المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة فضيلة الشيخ / محمد صفوت نور الدين

- ‌فضل العلم وبيان أهميته

- ‌ماذا نعني بالعلم؟ وكيف يطلب

- ‌حقيقة الإخلاص

- ‌زبدة الكلام وخلاصة الختام

- ‌فائدة مهمة

- ‌المنطلق الثانيعلو الهمة

- ‌علامات الهمة العالية

- ‌1) طلب المعالي من الأمور

- ‌من نوادر الرحلات

- ‌ومن أخبار الرحَّالة المشائين للطلب

- ‌كيفية علو الهمة

- ‌أسباب شتات الهمَّ

- ‌المنطلق الثالثماذا نتعلم

- ‌نصيحة غالية

- ‌ أولاً:التوحيد

- ‌ثانياً: الفقه

- ‌ثالثاً: أعمال القلوب:

- ‌المنطلق الرابعالتَّزكية

- ‌حقيقة التزكية

- ‌فصل: التلطف بالنفس

- ‌فصل العلم والعمل

- ‌ ما هي العقيدة

- ‌أبرز قضايا العقيدة السلفية

- ‌خصائص أهل السنة والجماعة وسماتهم

- ‌كيف نطلب علم الفقه

- ‌قواعد وتنبيهات على أصول الأحكام

- ‌حكم التقليد

- ‌هل يستحسن ذكر الدليل للمستفتي

- ‌دعوة سلفية محضة

- ‌خلاصة الكلام

- ‌المنطلق السابعمِمَّن نطلبُ العلم

- ‌ علامةُ أولي العلمِ ممن يَشْتَبِه بهم

- ‌1 - رسوخُ القَلَمِ فى مواطنِ الشُّبَهِ

- ‌2 - أنَّهم يُعرفون بنُسُكهم وخشيتهم لله تعالى

- ‌3 - أنهم أكثرُ النَّاس استعلاءً على الدنيا وحظوظِها

- ‌4 - ثناء جماهير النَّاسِ عليهم، وشهرتُهم في الآفاقِ

- ‌5 - أن يكون ممن تربى على أيدي الشيوخِ

- ‌أيها المتفقه:

- ‌6 - يقول الإمام الشاطبي: " وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات

- ‌7 - ظهورُ أثرِ علمِهم من خلالِ دروسِهم وفتاويهم ومؤلفاتِهم:

- ‌فصلفي التفريقِ بين العلماءِ ومَنْ دونَهم

- ‌ طرق التعلم

- ‌الطريق الثاني:

- ‌ذكر طائفة من سلفنا ممَّن كثرت شيوخه

- ‌المنطلق الثامن: الأدب

- ‌آداب طالب العلم

- ‌أولا: طهارة القلب

- ‌ثانيُا: الرضا باليسير

- ‌ثالثًا: التواضع للعلم والعلماء

- ‌رابعًا: أداء حقوق معلمك عليك

- ‌خامسًا: التحلي بآداب مجلس العلم

- ‌سادسًا: أدب سؤال العالم

- ‌سابعًا: عدم التسويف واغتنام الأوقات

- ‌قواعد في التعامل مع العلماء

- ‌القاعدةُ الأولى: موالاةُ العلماءِ ومحبتُهم:

- ‌القاعدةُ الثانيةُ: احترامُ العلماءِ وتقديرُهم:

- ‌القاعدةُ الثالثةُ: السَّعيُ إلى العلماءِ والرحلةُ إليهم طلبًا لعلمِهم:

- ‌القاعدةُ الرابعةُ: الصبرُ على العلماءِ وشدتِهم أحيانًا:

- ‌القاعدةُ الخامسةُ: رعايةُ مراتبِ العلماءِ:

- ‌ومن مراعاةِ مراتبِ العلماءِ:

- ‌القاعدةُ السَّادسةُ: حَذَارِ من القدحِ في العلماءِ:

- ‌القاعدةُ السابعة: احذرْ من تخطئةِ العلماء بدونِ علمٍ:

- ‌القاعدةُ الثامنةُ: التمس للعالمِ العُذْرَ:

- ‌القاعدةُ التَّاسعةُ: الرجوعُ إلى العلماءِ والصُّدورُ عن رأيهم خصوصًا في الفتنِ:

- ‌القاعدةُ العاشرةُ: ليس أحدٌ إلا وتُكُلِّم فيه؛ فتثبَّتْ:

- ‌القاعدةُ الحاديةَ عشر: الاعتبارُ في الحكمِ بكثرةِ الفضائلِ:

- ‌القاعدةُ الثانيةَ عشر: احذرْ من زلاتِ العلماءِ:

- ‌القاعدةُ الثالثةَ عشرَ: كلامُ الأقرانِ يُطْوَى ولا يُرْوَى:

- ‌أيها المتفقه:

- ‌القاعدةُ الرابعةَ عشرَ: العَدْلُ والإنصافُ شرطٌ لازمٌ للحُكمِ على أهلِ العلمِ والاجتهادِ:

- ‌فيا أيها المتفقه:

- ‌القاعدةُ الخامسةَ عشرَ: ثِقْ في أهلِ العِلْمِ، فإنهم أئمةُ الهُدى ومصابيحُ الدُّجَى:

- ‌فيا أيها المتفقه

- ‌المنطلق التاسعتكوين الملكة الفقهية

- ‌ الملكة الفقهية

- ‌كيف يمكن تنمية هذه الملكة

- ‌آفات الملكة الفقهية

- ‌المنطلق العاشر(من أين نبدأ

- ‌منهج للمبتدئين في التربية

- ‌أولاً: القرآن الكريم

- ‌ثانياً: الصلاة

- ‌1 - الفرائض:

- ‌2 - النوافل:

- ‌عبودية المال

- ‌المنهج في طلب العلوم الشرعية

- ‌الجدول العلمي في كل فن

- ‌أولاً: القرآن الكريم

- ‌ أحكام التلاوة والتجويد

- ‌ أصول التفسير

- ‌ كتب التفسير

- ‌ثانيًا: علوم السنة

- ‌دواوين السنة

- ‌ مصطلح الحديث

- ‌ثالثًا: علم التوحيد أو العقيدة

- ‌ بعض المباحث المهمة:

- ‌رابعًا: الفقه

- ‌خامسًا: أصول الفقه

- ‌كيف تطلب علم الأصول

- ‌سادسًا: علوم اللغة

- ‌أيها المتفقه

الفصل: ‌فضل العلم وبيان أهميته

‌فضل العلم وبيان أهميته

اعلم ـ أخي المتفقه وفقني الله وإياك ـ:

أن العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجدَّ فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب.

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل: " احفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة، فعالم رباني، وعالم متعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، والمال ينقصه النفقة، ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته وصنيعه، وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة ".

فللعلم مقام عظيم في شريعتنا الغراء، فأهل العلم هم ورثة الأنبياء، وفضل العالم على العابد كما بين السماء والأرض.

فعن قيس بن كثير قال: قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال ما أقدمك يا أخي؟ فقال: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: أما جئت لحاجة؟! قال: لا.

ص: 60

قال: أما قدمت لتجارة؟! قال: لا.

قال: ما جئت إلا في طلب هذا الحديث.

قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر "(1)

والعلماء هم أمناء الله على خلقه، وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين

خطير؛ لحفظهم الشريعة من تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، والرجوع والتعويل في أمر الدين عليهم، فقد أوجب الحق سبحانه سؤالهم عند الجهل.

قال تعالى: " فاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ "[النحل/ 43]

وهم أطباء الناس على الحقيقة، إذ مرض القلوب أكثر من الأبدان، فالجهل داء،

وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإنما شفاء العي السؤال "(2)

(1) أخرجه الترمذي (2682) ك العلم عن رسول الله، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2159)

(2)

أخرجه أبو داود (336) ك الطهارة، باب في المجروح يتيمم، وابن ماجه (572) في المقدمة، باب في المجروح تصيبه الجنابة بلفظ " أولم يكن شفاء العي السؤال " وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (4362) وصحيح أبو داود (325)

ص: 61

ومرضى القلوب لا يعرفون مرضهم، كما أن من ظهر على وجهه برص ولا مرآة له لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره، والدنيا دار مرض؛ فكما أنَّه ليس في بطن الأرض إلا ميت، فكذلك ليس على ظهرها إلا سقيم، والأسقام تتفاوت وتتنوع، والعلم هو ترياقهم فتدبر. قال صلى الله عليه وسلم:" تداووا فإِنَّ الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواءً غير داءٍ واحدٍ: الهرم"(1)

أيها المتفقه ..

إنَّ القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة تفيض بالحث على طلب العلم وبيان أهميته وخطورته فمن ذلك:

1) قال الله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم "[آل عمران / 18]

فأهل العلم هم الثقات العدول الذين استشهد الله بهم على أعظم مشهود، وهو توحيده جل وعلا، وهذا هو العلم الحقيقي، العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته، وموجب ذلك ومقتضاه من الإيمان برسله وكتبه والإيمان بالغيب حتى كأنه مشاهد محسوس.

(1) أخرجه أبو داود (3855) ك الطب، باب في الرجل يتداوى، وابن ماجه (3436) ك الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (2930)

ص: 62

فهذه المزية الكبرى للعلم وأهله، أنَّه يدل على صراط الله المستقيم، أنَّه الوسيلة العظمى للقرب من الله تعالى، وموجب لإحاطة محبته بالقلب، فمتى عرفت الله اجتمع قلبك على محبته وحده جل وعلا؛ لأنَّ له وحده الأسماء الحسنى والصفات العلا.

فهذا هو العلم وهذه هي ثمرته. رزقنا الله وإياك الشجرة والثمرة إنه جواد

كريم

2) وقد بوَّب الإمام البخارى بابًا فقال: " باب العلم قبل القول والعمل"؛

لقوله تعالى: " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك "[محمد/19]

سئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك "[محمد/19] فأمر بالعمل بعد العلم.

فالعلم مقدم على القول والعمل، فلا عمل دون علم، وأول ما ينبغي تعلمه

" التوحيد " و "علم التربية " أو ما يُسمَّى بعلم " السلوك " فيعرف الله تعالى ويصحح عقيدته، ويعرف نفسه وكيف يهذبها، وأنت تلحظ هذا الارتباط بين العلم بالتوحيد " فاعلم أنَّه لا إله إلا الله " وبين التربية والتزكية التي من ثمارها المراقبة ودوام التوبة " واستغفر لذنبك "

3) والعلم نور يبصر به المرء حقائق الأمور، وليس البصر بصر العين، ولكن بصر القلوب، " فإنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى

ص: 63

القلوب التي في الصدور "

[الحج/46]؛ ولذلك جعل الله الناس على قسمين: إمَّا عالم أو أعمى فقال الله

تعالى: " أفمن يعلم أنَّما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى "[الرعد/19].

ولذلك عبَّر الله تعالى بفعل " رأى " دلالة على العلم في قوله تعالى: " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق "[سبأ /6] فلم يقل: " ويعلم " وهذا ـ والله أعلم ـ إشارة إلى العلم وأثره في القلوب، التي صارت به تبصر وترى الحق، ولا يلتبس عليها بالباطل.

وهذا واضح في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودا عُودا، فَأَيّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْل الصّفَا، فَلَا تَضُرّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالَاخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادا كَالْكُوزِ مُجَخّيا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرا، إِلاّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ "(1).

4) والعلم يورث الخشية

قال الله تعالى: " إنَّما يخشى الله من عباده العلماء "[فاطر/28]

(1) أخرجه مسلم (144) ك الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وإنه يأرز بين المسجدين.

ص: 64

وقال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا "[الإسراء /107 - 109]

5) وقد مدح الله أهل العلم وأثنى عليهم، فجعل كتابه آيات بينات في صدورهم، به تنشرح وتفرح وتسعد.

قال الله تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون "[العنكبوت/49]

6) وقد أمرنا الله تعالى بالاستزادة من العلم وكفى بها من منقبة عظيمة للعلم.

قال الله تعالى: " وقل رب زدني علمًا "[طه/ 114]

قال القرطبي: فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه

وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم.

7) والعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم أهل الذكر، الذين أمر الناس بسؤالهم عن عدم العلم قال الله تعالى:" فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون "[النحل/43]

8) وأخبر الله عن رفعة درجة أهل العلم والإيمان خاصة.

قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس

ص: 65

فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " [المجادلة /11]

9) والعلم أفضل الجهاد، إذ من الجهاد جهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الأئمة من ورثة الأنبياء، وهو أعظم منفعة من الجهاد باليد واللسان، لشدة مؤنته، وكثرة العدو فيه.

قال تعالى: " ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا "[الفرقان / 51 - 52]

يقول ابن القيم: " فهذا جهاد لهم بالقرآن، وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضًا، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومع هذا فقد قال تعالى: " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " ومعلوم أنَّ جهاد المنافقين بالحجة والقرآن.

والمقصود أنَّ سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم، ودعوة الخلق به إلى الله " (1)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو في منزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره "(2).

(1) مفتاح دار السعادة (1/ 70).

(2)

أخرجه ابن ماجه (227) في المقدمة، باب فضل العلماء، والحث على طلب العلم، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (186)

ص: 66

10) ولم يجعل الله التحاسد إلا في أمرين: بذل المال، وبذل العلم، وهذا لشرف الصنيعين، وحث النَّاس على التنافس في وجوه الخير.

عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها "(1)

11) ولا ينقطع عمل العالم بموته، بخلاف غيره ممن يعيش ويموت، وكأنَّه من سقط المتاع، أمَّا أهل العلم الربانيون الذين ينتفع بعلمهم من بعدهم فهؤلاء يضاعف لهم في الجزاء والأجر شريطة الإخلاص.

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له "(2)

12) وكل ما في الدنيا هالك وإلى زوال، تتنزل عليه اللعنات، والمرحوم من ذلك صنفان من النَّاس: أهل العلم وطلبته، والعابدون الذاكرون الله كثيرًا.

عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم "(3)

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري (73) ك العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم (816) ك صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه.

(2)

أخرجه مسلم (1631) ك الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.

(3)

أخرجه الترمذي (2322) ك الزهد عن رسول الله، وقال: حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1891)

ص: 67

13) وبالعلم يعظم أجر المؤمن، ويصحح نيته، فيحسن عمله، وإذا كان النَّاس لا يشغفون بالمال عن العلم، فإنَّ فضل العلم على المال أعظم، وقد فصل لنا الشرع في هذه القضية، فقد قسَّم رسول الله النَّاس على أصناف أربعة، جعل الناجين منهم صنفين، وهما من تلبث بالعلم.

فعن أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه.

قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر أو كلمة نحوها.

وأحدثكم حديثا فاحفظوه قال: إنما الدنيا لأربعة نفر:

عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل.

وعبد رزقه الله علما، ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء.

وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل.

ص: 68

وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء. (1)

والشاهد هنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلم الحقيقي هو العلم الذي يبصر المرء بحقائق الأمور، فصاحب المال إذا لم يتحلَ بالعلم فإنَّه سيسيء التصرف فيه، فتجده ينفقه على شهوات نفسه، ولا يعرف شكر هذه النعمة، ولذلك استحق أن يكون بأخبث المنازل، والعياذ بالله.

وجعل العالم يعرف قدر المال الحقيقي، فيم ينفق؟ فبعلمه نوى نية صالحة فصار بأعلى المنازل، وإن لم ينفق.

14) ومن رزق فقهًا في الدين فذاك الموفق على الحقيقة، فالفقه في الدين من أعظم المنن.

عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين "(2)

15) والعلم مقدم على العبادة، فإنَّ فضلا في علم خير من فضل في عبادة، ومن سار في درب العلم سهل عليه طريق الجنة.

أخرج البيهقي في سننه عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله أوحى إليَّ: أنه من سلك مسلكا في

(1) أخرجه الترمذي (2325) ك الزهد عن رسول الله، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1894)

(2)

أخرجه الترمذي (2645) ك العلم عن رسول الله، باب إذا أراد الله بعبد خيرًا فقهه في الدين، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2133)

ص: 69

طلب العلم سهلت له طريق الجنة ومن سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة وفضل في علم خير من فضل في عبادة وملاك الدين الورع " (1)

16) ويكفي صاحب العلم فضلاً أنَّ الله يسخر له كل شيء ليستغفر له ويدعو له

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

" صاحب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر "(2)

17) وطلبة العلم هم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيأتيكم أقوام يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحبًا بوصية رسول الله وأقنوهم "

قلت للحكم: ما أقنوهم؟ قال: علموهم. (3)

18) وأهل العلم الذين يبلغون الناس شرع الله تعالى هم أنضر الناس وجوهًا، وأشرفهم مقامًا، بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.

قال صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها، فرب حامل فقه غير فقيه، رب حامل فقه إلى من هو أفقه "(4)

(1) أخرجه البيهقي وصححه الألباني في صحيح الجامع (1727)

(2)

أخرجه أبو يعلى وصححه الألباني في صحيح الجامع (3753)

(3)

أخرجه ابن ماجه (247) في المقدمة، باب الوصاة بطلبة العلم، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (201)

(4)

أخرجه ابن ماجه (230) في المقدمة، باب من بلغ علمًا، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (187)

ص: 70

19) ومن شرف العلم وفضله أنَّ الله امتن على أنبيائه ورسله بما آتاهم من العلم، دلالة على عظم المنَّة.

فذكر نعمته على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى: " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك

عظيمًا " [النساء/113]

ووصف خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بأنَّه كان أمة، أي جامعًا لصفات الكمال من العلم والعمل.

قال تعالى: " إنَّ إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين شاكرًا لأنعمه "[النحل/ 120 - 121]

وقال جل وعلا عن نبيه يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: " ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين "[يوسف / 22]

وقال في كليمه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: " ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين "[القصص/114]

وقال في حق المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: " يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل "[المائدة / 110]

ص: 71

20) قال علي بن أبي طالب: ومن شرف العلم وفضله أنَّ كل من نسب إليه فرح بذلك، وإنْ لم يكن من أهله، وكل من دفع عنه ونسب إلى الجهل عزَّ عليه ونال ذلك من نفسه، وإنْ كان جاهلاً.

21) ومن فضل العلم أنَّ صاحبَه معتبرٌ قولُه في الشريعة، فهو الناطقُ بالحق في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد؛ لأنه أَبصرُ النَّاس بالخير والشر.

قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [النحل: 27]، وقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]. وهذا في قصة قارون، فالعلماءُ هم أبصرُ الخلقِ بمداخلِ الشرِّ؛ ولذلك كان لزامًا عليهم بيانُ ذلك للنَّاس.

قال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63].

22) ومن فضل العلم: أنَّ صاحبَه يصيرُ بمنزلة الشَّارع من وجهٍ.

- قال صلى الله عليه وسلم: "تسمعون ويُسمع منكم، ويُسمع مِمَّن يَسمع منكم"(1).

(1) أخرجه الإمام أحمد (1/ 321)، وأبو داود (3659) ك العلم، باب فضل نشر العلم، وابن حبان في صحيحه (77)، والحاكم (1/ 95) من حديث ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(2947).

ص: 72

- قال الإمام الشاطبي: "إنَّ العالم شارعٌ، من وجهٍ، لأنَّ ما يبلغه من الشريعة، إمَّا منقول عن صاحبها، وإمَّا مستنبط من المنقول.

فالأول: يكون فيه مبلغًا.

والثاني: يكون فيه قائمًا مقامَه في إنشاءِ الأحْكَامِ، وإنشاءُ الأَحكامِ إنما هو للشارعِ، فإذا كان للمجتهدِ إنشاءُ الأحْكَامِ بحسب نَظَرِهِ واجتهادهِ، فهو من هذا الوجه شارعٌ، واجبٌ اتِّباعُه والعملُ على وفقِ ما قاله، وهذه هي الخلافة على التحقيق" (1).

23) ومن فضل العلم وأهله: أن عليه مدار النجاة.

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشخص بصره إلى السماء ثمَّ قال: "هَذَا أوان يُخْتَلَسُ العلمُ مِنَ الناسِ حَتَّى لَا يَقدِرُوا منه عَلَى شيءٍ".

فقال زياد بن لبيد الأنصاريُّ: كيف يختلس منَّا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنَّه ولنقرِئنه أبناءنا ونساءنا.

فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ثكلتك أمُّكَ زيادُ، إن كنتُ لأعدَّكَ من فقهاءِ أهلِ المدينةِ، هذه التوراةُ والإنجيلُ عند اليهودِ والنصارى فماذا تغنى عنهم؟! (2).

(1) الموافقات (4/ 245).

(2)

رواه الدارمي (294) في المقدمة، باب من قال: العلم خشية وتقوى الله، والترمذي في سننه (2791) ك العلم، باب ما جاء في ذهاب العلم، وقال: حسن غريب.

ص: 73

فذهاب العلم بذهاب العلماء، إذ ذهابهم هو الهلاك الحقيقي للأمم.

قال ابن عباس: أتدرون ما ذهاب العلم؟ قالوا: لا.

قال: ذهاب العلماء (1).

وقال أيضًا-: "لا يزالُ عالمٌ يموتُ، وأثرٌ للحقِّ يَمْرُسُ، حتى يكثرَ أهلُ الجهلِ، وقد ذهب أهلُ العلمِ فيعملون بالجهلِ، ويدينون بغير الحقِّ، ويضلون عن سواءِ السَّبيلِ"(2).

24) ومن فضل العلم: أنَّه يُحتاج إليه في كل وقت وحين.

- قال الإمام أحمد: "الناسُ أحوج إلى العلمِ منهم إلى الطعام والشراب؛ لأنَّ الطعامَ والشرابَ يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثًا، والعلمَ يحتاج إليه في كلِّ وقتٍ"(3).

- فإنَ العلم نور الهداية، وبدونه لا يعلمُ كثيرٌ من الناس كيفية أداء الفرائضِ ولا اجتناب المحارم، ولا يعبدون الله على بصيرةٍ، فلولا العلم لفسد عملُ النَّاسِ، والعلماء في الأرضِ كالنجومِ يهتدى بها في الظلمات، وترجم الشياطين الذي يخلطون الحقَّ بالباطلِ، ويدخلون في الدين ما ليس فيه، وهم زينة الأرض، فإنهم النجوم على الحقيقة.

(1) رواه الدارمي في "سننه"(249) في المقدمة، باب في ذهاب العلماء.

(2)

رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(1/ 155).

(3)

ذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين"(2/ 256)،

ص: 74