الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
نظرة وتحليل
- 1 -
بعد هزيمة الأحزاب أمام الخندق في السنة الرابعة من الهجرة، وبعد ضرب الجيش الإِسلامي لأقوى العناصر العربية المحاربة: عناصر غطفان في نجد وخضد شوكتها في عمليات عسكرية متلاحقة .. وبعد تصفية اليهود "وهم أقوى قوة ضاربة تجاور المدينة في خيبر" بعد هذا الذي كسبه العسكر الإِسلامي بعد أعمال عسكرية شاقة - رسخت جذور هذا الدين وضربت في الأعماق بعيدًا .. وأخذ بناء الدولة الوليدة السياسي والعسكري يتصاعد عالمًا.
حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم نتيجة الشعور بالاستقرار الكامل اتصل بملوك وأمراء الشرق الأوسط خارج الجزيرة العربية يدعوهم إلى الإِسلام، بل ونقل المعركة إلى داخل أراضى الإِمبراطورية الرومانية في الشام حيث خاض ثلاثة آلاف مقاتل من أصحابه معركة - مؤتة التاريخية - (1). وذلك أثناء صلح الحديبية قبل أن تقدم قريش وحلفاؤها من بني بكر على نقضه.
- 2 -
نعما بعد الاستقرار الذي نعمت به المدينة عقب خضد شوكة الخصوم المجاورين اليهود وغطفان في نجد، لم تعد هناك من قوة معادية محاربة يخشاها المسلمون في جزيرة العرب كلها سوى قبيلتين عظيمتين لهما وزنهما المعنوى والحربى والسياسى أيضًا وهما:
1 -
قبيلة قريش.
2 -
قبيلة هوازن.
(1) انظر تفاصيل هذه المعركة في كتابنا السابع من هذه السلسلة (غزوة مؤتة).
أما قريش أعظم قبائل الحجاز وأرفعها شأنًا في نظر العرب الوثنيين وعاصمتها مكة المكرمة وتستطيع أن تحشد من رجالها ومن حلفائها البكريين وبقية كنانة ستة آلاف مقاتل.
أما هوازن فهي من الناحية الحربية أعظم من قريش إذ تستطيع أن تحشد أكثر من ثلاثين ألف مقاتل وهي قبيلة حجازية نجدية، إذ تمتد منازلها من حدود الحرم في الحجاز حتى حدود غطفان في نجد .. مما يدل على كثرة بطونها وأفخاذها.
وهي في أصلها قبيلة عدنانية، فهي وقريش من أصل واحد. ولكن هوازن لا تلتقى بقريش إلا في (مضر).
- 3 -
كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عقد صلحا مع قريش وحلفائها وجيرانها الكنانيين من بني بكر وهو صلح الحديبية التاريخي فأمن جانب قريش - فترة ما - ولكن قريشًا نقضت هذا الصلح بعد مضى ثلاثة وعشرين شهرًا فقط على عقده، مع أن مدته عشر سنوات.
وبهذا عادت الأحوال إلى ما كانت عليه من حيث قيام حالة الحرب بين المسلمين وقريش، وعودة القلق إلى صفوف المسلمين من أن تقدم قريش من جديد على أعمال عدوانية ضد المسلمين.
الأمر الذي جعل المعسكر الإِسلامي يعيد النظر في تقييم حساباته العسكرية من جديد، فيوجه اهتمامه - (بجدية وحذر) ناحية الجنوب حيث تقع مناطق العدو الرئيسى (قريش وهوازن).
- 4 -
لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى كونه نبيًّا مرسلًا ملهما ومؤيدًا بتأييد الله تعالى .. كان قمة في السياسة العسكرية وبعد النظر وحسبان -
النتائج قبل الإِقدام على العمل.
لقد كان أخشى ما يخشاه المسلمون - بعد أن نقضت قريش صبح الحديبية - أن تعقد الأخيرة مع (هوازن) حلفا عسكريا تواجهان به القبيلتان مجتمعتين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في معركة حاسمة .. ولو حدث ذلك للقى المسلمون متاعب وأخطار .. الله وحده يعلم بنتائجها. لأن القبيلتين تستطيعان حشد أكثر من ثلاثين ألف مقاتل. بينما المسلمون لم يستطعوا (رغم التجنيد الإِجبارى) حشد أكثر من عشرة آلاف محارب.
إن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كقائد عسكرى مسئول قد قدر قوة كل من قريش وهوازن العسكرية وحسب حسابهما، وإن الصدام معهما مجتمعتين. أو كل واحدة على انفراد ليس بالأمر الهين.
وكان من أسس أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي أخلاق الإِسلام في الحرب، أن يحسم أي نزاع مسلح بأقل خسارة ممكنة إلّا أنه لا يتردد في استخدام أقصى أساليب الفتك بالعدو في ساحة القتال إذا ما اضطر إلى ذلك كما حدث في بدر وحنين.
- 5 -
ولعل من أنجح سياساته الحربية، وهو يضع خطة الغزو للسيطرة على مكة، أنه انتهج خطة الكتمان الشديد، فرغم أنه قد أعلن النفير العام وحشد عشرة آلاف من أصحابه فإنه كتم - حتى عن قادة الفرق فيهم - حقيقة الوجهة التي يقصد التحرك بهم نحوها، فلم يعرف جيشه (قادة وجنودًا) الجهة التي يقصدونها إلَّا بعد أن وصلوا على أربعة أميال من مكة المكرمة. كما أقفل الطرق المؤدية من المدينة إلى مكة والجنوب كله ومنع السفر كليا فأقام حراسًا يمنعون الناس من السفر ويعتقلون من يشكون في أمره. وكانت خطة الكتمان وعدم الإفصاح عن الجهة التي يريدها صلى الله عليه وسلم تستهدف (والله أعلم) أمرين اثنين.
1 -
في الدرجة الأولى مباغتة أهل مكة، فلا يدرون إلا والجيش النبوي اللجب يحيط بهم على غير أهبة أو استعداد، فيسقط في أيديهم فينهارون، فتتم السيطرة لجيش الإسلام على العدو دونما أية خسارة تذكر في الأرواح بين الفريقين.
2 -
إدخال البلبلة على كل من العدوين الرئيسيين هوازن وغطفان (فيما إذا اكتشف أحدهما أو كلاهما التحرك بالجيش من المدينة) بحيث لا يدرون، أيهم، ولا أي من العرب مقصود بالغزو.
وهذا هو الذي حدث بالفعل فإن كلا من قريش وهوازن لم تعلم أن قريشًا المقصودة بالغزو إلا عندما أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم في ضواحي مكة. أما هوازن فلم تعلم إلا بعد أن وقعت مكة المكرمة تحت سيطرة الجيش الإِسلامي لأن جاسوس هوازن الذي بعثت به يرصد لها تحرك الجيش النبوي، وقع في قبضة طلائع استكشاف هذا الجيش وظل في قبضتهم حتى دخلوا مكة فعميت الأخبار عن هوازن إلى أن فتحت مكة المكرمة.
- 6 -
وأخيرًا وقعت مكة في قبضة المسلحين وسيطر عليها الجيش الإِسلامي دونما أية خسارة في المعسكرين، اللهم إلا حوالي بضعة وعشرين رجلا قتلوا بدون رضا قادة الفريقين، وذلك عندما قام بعض المتطرفين من شباب قريش باعتراض قطعات خالد بن الوليد وشهروا السلاح في وجهها جنوبي مكة. ثم قضى خالد على تلك المقاومة في لحظة وجيزة. واستتب الأمر لجيش الإِسلام في مكة. فكان فتحها حدث اهتزت له جزيرة العرب ودهش له سكانها. لأنهم ما كانوا متوقعون أن مكة أعظم المعاقل الروحية للوثنية والشرك ستقع بمثل تلك السهولة في قبضة قوات التوحيد.
فما هي العوامل في هذا النصر الخاطف الذي حققه جيش الإِسلام. والذي ما كان (حتى المسلمون) يتوقعون حدوثه بذلك الشمول وتلك السرعة الخاطفة؟ .
- 7 -
يمكن إيجاز العوامل الرئيسية في هذا النصر بصورة مختصرة فيما يلي:
1 -
العقيدة
2 -
المباغتة والتضليل.
3 -
تهاون قريش في الاستعداد والتنظيم للمقاومة.
4 -
تخلخل العقيدة الوثنية في نفوس الأكثرية من أهل مكة وعدم تحسسهم لبذل الأرواح في سبيلها.
5 -
بقاء قريش وحدها في ميدان معاداة المسلمين باستثناء قبائل هوازن التي رغم بقائها على الشرك لم تكن على وئام مع قريش.
"أ" أما بالنسبة للعقيدة، فإن قريشا لها عقيدتها، ولكنها عقيدة ضحلة فاسدة تقوم على أساس المصلحة الشخصية والزعامة الفردية. فسادات قريش. رغم تعصبهم لعقيدة الشرك يعرفون في قرارة أنفسهم أنها خرافة تافهة، ولكنها عقيدة موروثة مرتبط ببقائها بقاء زعاماتهم الشخصية. وعقيدة هذا شأنها، يكون المتشبثون بها أزهد الناس فيها عندما لم تعد قادرة على الحفاظ على مصالحهم الشخصية.
أما العقيدة عند المسلمين فهي التزام لا علاقة له بالمصلحة الشخصية حتى يكون التمسك بهذه العقيدة أو التراخى عنها تبعًا لبقاء أو زوال هذه المصلحة، بل أنها التزام يقوم عليه كيان المسلم المبنى على اعتقاد لا جدل فيه .. اعتقاد يقول "بجزم": إن سعادة المسلم في الدنيا وفلاحه في العالم الآخر لا سبيل إلى الظفر بهما إلا بالوفاء لهذه العقيدة وبذل أغلى ما لدى المسلم للوفاء لها والدفاع عنها. كما يقول: إن التهاون في نصر هذه العقيدة يعني تعاسة في الدنيا وشقاء في الآخرة.
لهذا شهد الصدر الأول في الإِسلام من التضحية والفداء والضراوة في القتال دفاعًا عن عقيدة الإِسلام، نماذج لم يسجل التاريخ مثلها منذ فجره.
في سبيل نصرة العقيدة قتل الابن أباه، وأبدى الأب استعداده لقتل
ابنه (1)، وأبدت القلة المؤمنة من الثبات أمام الكثرة الكافرة الغامرة الساحقة ما أنزل بالأخيرة الهزائم الفاضحة المدمرة كما في -بدر وأحد وخيبر-، أو الاندحارات المخزية والفشل الذريع كما حدث في غزوة الأحزاب.
وكانت قريش أكثر العرب عرضة لتجربة معطيات العقيدة الإِسلامية في كل مجالات الصراع المسلح، لهذا كان من البدهى أن يسيطر الرعب المزلزل عليها في مكة بعد أن علمت أنها مطوقة بعشرة آلاف من المسلمين يرابطون على مشارف مكة فكان استسلامها أمرًا إلا مفر منه بسبب الأمور التي ذكرنا. إنها العقيدة العامل الرئيسى في إزالة فكرة المقاومة من أذهان أهل مكة. إنهم لا يزالون يذكرون - عندما كانوا أكثر عددًا وأقوى عدة يوم بدر - لا يزالون يذكرون تقرير رجل استخباراتهم "عمير بن وهب الجمحى" حين استكشف لهم قوات المسلمين في ذلك اليوم التاريخي. حين قال لهم: إن المسلمين ثلاث مائة وأنتم ألف، ولكننى رأيت نواضح يثرب تحمل الموت الناقع فلن يطال الموت أحدًا منهم حتى يقتل رجلًا منكم على أقل تقدير، أو كما قال (2).
"ب" أما بالنسبة لخطة الكتمان والمباغتة - وهي من أهم عوامل الانتصارات منذ فجر التاريخ حتى اليوم - فقد نجح الرسول فيها نجاحا باهرا - وإلى أبعد الحدود.
فقريش - بسبب إحكام خطة الكتمان - لم تعلم شيئًا عن تحركات الجيش النبوي حتى بات على مرمى الحجر من مكة المكرمة، فكان ذلك من أهم عوامل التعجيل باستسلام قريش وقبولها بالاقتراح القائل: أن تكون مكة مدينة مفتوحة، يسيطر عليها جيش الإسلام دونما أي قتال أو مقاومة، وقد كان ذلك ونفذ بكل دقة من كلا الجانبين، ما عدا جهة قطعات الفرسان التي يقودها خالد بن الوليد، والتي لقيت من المشركين
(1) ثبت يوم بدر الكبرى أن أبا بكر الصديق طلب من ابنة عبد الرحمن مبارزته (وكان مشركًا مع قريش ولكنه امتنع عن مبارزته.
(2)
انظر تصريحات عمير بن وهب لقيادة قريش يوم بدر في كتابنا "غزوة بدر الكبرى" في موطنها.
البكريين والقرشيين بعض المقاومة وقضى عليها في لمح البصر.
"ج" أما تهاون قريش في الإِعداد والتهيؤ لمواجهة المسلمين، فهو سر حير كثيرًا من خبراء الحرب والمهتمين بتتبع تاريخ الصراع بين الإِسلام والوثنية في العهد النبوي.
فقريش رغم فشلها في الحصول على معرفة ميعاد تحرك الجيش النبوي من المدينة لغزوها، فإنها على يقين بأن غزوها أمر لا بد منه كما صارحها بذلك قائد جيشها العام أبو سفيان بن حرب، وذلك تأديبًا لها على نقض الصلح الذي نقضته بغدرها بخزاعة حليف النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها لأسباب لا يدرى أحد معرفتها بالتحديد. لم تقم بأي حشد أو أي استعداد لمواجهة الغزو المحتمل بل الذي لم تشك لحظة في أنها ستتعرض له. بل ظل زعماؤها وقادتها يدورون في حلقة مفرغة حتى داهم الجيش النبوي ضواحي مكة بغته.
ولعل أكبر خطأ ارتكبته قريش في سياستها العسكرية - من الناحية التعبوية - وهي تواجه التعرض لغزو إسلامي، هو أنها لم تتصل بهوازن العدو القوى الجبارذى العدد والعدة، والذي يشاركها الرغبة الملحة العارمة في القضاء على المسلمين، والذي هو جار لها لا تفصله عن حدودها مرمى سهم.
فلم يذكر أحد من المؤرخين أن قريشا أجرت أيّ نوع من أنواع الإيصال بقبائل هوازن لإِقامة تحالف عسكرى تواجه به الجيش النبوي الذي تعرف قريش أن الصدام بينه وبينها ثم بينه وبين هوازن أمر محتم.
ولو أن قريشا فعك ذلك لتغير مجرى الصراع بين الفريقين .. ولكن قريشا لم تفعل شيئًا من ذلك، راجع إلى أن بين قريش وهوازن عداوات قبلية مستحكمة منذ حرب (الفجار الشهير) التي نشبت بين كنانة (ومنها قريش) وبين قيس عيلان ومنها (هوازن)
وعلى العموم فقد كفى الله المؤمنين شر القتال، وتمت على مكة للمسلمين دونما قتال يذكر، وذلك لخير أراده الله بالمسلمين وقريش على
السواء.
إذ لم تمض عدة أشهر على فتح مكة حتى أصبح كل أهلها مسلمين مغتبطين سعداء باعتناقهم الدين الجديد. حتى ألد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية وأبو سفيان بن حرب وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، واغتبطوا بدخولهم في الإسلام وصاروا سادة وقادة من سادة وقادة المسلمين. وتلك من أميز مميزات سماحة الإِسلام الذي (كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم) يَجُبُّ ما قبله.
أما هوازن الخصم الأعظم قوة والأشد شراسة في القتال والوحيد العنيد المتبقى على عدائه السافر العارم للإِسلام فلم تسلك مسلك قريش في التراخى في المواجهة، بل سارع قائدها مالك بن عوف وحشد عشرين ألف مقاتل. وقرر أن ينقل المعركة إلى مكة الإِخراج المسلمين منها والحلول في منصب قيادة العرب فيها محل قريش التي استسلمت للمسلمين دونما حرب، فتحركت فخائذ هوازن من أطراف نجد ومناطق الحجاز بجيش لجب في اتجاه مكة فسارع الرسول القائد صلى الله عليه وسلم وخرج بجيشه من مكة لملاقاتها فاصطدم بها في وادي حنين، حيث دارت تلك المعركة التاريخية الطاحنة التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، والتي ستكون موضوع كتابنا التالي إن شاء الله وهو الكتاب التاسع من (معارك الإِسلام الفاصلة).
"د" أما تخلخل عقيدة الوثنية في نفوس القرشيين فذاك أمر قد بدا واضحًا منذ يوم صلح الحديبية الذي كان فيه أول المتأثرين بعقيدة الإِسلام ومعجبًا بفعاليتها في احتواء المسلمين وضبط سلوكهم وطيب سمعتهم وتحقيق وحدتهم الصحيحة المتكاملة والتعريض بالقرشيين وعقيدتهم الوثنية .. كان أول المتأثرين حليف قريش ورسوله إلى المسلمين عروة بن مسعود الثقفى (1) الذي قال لزعماء قريش في تقريره الذي قدمه لهم عن واقع المسلمين يوم أن زارهم (مندوبًا في الحديبية) .. "يا معشر قريش إني قد وفدت على الملوك، على كسرى وهرقل والنجاشى وإني والله ما رأيت ملكًا قط أطوع
(1) أسلم هذا السيد المفضال، انظر ترجمته في كتابنا (صلح الحديبية).
فيمن هو بين ظهرانيه من محمد في أصحابه، والله ما يشدون إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلّا أن يشير إلى أمر فيفعل، وقد حزرت القوم واعلموا: إن أردتم السيف بذلوه لكم، وقد رأيت قوما ما يبالون ما يصنع بهم إذا ما منعوا صاحبهم، والله لقد رأيت (نُسيات) معه إن كن ليسلمنه أبدا على حال، فروا رأيكم (1) ".
وكذلك حويطب بن عبد العزى أحد أعضاء وفد قريش في مفاوضات صلح الحديبية التاريخي أدلى بتصريح يدل على التأثر البالغ بواقع المسلمين والتخلخل في ثقة المشركين بأنفسهم وعقيدتهم واقتناعهم بأن الغلبة في أي صراع قادم إنما ستكون "ولابد للعقيدة الإِسلامية".
فقد قال حويطب بن عبد العزى - وهو ينظر إلى المسلمين في الحديبية من خلال واقعهم المشرف - قال لزميله في وفد قريش، مكرز بن حفص .. "ما رأيت قومًا قط أشد حبًّا لمن دخل معهم من أصحاب محمد لمحمد وبعضهم لبعض، أما أني أقول لك .. لا تأخذ من محمد نصفا أبدا بعد هذا اليوم، حتى يدخلها "يعني مكة" عنوة (2). فقال مكرز: أنا أرى ذلك"(3).
بل لقد تطور هذا التأثر بواقع المسلمين والإِعجاب بعقيدتهم "عقيدة التوحيد" إلى أن يحدث الانشقاق بين سادات مكة أنفسهم والصلح قائم قبل فتح مكة، فيدخل بعضهم طوعًا واختيارًا في الإِسلام ويذهب إلى المدينة ويلتحق بمعسكر الدين الجديد .. فيحدث بذلك خسفًا شديدًا في الأرضية المتداعية التي يقف عليه بنيان الوثنية في نفوس زعماء مكة قبل دهمائها.
هذا خالد بن الوليد قائد سلاح الفرسان القرشي، وعمرو بن العاص رجل قريش السياسي الذي لا يبارى، وعثمان بن طلحة قائد لواء قريش، كلهم يذهبون بأنفسهم إلى المدينة "قبل أن تقع مكة في قبضة الإِسلام"
(1) صلح الحديبية ص 194 - 195.
(2)
العنوة .. أخذ الشيء قوة اقتدارا.
(3)
صلح الحديبية للمؤلف ص 265.
فيعلنون إسلامهم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا أدل على تخلخل العقيدة الوثنية وشعور سادات مكة أنفسهم بقرب اضمحلال هذه العقيدة من التصريحات التي أدلى بها بعضهم عند الصفا، على أثر المشادة التي حدثت بين أبي سفيان بن حرب وبين خالد بن الوليد - عندما وقف خالد على الصفا يصارح قريشا بأن دين الإِسلام هو الحق.
فقد وقف خالد - بعد عمرة القضاء وقبل فتح مكة - وقف على الصفا ونادى "بشجاعة خالد المعروفة" .. "يا معشر قريش لقد استبان لكل ذي لب أن محمدًا ليس بساحر، ولا كذاب وأن كلامه من كلام رب العالمين فحق على كل ذي لب أن يتبعه" فغضب لذلك أبو سفيان وهجم على خالد مستنكرًا قوله فحجز بينهما عكرمة بن أبي جهل وخاطب أبا سفيان في لهجة تدل على الشعور بقرب نهاية الوثنية في مكة .. "دعه يا بن حرب فإني أخشى أن لا يأتي العام القادم إلا وقد فعلنا كلنا مثل فعل خالد أو كما قال"(1).
"هـ" أما بقاء قريش وحدها في ميدان مواجهة المسلمين، فهذا أمر كان قائمًا عندما تحرك النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه من المدينة، فكل قبائل الحجاز قد دخلت في الإِسلام تقريبًا، ولم يبق قبيلة لها وزنها الحربى (بعد قريش) سوى قبيلة هوازن ومنها ثقيف، ولكن قريشًا لم تستفد من موقف هوازن، حيث لم تجر معها أي اتصال لإجراء أيِّ تنسيق معها لمواجهة المسلمين. ولهذا تمكنت قوات الإِسلام، من إخضاع الواحدة بعد الأخرى على انفراد، حيث لم يمض على سيطرة المسلمين على مكة نصف شهر حتى اصطدمت قواتهم خارج مكة بعشرين ألفا من قوات هوازن في أحد وحنين، فنزلت بهوازن تلك الهزيمة الساحقة، ودخل سيد هوازن مالك بن عوف نفسه في الإِسلام، ثم دخلت ثقيف، وبذلك انتهت المقاومة الوثنية في جميع مناطق الحجاز.
(1) انظر هذه القصة مطولة في كتابنا السابع من هذه السلسلة (غزوة مؤتة) قصة إسلام خالد وعمرو بن العاص.
[خريطة]