الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة المؤلف
نحمدك اللهم، ونستعينك ونستهديك، ونسألك - ولا مسؤول ولا مرجوّ سواك - أن تسدد خطانا وتجعلنا ممن يخلصون لك في القول والعمل، وأن تعمر قلوبنا بعزة وشمم لا صلف ولا كبرياء فيهما.
ونسألك اللهم، أن تمنحنا الحماية من أن يستذلنا الجهلة، وأن لا تجعلنا للمضلين عضدا، واجعلنا اللهم من المهتدين بهديك والهادين إلى سبيلك.
وصل اللهم على صفوة خلقك حبيبك ونبيك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين.
وبعد أيها القارئ الكريم، فهذا هو كتابنا الثامن من سلسلتنا التاريخية (معارك الإِسلام الفاصلة) وهو (فتح مكة). بذلنا في تأليفه جهدًا، الله وحده يعلم مداه، ونأمل أن يكون هذا الكتاب محل رضا القارئ الكريم.
فما جهودنا في هذه السلسلة التاريخية إلا (بعد قصد وجه الله تعالى) كي نبسط للقارئ ونعرض عليه الكنوز الثمينة الغالية من تاريخنا الإسلامي الطافح بالروائع من سير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، مما يحفز القارئ المنصف المتبصر المهتدى على الاقتداء بأولئك الصفوة الذين صنعوا لنا هذا التاريخ الشرق الوضاء الذي طغت - ولا تزال مع الأسف - تطغى عليه وتغطه وتطمس معالمه تزايين وأصباغ (ديكورات) المبادئ القبيحة النتنة المستوردة مما وراء الحدود، والتي: الارتماء في أحضانها على حساب إهمال الإِسلام كان ولا يزال السبب الرئيسى فيما أصابنا طوال عشرين عامًا ولا يزال يصيبنا من خزايا وويلات وفضائح، وحل ولا يزال يحل بنا من مصائب وكوارث، لا خلاص لنا منها ولا نجاة إلا بالعودة إلى الإِسلام حاكمًا ومشرعًا وقاضيًا.
إن هذا الكتاب (فتح مكة) يتضمن أرقى الدروس وأعظم العبر التي يمكن للعاقل المنصف الحصيف - حاكمًا كان أو محكومًا - أن يستخلصها ويعيها من تصرفات الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وتصرفات صحبه الكرام. سواء في العدل والإِنصاف وشرف المعاملة، أو الوفاء بالعهد والوقوف عند شرف الكلمة، ثم العفو عند المقدرة وتوفر القوة الساحقة الكاملة المؤهلة، كى يبلغ خصم من خصمه ما يريد (لو أراد) من تنكيل وتعذيب وإبادة.
عشرة آلاف مقاتل من المسلمين تسيطر على مكة، معقل أعظم وألد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، ويلقى أهلها السلاح مقهورين، فيشملهم جميعًا عفو الرسول القائد والمنتصر، وهم الذين ائتمروا به وهدروا دمه وطاردوه تحت كل سماء، ولم يتركوا موطنًا، كانوا يظون أنهم قادرون على القضاء عليه فيه صلى الله عليه وسلم إلا وقاتلوه فيه، ومع ذلك: لم يجد شيء مما يصل إلى رؤوس القادة العاديين من نشوة الانتصار التي تجعل صاحبها يولغ في الدماء انتقامًا لنفسه ممن نكلوا به وأذلوا أصحابه يوم ضعفهم .. لم يجد شيء من تلك النشوة يوم الفتح الأعظم سبيلًا إلى رأس النبي القائد المنتصر صلى الله عليه وسلم، بل كانت الشفقة والرحمة والصفح والعفو والتسامح الطابع الوحيد لتصرف الرسول القائد المنتصر، في ذلك اليوم التاريخي.
ماذا تظنون أنى فاعل بكم يا معشر قريش؟ ؟ .
قالوا .. أخ كريم وابن أخ كريم.
قال .. اذهبوا، فأنتم الطلقاء.
تلك الكلمات النبوية توّج بها الرسول القائد انتصاره على أهل مكة حين ضمنها العفو العام عنهم وهو عند باب الكعبة. في الوقت الذي كانت فيه قلوب سادات مكة تركض بين جنوبهم خوفًا من أن ينتقم منهم لنفسه فيبعث بهم إلى القبور.
ولكنها أخلاق النبوة اصطنعت ببلسم العفو، والصفح والتسامح أولئك القادة والسادة من الأعداء في مكة فتحولوا طائعين مختارين إلى عمالقة تفانوا في خدمة الإِسلام، فكانوا من حماته وكبار بناة دولته. كانوا من صانعى الانتصارات الحاسمة التي مكنت للإِسلام في الشام والعراق وفارس ومصر وأفريقيا، مثل صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح .. الأول قاد كتيبة الفدائيين في معركة اليرموك فدفع حياته مع أربعمائة من الفدائيين (الكوماندوس) ثمنًا لإِيقاف زخم الهجوم الروماني الذي كاد يسحق جيش الإِسلام الصغير.
والثاني قاد الأسطول الإسلامي إلى أعظم انتصار بحرى يشهده البحر الأبيض المتوسط حتى اليوم وذلك في معركة الصوارى الشهيرة. وكلا الرجلين كانا قد حكم عليهما بالإِعدام قبل فتح مكة، فعفى عنهما الرسول صلى الله عليه وسلم واصطفاهما قادة حرب رميا بأنفسهما في أتون المعارك لنصرة الإِسلام. وأمثالهما كثير من الطلقاء الذين حقن النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم بعد أن استحقوا الإِعدام يوم الفتح.
- 2 -
لقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم في بطاح الحديبية مع قريش صلحًا تاريخيًا في السنة السادسة من الهجرة، وما كان صلى الله عليه وسلم فكر في التنكر لبند من بنود هذا الصلح الذي وضع الحرب بين قريش وكنانة من جهة، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وخزاعة من جهة أخرى لمدة عشر سنوات، يعيش المسلمون والمشركون فيها بعضهم لبعض سلمًا بمعنى كلمة سلم.
وقد التزم الرسول صلى الله عليه وسلم بكل دقة متناهية ببنود هذا الصلح فطبقه نصًّا وروحا، فبرهن (عمليًّا) على أصالة الأخلاق الإِسلامية في الالتزام بمبدأ الوفاء تجلَّى تمسكه بهذه الأخلاق الكريمة في تسليم شابين مسلمين إلى أهلهما المشركين وحبر وثيقة الصلح لم يجف بعد، فعل ذلك رغم الغم القاتل الذي نزل بعامة أصحابه لهذا التصرف الذي يحمل في ظاهره طابع
الدنية على المسلمين كما صرح بذلك أحد كبار وزراء الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب (1).
-3 -
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا كانوا قد وقفوا عند شرف الكلمة التي أعطوها في صلح الحديبية وطبقوها نصًّا وروحًا، واشتملت نفوسهم الطاهرة الصافية النقية على الوفاء بالعهد الذي أعطوه، فهل التزمت قريش وحلفاؤها من كنانة نفس الالتزام الذي التزمه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه وحلفاؤه من خزاعة، ووقفوا عند شرف الكلمة التي أعطوها في وثيقة صلح الحديبية التاريخي؟ ؟ .
كلا وألف كلا.
فالنبي وأصحابه وحلفاؤه من خزاعة، إذا كانوا قد اعتبروا صلح الحديبية وثيقة شرف يتعايش الفريقان بموجبها عشر سنوات يأمن فيها الناس بعضهم بعضًا، فإن المشركين من قريش وحلفائهم من كنانة، قد نظروا إلى ذلك الصلح التاريخي من زاوية غدر مظلمة، فاعتبروا الصلح فرصة ذهبية لا تفوت للغدر بخزاعة الشجاعة الباسلة، لينالوا منها من ثاراتهم الجاهلية بالغدر والخيانة في حالة أمن وأمان وصلح وموادعة، ما عجزوا عن نيله في حالة اللقاء والاستعداد والمواجهة واليقظة.
فقد أقدمت كنانة بمساندة حلفائها القريشيين على جريمة من أبشع جرائم الغدر والنكث والخيانة، ففتكت بأكثر من خمسة وعشرين من خزاعة، قتلتهم داخل حدود الحرم في ظل صلح الحديبية وقبل أن تمضى على توقيعه
(1) انظر تفاصيل قصة تسليم الرسول صلى الله عليه وسلم أبا جندل بن سهيل بن عمرو في بطاح الحديبية. إلى أبيه المشرك في كتابنا (صلح الحديبية) وقصة تسليمه صلى الله عليه وسلم أبا بصير للمشركين فيما مضى من هذا الكتاب وقصة منعه إيواء سبعين شابا من شباب قريش المسلم في المدينة حينما فكر في اللجوء إليها بعد أن أفلتوا من سجون الإِرهاب في مكة. وذلك تطبيقا لالتزامه صلى الله عليه وسلم ببنود صلح الحديبية التي وقع وثيقته التاريخية.
ثلاثون شهرًا .. قتلوهم، وهم عزل من السلاح في حالة تهجُّد وتبتُّل ركعا سجدًا آمنين مستأمنين. وطاردوهم حتى داخل مكة (الحرم الآمن) فقتلوهم عند باب المسجد كأفظع وأقذر ما يكون قتل الآمن المستأمن في ظل صلح وعهد وأمان.
- 4 -
هكذا نقضت قريش وحلفاؤها من كنانة الصلح، فكان ذلك بمثابة نسف من القواعد كامل لبنود صلح الحديبية، الذي طلبت قريش نفسها عقده.
وعندما تبلغ النبي صلى الله عليه وسلم نبأ ذلك العمل الإِجرامى المتمثل في الغدر بحلفائه الذين (بموجب الصلح) له ما لهم وعليه ما عليهم، لم يتعجل في الزحف على مكة للانتصار لحلفائه المعتدى عليهم، كما يلزمه بذلك ميثاق الحديبية، بل (كرهًا منه لسفك الدماء، ورغبة منه في حقنها حتى وإن كانت دماء أعدائه الذين حاولوا بكل الوسائل سفك دمه ودماء أصحابه) فإنه - قبل أن ينبذ إلى قريش على سواء، تقدم إلى قريش باقتراح يجنب الفريقين ويلات الحرب .. اقتراح في منتهى التسامح والتعبير الصادق المخلص عن الرغبة في الابتعاد عن إراقة الدماء .. هذا الاقتراح الذي بعث به إلى قريش (قبل الزحف على مكة) مبعوثًا خاصًّا، يتضمن تخيير قريش المسؤول الرئيسى عن تنفيذ بنود صلح الحديبية، بين أمور ثلاثة.
1 -
إما أن يدوا (أي يدفع القرشيون وحلفاؤهم من كنانة) ديات القتلى من حلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم خزاعة - وبهذا يستمر مفعول صلح الحديبية، وتستمر فعالية السلم والموادعة بين الفريقين عشر سنوات، فتحقن بذلك الدماء من الفريقين.
2 -
وإما أن تتبرأ قريش من الغادرين الرئيسيين (كنانة) ليصفى الرسول صلى الله عليه وسلم معهم وحدهم الحساب، وينزل بهم العقاب العادل الذي استحقوه على بشاعة جريمة الغدر التي ارتكبوها في حق حلفائه.
3 -
وإما أن ينبذ إليهم إلى قريش على سواء فيحتكم وإياهم إلى السيف، بصفتهم المسؤول الرئيسى عن تنفيذ معاهدة الصلح الذي نقضته بكر برضى وممالئة بعض سادات مكة.
- 5 -
غير أن قريشًا رفضت قبول العرضين العادلين الإِيجابيين الأوليين واختارت العرض الثالث صلفًا وكبرياء ورياء الناس، وهو الحرب فتحدت الرسول صلى الله عليه وسلم وأبلغته أنها ترحب بالحرب وتفضلها على أن تدفع ديات قتلى حلفائه، أو تتبرأ من حلف قاتليهم البكريين (كما هو مفصل في هذا الكتاب).
وهنا كان لا بد للرسول صلى الله عليه وسلم من أن يفى بالتزاماته لحلفائه الخزاعيين المغدور بهم، وذلك حسب العهد الذي أعطاه لهم في وثيقة صلح الحديبية التاريخي (1).
- 6 -
لذلك - وبعد أن أصبح صلح الحديبية لاغيا بفعل تصرفات قريش وحلفائها - قرر النبي صلى الله عليه وسلم الزحف على المشركين في مكة، لأنه اعتبر نفسه (لنقضهم الصلح) في حالة حرب معهم كما كان قبل عقد ذلك الصلح، ولا بد من أن ينبذ إليهم على سواء فيبدأ الحرب قبل أن يبدأوه. لأن الخيانة التي ارتكبوها بنقض الصلح وتأييدهم حلفاءهم البكريين العتدين، إنما هو دونما شك، مقدمة لشن حرب على المسلمين، الذين ما كانت قريش ومن بقى على الوثنية يرون لوجودهم معنى ما بقى لهؤلاء المسلمين وجود أو سلطان. ثم إن قريشًا تفسها قد أعلنت الحرب على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلنها هو.
(1) انظر حديثنا الموسع عن هذه الوثيقة في كتابنا الخامس من هذه السلسلة (صلح الحديبية).
حيث أبلغت مندوبه (ضمرة) أنها تفضل أن تنبذ إليه على سواء، على أن تدفع ديات قتلى خزاعة الذين غدر بهم البكريون، أو تتخلى عن هؤلاء البكرين وتتبرأ من حلفهم. إنها إذن الخيانة المبيتة من قريش، قد انطوت عليها للمسلمين.
والله سبحانه وتعالى قد منح رسوله صلى الله عليه وسلم الصلاحيات الكاملة. بل الأمر الصريح في ضرب أي عنصر تشم منه رائحة الخيانة، فضلًا عن أن يتجاهر بها ويتبجح.
فقال تعالى .. {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (1){وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2).
وهكذا وبناء على هذه المبررات، بل الوجبات الملحة، تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة في جيشه العظيم الذي بلغ عشرة آلاف مقاتل لتأديب الخائنين الناكثين فداهم مكة على حين غفلة من أهلها المشركين الذين طمس الله عنهم أنباء الغزو الشامل حتى وصلت طلائع الجيش النبوى ضواحي مكة، فأسقط في أيدى زعمائها الذين رأوا ثمرة الخيانة والغدر سيوفًا إسلامية تلمع وتحيط بهم من كل جانب، فلم يسعهم إلَّا تسليم مكة للجيش النبوى دونما أية مقاومة تذكر، وقد كان فتح مكة - عكس ما يتصور زعماؤها - خيرًا وبركة عليهم، كما صرح بذلك الرسول الرحيم البر الرؤوف في المدينة قبل أن يتحرك منها بالجيش، وذلك عندما سألته زوجه عائشة عندما أكد لها نبأ اعتزامه غزو قريش في مكة -. "أذلك خير أريد بهم أم شر؟ " فقال صلى الله عليه وسلم "بل خير".
فقد دخل أهل مكة (بعد فتحها) في الإِسلام، بين فرح مغتبط وكاره سعد واطمأن فيما بعد، وأخذت (بعد فتح مكة) معالم الوثنية تمحى
(1) الأنفال 58.
(2)
الأنفال 71.
بسرعة مذهلة حتى إنه لم تمض سنة واحدة على فتحها حتى دخل كل أهل الجزيرة في الإِسلام، فقد كان فتحها في السنة الثامنة للهجرة، واحتوى الإِسلام كل الجزيرة دونما استثناء في السنة التاسعة، وهي المسماة بعام الوفود .. لتوافد العرب على المدينة اختيارًا ليدخلوا في دين الله، فأنزل الله تعالى في ذلك {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (1).
فكان فتح مكة الفتح الأعظم بكل معاني الكلمة .. والحمد لله أولًا وآخرًا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
محمد أحمد باشميل
جدة - المملكة العربية السعودية 1392 هـ 1972 م
(1) سورة النصر.