النزول، الطبعة الثانية "1378 هـ - 1986م" مكتبة ومطبعة مصطفى البابي بمصر.
وكانت المرأة في الجاهلية تمرُّ بين الرجال كاشفةً صدرها، لا يورايه شيء، وربما أظهرت عنقها، وذوائب شعرها وأقرطة أذنها، كانت تفعل ذلك لأن قانون الجماعة لا يحرمه، وعُرْف البيئة لا يمنعه، حتى جاء أمر الله سبحانه وتعالى، ونزل توجيهه لتربية الأمة الإسلامية، قال تعالى:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} 1.
فامتثل النساء لتوجيه الله وهديه، ولم تمتنع منهن واحدة عن الخضوع لأمر الله، وانقلب رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله، فيتلو الرجل على زوجته وابنته وأخته، وعلى كلِّ ذي قرابة، فما منهن امرأة إلّا قامت إلى مرطها فاعتجرت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات2.
عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى كل شيء إلّا الرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء؟ فنزلت هذه الآية:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 3.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
كنت صاحب خمر في الجاهلية، فقلت: لو أذهب إلى فلان الخمّار فأشرب، وظلّ عمر يشرب الخمر في الإسلام حتى نزل قول الله
1 سورة النور: آية رقم 31.
2 الترمذي، جامع الترمذي، ج5، ص354، حديث رقم 3211.
3 الأحزاب: آية 35.
قال: اللهم بيِّن لنا بيانًا شافيًا في الخمر، واستمرَّ في الشرب، حتى نزلت {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 3.
قال عمر: انتهينا، انتهينا4.
وهكذا حُرِّمَتْ الخمر؛ لأن القرآن يهدف إلى تربية جيل يكون دائمًا مرتبطًا بدينه، وثيق الصلة بربه، مراقبًا له في كل خطوة، في كل لحظة، في كل همسة، وكان يستهدف من وراء ذلك إيجاد اليقظة الدائمة، والصحوة المستمرة لهذا الجيل.
يقظة مستمرة في عقله، وصحوة دائمة في وجدانه، حتى يستطيع أن يؤدي تكاليف الخلافة، التي كلفه الله بها، يؤدي تكاليفها تجاه نفسه، ويؤدي ما عليه تجاه الجماعة التي يعيش معها، يؤدي ما فرضه عليه ربه من فروض وواجبات، ولن يتم ذلك بالكامل ولن يستقيم
1 سورة البقرة آية رقم 219.
2 سورة النساء آية رقم 43.
3 سورة المائدة آية رقم 90 و91.
4 رواه أبو داود، والترمذي والنسائي، ورواه أبو الحسن بن أحمد الواحدي في كتابه: أسباب نزول القرآن، ص118.
وهو دائمًا نصف يقظٍ ونصف مخمور.
ولقد استجاب المسلمون لأمر ربهم، ولم يحتج الأمر إلى إصدار قانون أو عدة قوانين، أو صرف ملايين الجنيهات كما فعلت بعض الدول الكبرى في مجتمعنا المعاصر، ولم توفَّق إلى تحريم الخمر.
لقد استجاب المسلمون لأمر ربهم في تحريم الخمر، واستجابوا له في الامتناع عما نهاهم عنه، وأصاخوا له في تكريم المرأة والرفق بها، التسليم الكامل في إعطائها حقوقها كاملة، وبذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل الله، واعتبروا أن ما في أيديهم من مالٍ أوعقارٍ، هو عارية مردودة، وأن المال، مال الله، وأن الأرض يورثها من يشاء من عباده، فكانوا يتسابقون في الإنفاق.
وجاءت آيات كثيرة في القرآن لتشجيع المسلمين على التبرع بالنفقة والصدقة، واشترط القرآن على أولئك المنفقين من أموالهم في سبيل الله، أن يكون ذلك من أحب الأموال إليهم ومن أجودها.
ورباهم القرآن على أن المال، مال الله، وأن الرزق الذي في أيدي الواحد منهم هو رزق الله.
وكان مجرد إحساس الفرد أن ما في يده عارية محددة بأمد، ثم يستردها صاحبها الذي أعارها في الأجل المرسوم.
وكان مجرد استحضار هذه الحقائق كفيل وحده، أن يخفف من الشَّرَهِ والطمع في داخل النفس البشرية، ويبعدها عن الشح1 والحرص، ويجعلها تترك التكالب المسعور في جمع المال، وبالتالي يملأها بالقناعة والرضى بما يعطيها الله، ويكسبها السماحة والجود
1 د/ عبد الرحمن عميرة: رجال أنزل الله فيهم قرآنًا، المقدمة ج1/ ص13، 14.
بالموجود"1.
ومن هنا يطمئن القلب فلا يضطرب، ويقر الوجدان فلا يقلق، وتستريح النفس فلا تذهب حسرات على فائت أوضائع؛ لأن عمر الإنسان القصير المحدود لست نهاية الحياة، ولا نهاية المتاع، قال تعالى:
{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} 2.
ولا يتحرّق القلب سعارًا على المرموق المطلوب، قال تعالى:{لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} 3.
ولا يتعالى صلفًا وغرورًا بما أعطي، قال تعالى:{وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} 4.
فإذا أعطى الواحد من ماله شيئًا، فإنما من مال الله أعطى، قال تعالى:{أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} 5.
وإذا قدَّمَ حسنةً فإنما هي قرض الله يضاعفه له أضعافًا كثيرة، يضاعفه له في الدنيا، ويضاعفه له في الآخرة، قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} 6.
ولس المحروم الآخذ إلّا أداة وسببًا لينال المعطي الواهب أضعاف ما أعطى من مال الله، قال تعالى:
1 المصدر السابق والصفحة.
2 سورة النساء آية رقم 77.
3 سورة الحديد آية رقم 23.
4 سورة الحديد آية رقم 23.
5 سورة الحديد آية 7.
6 سورة البقرة آية رقم 245.
7 سورة البقرة آية رقم 261.