الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنطلق الثامن: الأدب
قال عمر: تأدبوا ثمَّ تعلموا
المنطلق الثامن
الأدب
أيها المتفقه ـ حبيبي في الله ـ:
اعلم ـ أعزك الله ـ أنَّ تعلم الآداب وحسن السمت مطلب شرعي قلَّ في الناس الآن من يلتفت إليه، بل البلايا العظام لم تتوالَ علينا إلا يوم هجر الناس السمت الحسن، وأقبلوا على العلم ولم يزينوه بحليته الواجبة، فظهرت الأقوال الشاذة، وكثرت الصراعات والخلافات، فلم نجنِ للعلم ثمرة، وندر في الناس أهل العلم والفضل.
وقال ابن المبارك رحمه الله: طلبت العلم فأصبت منه شيئًا، وطلبت الأدب فإذا أهله قد بادوا.
وهذا في زمانه رحمه الله زمان " خير القرون "، فكيف به إذا رأى زماننا هذا؟
ولما تغافل الناس عن الاهتمام بالآداب الشرعية ظهر الالتزام الهش، وصار الإقبال على المفضول، وتُرك الفاضل، وظهرت الانحرافات الفكرية والسلوكية والأخلاقية؛ لأنَّ تلك الآداب ـ في حقيقة الأمر ـ حصن الالتزام والإيمان الأول فإذا تركت ترك السنن والفرائض ونقضت عرى الإيمان الواحدة تلو الأخرى.
قال الحجاوي: مثل الإيمان كمثل بلدة لها خمس حصون: الأول من ذهب، والثاني من فضة، والثالث من حديد، والرابع من آجر، والخامس من لبن.
فما زال أهل الحصن متعاهدين حصن اللبن لا يطمع العدو في الثاني، فإذا أهملوا ذلك طمعوا في الحصن الثاني ثم الثالث حتى تخرب الحصون كلها.
فكذلك الإيمان في خمس حصون: اليقين، ثمَّ الإخلاص، ثمَّ أداء الفرائض، ثمَّ السنن، ثمَّ حفظ الآداب، فما دام يحفظ الآداب ويتعاهدها فالشيطان لا يطمع
…
فيه، وإذا ترك الآداب طمع الشيطان في السنن، ثمَّ في الفرائض، ثمَّ في الإخلاص، ثمَّ في اليقين. (1)
فالأدب دليل على الالتزام الحقيقي، ولذا جُعل جزءًا من أجزاء النبوة.
عن ابن عباس رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الهدي الصالح والسمت والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة. (2)
وكان الأدب هو المقياس الذي يقاس به الناس عند سلفنا الصالح، فإذا لم يوافق هدي الرجل علمه تركوه ونبذوه، فليس العلم عن كثرة المعارف وشحن الذهن بالفنون واللطائف، وإنما العلم ما توصل به لخشية الله تعالى.
(1) غذاء الألباب للسفاريني (1/ 37) ط مؤسسة قرطبة.
(2)
أخرجه أبو داود (4776) ك الأدب، باب الوقار وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3996).
قال إبراهيم النخعي رحمه الله: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وصلاته وإلى حاله، ثمَّ يأخذون عنه.
قال الإمام النووي: قالوا: ولا يأخذ العلم إلا ممن كملت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت معرفته واشتهرت صيانته وسيادته. (1)
قال عبد الله بن المبارك: لا ينبل الرجل بنوع من العلم ما لم يزين علمه
…
بالأدب. (2)
ولذلك كانت وصية سلفنا الصالح بتعاهد الأدب أكثر مما يتعاهد به العلم.
قال أبو عبد الله البلخي: أدب العلم أكثر من العلم.
والأدب شرط لحصول العلم، يلزم من وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم، فلا علم لمن لا أدب له.
قيل: العون لمن لا عون له الأدب.
وقال الأحنف بن قيس: الأدب نور العقل كما أنَّ النار نور البصر.
ومن ثمَّ فإنك لا تتعجب أن يفرد أهل العلم مصنفات مستقلة في بيان الآداب الشرعية، " مثل: الآداب الحميدة والأخلاق النفيسة لابن جرير الطبري
…
(ت 311هـ)، " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر (ت 463هـ)،
…
و" الآداب الشرعية والمصالح المرعية " لابن مفلح الحنبلي (ت 763هـ) وغيرها من الكتب النافعة الماتعة.
(1) المجموع (1/ 36) ط دار الفكر.
(2)
ذكره الحاكم في تاريخه.