الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم الكتاب
بقلم: أحمد محمد جمال
أستاذ الثقافة الإِسلامية بجامعة الملك عبد العزيز
الأستاذ محمد أحمد باشميل: يُغبط، ويُشكر، وينبغى أن يدعى له بمزيد من التوفيق، وجزيل من الثواب.
وذلك أنه ثابر على إصدار كتبه القيمة: (سلسلة معارك الإِسلام الفاصلة) في فترة من الزمن - الثلث الثاني من القرن الرابع عشر الهجرى - يخوض المسلمون خلالها معركة حياة أو موت مع أعدائهم الألداء .. من المستعمرين الصليبيين، واليهود الغاصبين، والشيوعيين الملحدين، تكأكأوا عليهم، واتفقوا - رغم اختلافهم فيما بينهم سياسة واعتقادًا - على حرب الإِسلام، وإذلال المسلمين، واستغلال خيراتهم، ونهب ثرواتهم، واحتلال أرضهم وديارهم، وإفساد عقائدهم وأخلاقهم.
أجل .. إن المسلمين اليوم - ومنذ ثلاثين عامًا تقريبًا - يخوضون معركة فاصلة مع أعدائهم الحاسدين الحاقدين، كالتي كان أسلافهم وأجدادهم - بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبطال - يخوضونها مع أجداد الصليبيين وإليهود، والمشركين والملحدين الغابرين.
فإذا جاء الصديق الأستاذ باشميل ليُصدر هذه السلسلة التاريخية لمعارك الإِسلام الفاصلة الأولى، في هذه الفترة العصيبة الرهيبة من حياة المسلمين - فإنما يقدّمه لقادتهم وعامتهم معًا: دروسًا مصوّرة متحركة في
فنون القتال والدفاع عن الأنفس والأموال والديار، ويعرض نماذج مشرقة وضاءة للقيادة الصالحة الناجحة .. في معركة الحق مع الباطل، واقتتال الخير مع الشر، واعتراك النور مع الظلام.
كيف؟ وبم انتصر أسلاف المسلمين - بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبطال - على أعدائهم الأول؟ وما هي الوسائل النفسية والمادية التي ضمنت لهم النصر المتتابع في كل معاركهم وغزواتهم وبُعوثهم وسراياهم .. حتى مكَّن الله لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وبَدّلهم بخوفهم أمنًا، وبضعفهم قوة، وبهوانهم عزًا، وبتفرّقهم وحدة كاملة شاملة؟
هذا ما تجيب عليه، وتصوّره تصويرًا ناطقًا متحركًا سلسلة كتب الأستاذ باشميل عن معارك الإِسلام الفاصلة: غزوة بدر - وغزوة أحد - وغزوة الأحزاب - وغزوة بني قريظة - وصلح الحديبية - وغزوة خيبر - وغزوة مؤتة - وفتح مكة .. الذي نكتب له هذا التقديم الوجيز.
وهو -أي الحديث عن هذه المعارك الفاصلة في تاريخ الإِسلام-: الدروس العملية التطبيقية، والنماذج الرائعة الصادقة .. لقادة المسلمين وعامتهم، وخاصة جيوشهم المقاتلة، في معركتهم الحاضرة مع أعداء اليوم: من صليبيين وصهيونيين وشيوعيين.
وباختصار: لن ينتصر المسلمون اليوم على أعدائهم، إلا بما انتصر أسلافهم به من قبل: بالإِيمان، والأخلاق، والإِعداد.
***
أما موضوع هذا الكتاب: (فتح مكة) فأمره عَجَب، وحديثه طَرَب. لأنه كان نصرًا بغير حرب، وكان ثمرة يانعة لحكمة القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم وبعد نظره، وحسن قيادته، ومكارم أخلاقه.
وسمَّاه القرآن الكريم (فتحًا مبينا) قبل أن يكون، وبشر به قبل عام من حدوثه، في وقت كان المسلمون فيه بوضع يخيَّل للدارس المتعجِّل أنه وضع مشين مهين .. حين قصد المسلمون - وعلى رأسهم الرسول العظيم - إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، فصدّهم المشركون عن المسجد
الحرام، وأبوا أن يأذنوا لهم بدخول مكة للاعتمار. وانتهى الأمر إلى ما عرف بعد ذلك (بصلح الحديبية) وهو موضوع الكتاب السابق من سلسلة هذه المعارك الفاصلة في تاريخ الإِسلام، ولابد من اطلاع القارئ عليه قبل قراءة هذا الكتاب .. لأن أحداث صلح الحديبية هي مقدمات هذا الفتح المبين، بل هو الفتح المبين على الحقيقة.
إن صلح الحديبية كان في وضعه الظاهر هوانًا للمسلمين في نظر صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الرسول ببعد نظره، وصدق تفكيره، وحبه لحقن الدماء، وحرصه على صلة الرحم وبرِّ ذوي القربى في الفريق المعاكم المشاكس من مشركى مكة - قبل مطالب قريش وشروطها: وهي العودة إلى المدينة دون أن يدخل مكة - على أن يرجع في العام القابل للاعتمار - وأن يرد إلى المشركين من يأتيه مسلمًا منهم، ولا يعيدون إليه من يأتيهم مرتدًا من المسلمين. وقد رد صلى الله عليه وسلم، وهو في مكانه من الحديبية لم يبرحها بعد إلى المدينة - أبا جندل (ابن سهيل بن عمرو) زعيم وفد قريش إلى مفاوضات صلح الحديبية .. رده إلى أبيه، - وفاءً بالعهد وقد جاءه مسلمًا - يرسف في قيوده، فلطَمه أبوه على أعين صحابة الرسول، وهم يتميزون غيظًا، لأنهم لم يستطيعوا له نصرًا.
ومن هنا - من قسوة شروط قريش في صلح الحديبية، اعترض الصحابة على موافقة الرسول وتوقيعه على وثيقة هذا الصلح الذي بدا أنه هوان لهم. حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"علام نرضى الدنية في ديننا يا رسول الله؟ " وحتى لم يستجب الصحابة لأمر الرسول بالتحلل من العمرة بالتقصير أو الحلق، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها مغمومًا مهمومًا، يشكو إليها موقف الصحابة منه، فأشارت عليه أن يخرج ويدعو حالقه ليحلقه بين أعينهم. وقد فعل، فاستجاب الصحابة نادمين.
وإنما قلنا: إن صلح الحديبية كان هو الفتح المبين، لأنه كان: مقدّمة له - لأن هذا الصلح المبارك كانت له ثمراته اليوانع. وكانت له نتائجه الباهرات، التي نلخصها في السطور التالية:
كان عقد قريش للصلح بينها وبين الرسول عليه الصلاة والسلام على نحو ما أسلفنا - اعترافا صريحًا بالكيان السياسي لمحمد وأصحابه.
خلال إقامة الرسول والمسلمين معه في الحديبية تعرّف وسطاء قريش وحلفاؤها الذين كانت تبعث بهم لمقاومة الرسول صلى الله عليه وسلم تعرّفوا على حقيقة الدعوة الإِسلامية ممثلة في أخلاق الرسول وأصحابه وسلوكهم، خلافًا لما كانت تذيعه قريش عنهم من أكاذيب وأباطيل.
أنكر بعض هؤلاء الموفدين إلى الرسول من حلفاء قريش موقفها المتعصب من المسلمين، وبإصرارها على ردهم عن الاعتمار والطواف بالبيت الحرام، حتى أنذرها سيد ثقيف (عروة بن مسعود) الهزيمة إن هم حاربوه، وقال:"ما أراكم إلا ستصيبكم قارعة يا معشر قريش"!
كما أتيحت الفرصة - بعقد هذا الصلح - للمشركين والمسلمين معًا بالاختلاط الذي تكشَّف للمشركين فيه وضيع المسلمين وسلوكهم القويم، وأخلاقهم الرفيعة، وأثمر ذلك اعتناق كثير منهم للإِسلام، حتى بلغ عدد المسلمين يوم فتح مكة نحو عشرة آلاف، بعد أن كان يوم صلح الحديبية لا يزيد على ألفين
…
ثم جاء نقض قريش للعهد بقتالها مع حلفائها بني بكر، لحلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم: بني خزاعة، فرصة لتخلى المسلمين عن العهد نفسه، وإعداد العدة للقيام بفتح مكة، والعودة إلى أحب أرض الله إلى الله، وإلى الرسول الكريم، وإلى المسلمين أجمعين.
وكان نقض قريش لصلح الحديبية خيرًا من خيرات (الفتح المبين) الذي بشَّر به القرآن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد سألت عائشة الرسول: أترى قريشًا تجترئ على نقض العهد بينكم وبينهم؟ قال: ينتقضون العهد لأمر يريده الله تعالى بهم. قالت عائشة: خير أو شر؟ قال: خير ..
ويكون هذا (الخير) استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهد
قومى فإنهم لا يعلمون قالها أيام كانوا يؤذونه في مكة أذى شديدًا، حتى سأله جبريل - بأمر الله - أن يطبق عليهم جبال مكة انتقامًا له، وخلاصًا منهم، فكانت تلك دعوته، وكانت أمنيته:"أن يخرج الله من أصلابهم من يؤمن بالله، لا يشرك به شيئًا".
وصدق الله العظيم فيما خاطبهم به: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
* * *
ولن نطيل الحديث عن فتح مكة - في السنة الثامنة من الهجرة وفي رمضان المبارك - ولكنا نكتفى بذكر الآيات القرآنية التي تشير إليه من سورة (الفتح) وسورة (النصر)؛ ففيها ما يغنى من الموعظة والذكرى والاعتبار، لأولى الأبصار:
هذه هي البشرى التي أنزلت في صلح الحديبية، وقد أنجز الله وعده بالنصر العزيز يوم فتح مكة في السنة التالية، على نحو ما أسلفنا.
في هذه الآية الكريمة يبين الله عز وجل الحكمة في إرجاء (الفتح) إلى العام القابل، وإن صلح الحديبية وقع صوابًا ليهد للفتح القريب. ففي مكة رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يكتمون إيمانهم، ولو أن المسلمين دخلوا مكة عنوة، ونشب القتال بينهم وبين المشركين، لوطأوا المؤمنين مع المشركين، ولأصابتهم منهم معرة
…
ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام والمؤمنون معه، من مهاجرين وأنصار، تصديقًا للرؤيا، وتحقيقًا لبشرى "الفتح المبين"، وتمكينًا لدين الله الخالد الراشد. وكما منحهم الله الأمان منحوا هم أهل مكة الأمان:"من دخل المسجد الحرام فهو آمن - ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن - ومن دخل بيته وأغلق بابه فهو آمن". ومع هذا الأمان للكل خص الرسول الرؤوف الرحيم أعداءه الألداء بالعفو والغفران .. قال لهم: "ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم - قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وبقى أن يحمد الرسول صلى الله عليه وسلم ربه الذي حقق له هذا الفتح المبين، والنصر العزيز، دون إراقة دماء العشيرة والأقرباء، بل مع تأليف القلوب ودخولها في الإِسلام - فنزلت سورة (النصر):
ونحن أيضًا - مسلمة اليوم - ينبغي أن نسبح بحمد الله كثيرًا، ونستغفره طويلًا .. عسى أن يهبنا فتحًا مبينًا على عدونا المبين.
بيروت - في 20/ 7 / 1392 هـ
أحمد محمد جمال