الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعادةً لا يفقه النَّاسُ من الدقائقِ ما يوقعهُم في الخطإِ، كفقهِ المصالحِ والمفاسدِ مثلًا، وغالبًا ما تكونُ الفتن متعلقةً بالسياسةِ الشرعيةِ التي ليست كغيرِها من القضايا، بل تقومُ على الأخذِ بالمقاصدِ الشرعيةِ، والموازنةِ بين المفسدةِ والمصلحةِ وإقامةِ الدليلِ، وهذا متعذرٌ لطلبةِ العلمِ الصغارِ؛ إذْ هذا النوعُ من الفقهِ عزيزٌ، لاحتياجه لسعةِ علمٍ وخبرةٍ في دراسةِ الواقعِ وتطبيقِ النُّصوصِ الجزئيةِ.
وقصةُ نبيِّ الله موسى مع الخضرِ دليلٌ على هذه القاعدةِ المعتبرةِ، فقد كان يدفعُ الشَّر الكبير بارتكابِ الشر الصغيرِ، ويراعي أَخَفَّ الضررينِ وأكبرَ المصلحتينِ، وهذا من الفقهِ العزيزِ.
ولذلك يكثرُ الخطأُ في بابِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقاعدتُه مَبْنِيَّةٌ على أُسُسٍ، منها ألا يكونَ النهيُ عن منكرٍ مفضيًا لمنكرٍ أشدَّ منه، وعَزَّ في النَّاسِ مَن يراعي ذلك، ولذلك كان المردُّ الشرعيُّ في الفتنِ لأهلِ العلمِ خاصةً، بل إنَ الإنكارَ باللِّسانِ يكونُ لأهلِ العلمِ دونَ مَن سواهم مِمَّن لا يدري، فيلزمُ ردُّ هذه القضايا المُفضِيَةِ لإحداثِ فتنٍ في النَّاسِ لأهلِ الحَلِّ والعَقْدِ وهم العُلماءُ، فالزمْ هذا السَّبيلَ، فدونَه فتنٌ وبلايًا ومِحَنٌ، وكم مَرَّ المسلمون ببلاياتٍ لو صَدَروا عن قولِ أهلِ العلمِ لأَمِنوا تلك الغوائلَ.
القاعدةُ العاشرةُ: ليس أحدٌ إلا وتُكُلِّم فيه؛ فتثبَّتْ:
إنَّ رضا النَّاسِ غايةٌ لا تُدركُ، وليس إلى السلامةِ منهم سبيلٌ.
يقولُ الإمامُ الشافعيُّ: ليس إلى السلامةِ من النَّاسِ سبيل، فانظرِ الذي فيه صلاحُك فالزمْه (1).
قال الإمامُ الذَّهبيُّ: وقَلَّ مَن برز في الإمامةِ ورَدَّ على مَن خالفه إلا عُودِي، نعوذُ باللهِ من الهوى (2).
وقال أيضًا: فَمَنِ الذي يسلمُ من ألسنةِ النَّاسِ؟!! لكنْ إذا ثَبَت إمامةُ الرجلِ وفضلُه، لم يَضُرَّه ما قيل فيه، وإنَّما الكلامُ في العلماءِ يفتقرُ إلى وزنٍ بالعدلِ والورعِ (3).
وإذا قلبتَ تراجمَ العُلماءِ -سلفِهم وخلفِهم- ثَبَت لك بيقينٍ صدقُ هذه القاعدةِ، فما مِن أحدٍ إلا وتُكلم فيه، وامْتُحن: هذا الإمامُ البخاريُّ يُرمى في مسألةِ "اللفظ والصوت"، وهذا الإمام أبو حنيفة يُرمى بالإرجاء (4)، ناهيك عمَّن رُمي بالقَدَرِ أو التشيع.
قال الإمامُ البخاريُّ: ولم يَنْجُ كثيرٌ من النَّاسِ من كلامِ بعضِ النَّاسِ فيهم، وذلك نحوُ ما يُذكرُ عن إبراهيمَ من كلامِه في الشَّعبيِّ، وكلامِ الشعبيِّ في عكرمةَ، وكذلك مَن كان قبلَهم، وتناول بعضهم في العرضِ والنَّفْسِ، ولم يلتفت أهلُ العلمِ إلى ذلك، ولا سقطت عدالةُ أحدٍ إلا ببرهانٍ ثابتٍ وحُجَّةٍ. أهـ. والكلامُ في هذا كثيرٌ (5).
(1)"سير أعلام النبلاء"(10/ 42، 89).
(2)
المصدر نفسه (10/ 8 - 9).
(3)
المصدر نفسه (8/ 448).
(4)
انظر في هذه المسألة "الرفع والتكميل في الجرح والتعديل" للإمام اللكنوي (ص 352 - 383).
(5)
"جزء القراءة خلف الإمام"(ص 14)، "نصب الراية" للزيلعي (4/ 416).