المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مقدمة فضيلة الشيخ / محمد صفوت نور الدين - منطلقات طالب العلم

[محمد حسين يعقوب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة فضيلة الشيخ / محمد صفوت نور الدين

- ‌فضل العلم وبيان أهميته

- ‌ماذا نعني بالعلم؟ وكيف يطلب

- ‌حقيقة الإخلاص

- ‌زبدة الكلام وخلاصة الختام

- ‌فائدة مهمة

- ‌المنطلق الثانيعلو الهمة

- ‌علامات الهمة العالية

- ‌1) طلب المعالي من الأمور

- ‌من نوادر الرحلات

- ‌ومن أخبار الرحَّالة المشائين للطلب

- ‌كيفية علو الهمة

- ‌أسباب شتات الهمَّ

- ‌المنطلق الثالثماذا نتعلم

- ‌نصيحة غالية

- ‌ أولاً:التوحيد

- ‌ثانياً: الفقه

- ‌ثالثاً: أعمال القلوب:

- ‌المنطلق الرابعالتَّزكية

- ‌حقيقة التزكية

- ‌فصل: التلطف بالنفس

- ‌فصل العلم والعمل

- ‌ ما هي العقيدة

- ‌أبرز قضايا العقيدة السلفية

- ‌خصائص أهل السنة والجماعة وسماتهم

- ‌كيف نطلب علم الفقه

- ‌قواعد وتنبيهات على أصول الأحكام

- ‌حكم التقليد

- ‌هل يستحسن ذكر الدليل للمستفتي

- ‌دعوة سلفية محضة

- ‌خلاصة الكلام

- ‌المنطلق السابعمِمَّن نطلبُ العلم

- ‌ علامةُ أولي العلمِ ممن يَشْتَبِه بهم

- ‌1 - رسوخُ القَلَمِ فى مواطنِ الشُّبَهِ

- ‌2 - أنَّهم يُعرفون بنُسُكهم وخشيتهم لله تعالى

- ‌3 - أنهم أكثرُ النَّاس استعلاءً على الدنيا وحظوظِها

- ‌4 - ثناء جماهير النَّاسِ عليهم، وشهرتُهم في الآفاقِ

- ‌5 - أن يكون ممن تربى على أيدي الشيوخِ

- ‌أيها المتفقه:

- ‌6 - يقول الإمام الشاطبي: " وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات

- ‌7 - ظهورُ أثرِ علمِهم من خلالِ دروسِهم وفتاويهم ومؤلفاتِهم:

- ‌فصلفي التفريقِ بين العلماءِ ومَنْ دونَهم

- ‌ طرق التعلم

- ‌الطريق الثاني:

- ‌ذكر طائفة من سلفنا ممَّن كثرت شيوخه

- ‌المنطلق الثامن: الأدب

- ‌آداب طالب العلم

- ‌أولا: طهارة القلب

- ‌ثانيُا: الرضا باليسير

- ‌ثالثًا: التواضع للعلم والعلماء

- ‌رابعًا: أداء حقوق معلمك عليك

- ‌خامسًا: التحلي بآداب مجلس العلم

- ‌سادسًا: أدب سؤال العالم

- ‌سابعًا: عدم التسويف واغتنام الأوقات

- ‌قواعد في التعامل مع العلماء

- ‌القاعدةُ الأولى: موالاةُ العلماءِ ومحبتُهم:

- ‌القاعدةُ الثانيةُ: احترامُ العلماءِ وتقديرُهم:

- ‌القاعدةُ الثالثةُ: السَّعيُ إلى العلماءِ والرحلةُ إليهم طلبًا لعلمِهم:

- ‌القاعدةُ الرابعةُ: الصبرُ على العلماءِ وشدتِهم أحيانًا:

- ‌القاعدةُ الخامسةُ: رعايةُ مراتبِ العلماءِ:

- ‌ومن مراعاةِ مراتبِ العلماءِ:

- ‌القاعدةُ السَّادسةُ: حَذَارِ من القدحِ في العلماءِ:

- ‌القاعدةُ السابعة: احذرْ من تخطئةِ العلماء بدونِ علمٍ:

- ‌القاعدةُ الثامنةُ: التمس للعالمِ العُذْرَ:

- ‌القاعدةُ التَّاسعةُ: الرجوعُ إلى العلماءِ والصُّدورُ عن رأيهم خصوصًا في الفتنِ:

- ‌القاعدةُ العاشرةُ: ليس أحدٌ إلا وتُكُلِّم فيه؛ فتثبَّتْ:

- ‌القاعدةُ الحاديةَ عشر: الاعتبارُ في الحكمِ بكثرةِ الفضائلِ:

- ‌القاعدةُ الثانيةَ عشر: احذرْ من زلاتِ العلماءِ:

- ‌القاعدةُ الثالثةَ عشرَ: كلامُ الأقرانِ يُطْوَى ولا يُرْوَى:

- ‌أيها المتفقه:

- ‌القاعدةُ الرابعةَ عشرَ: العَدْلُ والإنصافُ شرطٌ لازمٌ للحُكمِ على أهلِ العلمِ والاجتهادِ:

- ‌فيا أيها المتفقه:

- ‌القاعدةُ الخامسةَ عشرَ: ثِقْ في أهلِ العِلْمِ، فإنهم أئمةُ الهُدى ومصابيحُ الدُّجَى:

- ‌فيا أيها المتفقه

- ‌المنطلق التاسعتكوين الملكة الفقهية

- ‌ الملكة الفقهية

- ‌كيف يمكن تنمية هذه الملكة

- ‌آفات الملكة الفقهية

- ‌المنطلق العاشر(من أين نبدأ

- ‌منهج للمبتدئين في التربية

- ‌أولاً: القرآن الكريم

- ‌ثانياً: الصلاة

- ‌1 - الفرائض:

- ‌2 - النوافل:

- ‌عبودية المال

- ‌المنهج في طلب العلوم الشرعية

- ‌الجدول العلمي في كل فن

- ‌أولاً: القرآن الكريم

- ‌ أحكام التلاوة والتجويد

- ‌ أصول التفسير

- ‌ كتب التفسير

- ‌ثانيًا: علوم السنة

- ‌دواوين السنة

- ‌ مصطلح الحديث

- ‌ثالثًا: علم التوحيد أو العقيدة

- ‌ بعض المباحث المهمة:

- ‌رابعًا: الفقه

- ‌خامسًا: أصول الفقه

- ‌كيف تطلب علم الأصول

- ‌سادسًا: علوم اللغة

- ‌أيها المتفقه

الفصل: ‌مقدمة فضيلة الشيخ / محمد صفوت نور الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمة فضيلة الشيخ / محمد صفوت نور الدين

الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والذي يفتح للناس أبواب العلم والحكمة والفهم، ويصرف عنهم أبواب الشبهات التي هي شراك الشيطان وشباكه.

والصلاة والسلام على خير خلقه الذي بعث للناس معلمًا، فكان العلم في القرآن الذي نزل عليه، والسلوك والعمل الذي عمل به، والسمت والهيئة التي كان عليها صلى الله عليه وسلم، فكان العلم والإيمان قرينين، وكانت الخشية هي الثمر المستطاب للعلم النافع الصحيح، قال تعالى:" إنَّما يخشى الله من عباده العلماء "[فاطر/28].

ورضي الله عن الصحابة الكرام الذين ورثوا العلم من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا للناس أمنًا وأمانًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:" وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى على أمتي ما يوعدون "

وقال صلى الله عليه وسلم مبينًا صفة الفرقة الناجية ـ: ما أنا عليه وأصحابي ". (1)

(1) أخرجه الترمذي (2641) ك الإيمان عن رسول الله، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، وقال: حسن غريب، وحسنه الألباني (5343) في صحيح الجامع.

ص: 11

وفي حديث البخاري ومسلم يقول صلى الله عليه وسلم: " من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله يعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ".

" والفقه ": الفهم في العلم، " والله يعطي " يعني فهمًا في العلم الذي قسمه النبي صلى الله عليه وسلم، " وظاهرين على الحق " يعني عارفين للعلم عاملين به، مستقيمين عليه، فلا بقاء للأمة إلا بالعلم، فإذا ضاع العلم ضاعت الأمة، كما روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا "(1)

ولقد صنَّف العلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد كتاب " حلية طالب العلم " جمع فيه الوصايا الطيبة والمنهج الرصين لطالب العلم ليسير عليه، وكتب كثير من شيوخ العلم الكتب الضافية في ذلك، ومع ذلك لا يزال المسلم في حاجة إلى وصايا في طلب العلم، فترى القوم بين مستفت على ترتيب الطلب، وسائلٍ عن رؤوس العلم ومهامه، وسائل عن طرق تحصيل العلم وسبل تيسيره، وسائلٍ عن علاج عيوب الفهم وعن اجتناب النسيان.

فجاء هذا الكتاب الطيب الذي نقدم له - نفع الله به - جامعا لشتات هذه المسائل.

(1) متفق عليه، أخرجه البخار ي (100) ك العلم، باب كيف يقبض العلم، ومسلم (2673) ك العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن.

ص: 12

وأحب أن ألفت النظر في هذا المقام إلى أنَّ شيوخنا السابقين من المؤسسين لدعوة السنة في مصر قاموا في مطلع القرن السابق ووسطه، فوجدوا من حولهم نار البدعة ودخن المعاصي قد أصابت الناس، فصار الدين غريبًا بين أهله في نصه ومنطقه، وفي عمله وتمثيله، وفي هيئته وسمته، فقاموا ـ كالذي يطفئ حريقًا ـ يتتبعون اللهب ثمَّ أثر الدخان حتى خمد الحريق، فظن كثير ممن عاصرهم وسار سيرتهم أن هذا هو طريق العلم الذي ربى شيوخنا عليه طلبتهم، والذي يريدونه من تلامذتهم، وأنَّ من خالف ذلك فقد خالف الشيوخ المعلمين، وهذا فهم غير صحيح؛ فإنَّ شيوخ السنة إنما يقربون العلم لأهل عصرهم بحسب حاجتهم إليه، ويراعون حال الناس فيعطونهم ما يحتاجون إليه، ولا يقدمون على التوحيد شيئًا، ولا يأخذون علوم الشرع من غير طريق الأئمة قبلهم، حيث فهم السلف للقرآن والسنة وهجران البدعة.

واليوم وقد أثمر الله ثمارًا جليلة من وراء جهاد الشيوخ قبلنا وجب علينا الرجوع إلى المنهجية في العلم، وأن نجعل منطلقاتنا في ذلك منهج سلف الأمة في العلم والعمل، فالله نسأل أن يوفق المسلمين لتعلم دينهم ونشره في الناس في كافة أرجاء الأرض، وإنَّ ذلك يبدأ ـ ولابد ـ من المسلمين خاصة في البلاد الناطقة بلغة القرآن.

وبعد فهذا الأخ الفاضل الشيخ / محمد حسين يعقوب ـ الذي جعل الله لكلماته القبول في الناس في مواعظه وأشرطته ـ يكتب كتابًا سماه (منطلقات طالب العلم) فصَّل فيه حول الإخلاص وصدق النية

ص: 13

ثمَّ علو الهمة في الطلب والتغلب على شتى الهموم، ثمَّ ماذا نتعلم؟ ثمَّ أفرد فصلاً لتزكية النفوس، وأوصى بالسلفية وفهم السلف، وبيَّن التقليد ومعناه وحكمه، ثمَّ مصدر العلم وطرق التلقي، فقسَّم كتابه إلى منطلقات عشرة، سهلة المنال، عذبة المقال، فنوصي أحبابنا بالتدبر في القراءة، والكتاب ليس لينتهي إليه القارئ بل لينطلق منه لطلب العلم والسعي لجمعه.

والله من وراء القصد

وكتبه

محمد صفوت نور الدين

ص: 14

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الحمد لله نحمده تعالى، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

ـ أما بعد ـ

إخوتاه ..

تجري دموع العين وفي الحشا زفرات حزن تلتطم، ويكتم المرء وجدا في جوانحه وكيف يُكتم ما ليس ينكتم، فهل للواجد المكروب من زفراته سكون عزاء أو تأوه ألم؟.

فلعمر الله إنَّما نحن في رزء عظيم، وخطب أمره جلل جسيم، رزئنا في جبال كانوا على الأرض النجوم في ليل بهيم، مات ابن باز والألباني وابن عثيمين، عليهم رحمات ربنا الرحيم، وتقلب بصرك فلا تجد من يُدعى لخَطب أو يقال: عالمٌ كريم!! فمن ساعتها فتكت بأنفسنا الهموم، فما في هذه الدنيا مكان يُسَرُّ بأهله الجارُ المقيم، وسرطان الجهل في الأمة يسري فما تدري أعرضٌ حادث أم داء قديم، فلك الله يا أمة محمد عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم.

فمن لنا غيرك يا ربنا، لا ملجأ منك إلا إليك فارحمنا.

ص: 49

كانوا بحور العلم فيا لحيرة العطشان في وقت الهجير!!

كانوا على ثغور فيا لذلة المظلوم وهو معدوم النصير!!

كانوا منارات فيا لحيرة الشيخ الأصم وحسرة الحدث الضرير!!

كانوا مزن الرحمة فيا لفجأة المكروه في اليوم العبوس القمطرير!!

اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على النَّاس يا أرحم

الراحمين!!

إلى من تكلنا؟! إلى عدو يتجهمنا أم إلى قريب ملكته أمرنا؟! إن لم يكن بك سخطٌ علينا فلا نبالي، غير أن عافيتك أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السموات والأرض، وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا

والآخرة أن يحل علينا غضبك، أو ينزل علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.

إخوتاه ..

قال الله تعالى: " إنَّما يخشى الله من عباده العلماء "[فاطر/28]

وقال تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات "[المجادلة /11]

قال الله تعالى: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون "[الزمر/9]

فالعلماء هم أكثر الناس خشية لله تعالى، فالعلم عبادة القلب إذا ابتغي به وجه الله تعالى، فتعلمه لله قربة، ومدراسته ذكر، والبحث

ص: 50

عنه جهاد، وتعليمه صدقة؛ لأنَّه معالم الحلال والحرام، وبيان سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والمحدث في الخلوة، والجليس في الوحدة، والصاحب في الغربة، والدليل على السراء، والمعين على الضراء، والزين عند الإخلاء، والسلاح على الأعداء.

وبالعلم يبلغ العبد منازل الأخيار في الدرجات العلى، ومجالسة الأصفياء في الدنيا، ومرافقة الأبرار في الآخرة.

وبالعلم توصل الأرحام، وتفصل الأحكام، وبه يعرف الحلال والحرام.

وبالعلم يعرف الله ويوحد، وبالعلم يطاع الله ويعبد.

فخير الدنيا والآخرة مع العلم، وشر الدنيا والآخرة مع الجهل.

إخوتاه ..

وإذا كان هذا شأن العلم، فإنَّ القلب ليتفطر كمدًا ويقطر حسرة على عمر الدعوة الذي لم يثمر إلا أعدادًا ضئيلة تنحصر على أصابع اليدين من طلبة العلم المجتهدين، وليس ثمَّ زمان أحرى من هذا الزمان لنعيد فتح " قضية التعلم " التي باتت من أكثر المزالق التي تزل فيها الأقدام، فقد غابت " المنهجية "

و" كثرت الدعاوى " و" انتشرت الآراء الباطلة " وتلك علامة الساعة؛ فشرطها أنْ يزداد الجهل، ويقل العلم.

ومما زاد الطين بلة أن كثيرا من حملة العلم إلا من رحم الله لم

ص: 51

يصونوا العلم وندر العمل به ففقدوا سيما أهل العلم والصلاح وفقدت الأمة الرجل القدوة، الذي يقود الأمة بعلمه وعمله، بهديه وسمته وسلوكه، وأقواله وأفعاله. قال الفضيل: لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم، وأعزوا هذا العلم وصانوه، وأنزلوه حيث أنزله الله إذًا لخضعت لهم رقاب الجبابرة، وانقاد لهم الناس، وكانوا لهم تبعًا، ولكنهم أذلوا أنفسهم، وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا، فهانوا وذلوا، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون فأعظم بها من مصيبة!!

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا "(1)

ولقد كثر سواد علماء السوء، ووسد الأمر إلى غير أهله، فهان العلم، وازدادت الفتن، وتوالت المحن. قال صلى الله عليه وسلم: " سَيَاتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيْؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيَخُونُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ.

قِيلَ: وَمَا الرَّوَيْبِضَةُ؟!! قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتكلَّم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ. (2)

قال الثوري: كان يقال العالم الفاجر فتنة لكل مفتون.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري (80) ك العلم، باب رفع العلم وظهور الجهل، ومسلم (2671) ك العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن.

(2)

أخرجه ابن ماجه (4036) ك الفتن، باب شدة الزمان، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3261).

ص: 52

إخوتاه ..

وليت البلاء وقف عند حد علماء السوء إذاً لقلنا: لهم الجهابذة يذبون عن شرع الله تعالى، ولكنَّ البلية بليتان، فقد عاد أهل الصلاح والإيمان، من الندرة بمكان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا "(1)

وفي خلال السنتين الماضيتين فقدت الأمة من خيرة علمائها ما لم تفقده طوال عقود ماضية، ولم تعدْ تبصر من الأكابر إلا النادر القليل، وعاد الأمر برمته بأيدي الأصاغر، وتلك من علامات الساعة.

عن أبي أمية الجمحي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر "(2)

مات الأكابر: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وفضيلة العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ناهيك عن فحول

(1) متفق عليه، أخرجه البخار ي (100) ك العلم، باب كيف يقبض العلم، ومسلم (2673) ك العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن.

(2)

أخرجه ابن المبارك في الزهد (61) وصححه الألباني في الصحيحة (695)

ص: 53

أعلام كفضيلة الشيخ عطية سالم، وفضيلة الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر، وفضيلة الشيخ سيد سابق، وفضيلة الشيخ ابن غضون، وفضيلة الشيخ منَّاع القطان، وفضيلة الشيخ مصطفى الزرقا، وفضيلة الشيخ حماد الأنصاري، وفضيلة الشيخ محمد أمان الجامي، وفضيلة الشيخ عمر فلاتة، وفضيلة الشيخ على الطنطاوي وغيرهم،

ولم نلبث كثيرًا حتى رزئت الأمة في العَلم الهمام فضيلة الشيخ ابن عثيمين عليه رحمات الرحمن، فاليوم تقلب بصرك فلا تجد من يقوم على ثغرات كان يسدها هؤلاء الرجال الجبال، فموت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.

قال أيوب: إني لأخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأنِّي أفقد بعض أعضائي. فاللهم إليك المشتكي.

تعلَّم ما الرزية فقد مال

ولا شاة تموت ولا بعير

ولكن الرزية فقد حر

يموت بفقده بشر كثير

إخوتاه ..

يوم مات الشيخ الألباني قلت: إنَّ القلق على مستقبل الأمة أعظم من حزننا على موت علمائنا، فالمصاب الجلل أن تلتفت فلا تجد من يسد الثغرة التي كان عليها هؤلاء الفحول، وأنْ يصير جل عملنا النواح ونترك العمل الإيجابي الجاد.

ص: 54

ولذلك طرحت يومها " ورقة عمل " من ست نقاط:

أولا: وجود منهج سلفي فعلي متكامل لطلبة العلم، منهج واقعي ذي مراحل وفق طريقة سلفنا الصالح، منهج محدد واضح يعرفه كل أحد، ويتقيد به.

ثانيًا: أن يعكف فريق من الدعاة وطلبة العلم المجتهدين على شرح هذا المنهج على أشرطة وأسطوانات وكتب، وتباع بسعر التكلفة، وتتولى رعاية ذلك الجمعيات الرسمية؛ لبث وتدريس هذا المنهج.

ثالثًا: تجييش الأمة بكل فئاتها وطبقاتها لطلب العلم.

رابعًا: تجريد الإخلاص في طلب العلم.

خامسًا: الشمولية قبل التخصص؛ كي لا تفرز الأمة أنصاف متعلمين، ليس لهم من العلم إلا شذرًا من هنا وهناك، أو متخصصًا لا يدري شيئًا عمَّا لم يتخصص فيه.

سادسًا: عدم التعصب للآراء والمذاهب والمشايخ. (1)

وإذا كان ذلك على وجه الإجمال، فلعلي في هذه الرسالة ـ أسأل الله أن يكتب الله لها القبول ـ أعيد ما أجملت ثمَّ بمزيد بيان، والله المستعان.

(1) مجلة التوحيد عدد شعبان 1420هـ بعنوان " مرثية الحيارى "

ص: 55

إخوتاه ..

إنني أحاول من خلال هذه الرسالة أنْ أنبهكم لخطورة " قضية التعلم " فقد بات نوع من الفصام العجيب بين العلم والعمل، ولم تعدْ تألف وجود العالم العامل، كما كان الأمر من قبل، فقد غيبت المفاهيم، وانطلقت شعارات كـ " العلم للعلم " و" العلم المدني والعلم الشرعي " ونحو ذلك مما يدندن به أعداء هذه الأمة لسلب هويتها، بمسخ أصولها وقواعدها الركينة، فالعلم والعمل عندنا وجهان لعملة واحدة، لا فصام بينهما البتة، فالعلم عندنا ليس ترفًا معرفيًا، ولا تطلعًا فلسفيًا، ولا ينفصل عن عقيدة التوحيد قيد أنملة، بل العلم وسيلة للقرب من الله تعالى وتحقيق خشيته في القلوب، ولا علم دون عمل يثمره، ولا عمل دون علم يبصره.

قال الحسن: رأيت أقواما من أصحاب رسول الله يقولون: " من عمل بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه، والعامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم.

وكان الرجل يطلب العلم فيهم حتى لا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه وزهده ولسانه وبصره (1)

(1) سير أعلام النبلاء (4/ 583)

ص: 56

وقال الخطيب البغدادي: لا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشا من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصرا في العمل، ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما. (1)

ـ وبعدُ ـ

فإنَّ العلم الذي هو أول ما يعقد عليه الخنصر في الدين واليقين، ليفسده اضطراب التلقي؛ لذلك كانت هذه الوصايا لطالب العلم، نناقش من خلالها " قضية التعلم " في وقتنا الراهن، ونوضح السبل القويمة لتحصيله، وذلك من خلال منطلقات عشرة، هي بمثابة الركائز والأصول التي ينبني عليها صرح العلم الشامخ،

وأرجو من الله العلي القدير أن تكون منارات على الطريق تهدى الشداة السائرين.

وقد استقيتها من نهج سلفنا الأوائل في التلقي، وأردت بذلك أن أمدَّ يد العون لطلبة العلم كي يستضيئوا بها في دربهم، فإنَّ آمال الأمة معقودة على هذا الجيل كي ينتج لنا من العلماء والفقهاء ما يعوضنا خيرًا مما افتقدنا، فإنَّ قبض العلماء نذير الساعة، والساعة أدهى وأمر، والساعة لا تقوم إلا على أراذل النَّاس، نعوذ بالله أنْ نكون منهم.

(1) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغذادي بتحقيق الشيخ الألباني ص (14) ط المكتب الإسلامي.

ص: 57

أيها المتفقه ..

وهذا ندائي معك منذ اللحظة، فلتكن كما يُراد منك، وتعال لنجوب معًا في رياض العلم نقتطف منها ما يبلغك سؤلك وسؤل أمتك.

وأصدقُ ـ لا تواضعاً بل اعترافاً ـ أنني لم يكن لي أدنى فضل في كتابة أي كلمة من كل ما ستقرأه

ـ أخي وحبيبي في الله ـ:

وإنَّما أنا فقط أقرأ وأكتب ما قرأتُ، أجمع وأرتب، بعد أن طفت في بساتين الحكماء، وحلقت في آفاق العلماء، وأبحرت في بطون الكتب، فانتقيت لك زهوراً طالما استرعتْ انتباهي فأخذت بلبي.

واخترت لك زاداً كان لي غذاءً يوماً، فآثرت وما استأثرت، فكل عملي قطف الزهور، وتعبئة الزاد، والتنسيق بين هذا وذاك، ثم هو لك معين، فخذها هنيئاً مريئاً، ولتحسن نيتك في الأخذ، عساك أن ينفعك بها ربك فيرفعك مقامًا عليًا، ولا أعدم منك دعوة صالحة بظهر الغيب تكون نعم المعين.

ص: 58

والله المستعان وعليه التكلان، هو حسبنا ونعم الوكيل، لا إله إلا هو نعم المولى ونعم النصير.

وصلِّ اللَّهمَّ عَلى مُحَمدٍ، وعَلى أَهْلِ بَيْتِهِ، وعَلى أَزْواجِهِ وذُرِّيَّتِه، كما صلَّيْتَ عَلى آلِ إِبْراهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وبَاركْ عَلى مُحَمدٍ، وعَلى آلِ مُحَمدٍ، وعَلى أَزْوَاجِهِ وذُرِّيته، كما بَارَكْتَ عَلى آلِ إبراهيمَ، إِنَّكَ حَميدٌ مَجِيدٌ.

وكتب

محمد بن حسين آل يعقوب

غفر الله له ولوالديه والمسلمين والمسلمات وكان ختامه في ليلة الحادي والعشرين من شهر شوال 1421 هـ والحمد لله رب العالمين أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين

***

ص: 59