الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال رضي الله عنه: ألا وإنَّ الناس بخيرٍ ما أخذوا العلمَ عن أكابرِهم، ولم يَقُم الصغيرُ على الكبيرِ، فإذا قام الصغيرُ على الكبيرِ فقد (1) - أي هلكوا.
ويَصْدُقُ في ذلك قولُ القائلِ:
متى يصلُ العطاشُ إلى ارتواءٍ
…
إذا اسْتَقَت البحارُ مِن الرَّكايا (2)
والشريعةُ جاءت بالمحافظةِ على قدرِ الكبيرِ، فهو المُقدَّمُ للإمامةِ في الصلاةِ عند التَّساوي في القراءةِ والعلمِ، فواجبُ الأحداثِ أن يتفرغوا للطلبِ والتَّلقي، فهذا زمانُ الأخذِ فانْهَلْ، أمَّا الكبيرُ فزمانُه زمانُ الإنفاقِ، فَلْيَجُد ولا يَبْخَلْ.
ومِن أَسَفٍ أنْ تَرَى بعضَ الناسِ يأخذُ عن بعضِ طلبةِ العلمِ الصغارِ ما يتعارضُ مع ما يَرَاه الأَجِلَّةُ من العلماءِ، وأن يحفظَ لطالبِ العلمِ من الحقوقِ ما لا يحفظُ لغيرِه من أكابرِ العلماءِ، فاحفظْ -أيها المتفقه- للعلماءِ مراتبَهم.
القاعدةُ السَّادسةُ: حَذَارِ من القدحِ في العلماءِ:
فطالبُ العلم عفيفُ اللسانِ، ذليلُ النفْسِ، بغيتُه رضا رَبِّه، ووسيلتُه إلى ذلك الأخذُ عن أهلِ العلمِ والفضلِ، فكلُّهم ذوو شأنٍ عندَه ومكانةٍ، لا يَحُطُّ من قَدْرِ أحدِهم، لا يُنْصِتُ لفاحشِ القولِ فيهم، بل
(1)"جامع بيان العلم وفضله"(1/ 158).
(2)
"وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 304).
يَرُدُّ غيبتَهم، وإن لم يستطعْ فارق تلك المجالسَ التي تعقدُ في "تصنيفِ العلماءِ" و "النيلِ منهم" و "القدحِ في ذواتِهم أو آرائِهم"، وهي مجالسُ لا تبوءُ بصاحبِها إلى خيرٍ البتةَ.
فالقدحُ في العلماءِ مُحَرَّمٌ؛ لأنهم من المسلمين، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحرمةِ يومِكم هذا في شهرِكم هذا في بلدِكم هذا"(1).
ولمَّا كان القدحُ في العلماءِ مَطِيَّةً للقدحِ في الدينِ ازدادتْ حُرمةُ ذلك الصنيعِ شرعًا، إذ قاعدةُ الشريعةِ الأصيلةُ أنَّ للوسائلِ حكمَ المقاصدِ، فمتى ما أَفْضَتِ الوسيلةُ لمحرمٍ فإنها تُحَرَّمُ تبَعًا لأثرِها وما ينتجُ عنها.
لذلك كان سَابُّ الصحابةِ زنديقًا؛ لأنَّ انتقاصَ الصحابةِ انتقاصٌ للرسولِ صلى الله عليه وسلم، إذ ما أقبحَ بالرجلِ أن يصحبَه صحابةُ السُّوءِ (2).
وتواترت الآثارُ عن السَّلفِ في رميهم القادحَ في أهلِ العلمِ من التابعين فمن بعدَهم بالزندقةِ، وهذا محمولٌ على الكلامِ في العالمِ بظلمٍ وهوى.
وكان السَّلفُ يعظمون قدرَ العلماءِ، وَيرَوْن مَن اسْتَخَفَّ بهم على سبيلِ الهَلَكَةِ.
(1) متفق عليه. أخرجه البخاري (67) ك العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"رب مبلغ أوعى من سامع"، ومسلم (1679) ك القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال.
(2)
انظر "تاريخ بغداد"(10/ 174).
قال ابنُ المباركِ رحمه الله: فإنَّه من اسْتَخَفَّ بالعلماءِ ذَهَبَت آخرتُه. (1)
فالاستخفافُ بالعلماءِ إيذاءٌ لهم، وهم أولياءُ اللهِ تعالى، ومَن آذى أولياءَ اللهِ تعالى أَوْشَكَ أن تتنزلَ عليه لعناتُ اللهِ تعالى ومقتُه.
- وفي الحديث القدسي: "مَنْ عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحربِ"(2).
- ولقد قال رجل من المنافقين: ما رأيتُ مثلَ قُرَّائِنا هؤلاءِ أرغبَ بطونًا، ولا أكذبَ لسانًا، ولا أجبنَ عندَ اللقاءِ. فأنزل الله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)} [التوبة: 65، 66].
فرَدَّ اللهُ على اعتذارِهم غيرِ المقبولِ، وجَعَل استهزاءَهم بالرسولِ صلى الله عليه وسلم
وصحبِه استهزاءً به سبحانَه، وهذا يدلُّ على خطورةِ الأمرِ.
ثمَّ إنَّ القدحَ في العلماءِ والاستخفافَ بهم من جملةِ الغِيبةِ المنهيِّ عنها، وغِيبةُ العالمِ أعظمُ من غِيبةِ غيرِه لِعِظَمِ قدرِه، ولعلَّ من أفضلِ ما قيل في هذا الأمرِ كلمةَ الإمامِ الحافظِ ابنِ عساكرَ الدمشقيِّ رحمه الله.
قال: اعلم يا أخي -وفقني اللهُ وإياك لمرضاتِه، وجَعَلَنا ممن يخشاه ويتقيه حَقَّ تقاتِه- أنَّ لحومَ العلماءِ مسمومةٌ، وعادةُ اللهِ في هَتْكِ أستارِ
(1)"السير"(17/ 251).
(2)
أخرجه البخاري (6502) ك الرقاق. باب التواضع.