الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان ينسخُ بأُجرةٍ، ويلتقط السنبلَ الذي تُخطِئُه المناجل، ويرهن نعلَه عند الخباز على طعام أخذه منه، ويبيع غزلًا تغزله له زوجه، ولربما أراد أن يرقع ثوبَه فلا يجد رقعةً، وربما يأخذ الكِسَرَ، ينفضُ الغبارَ عنها ويصيرها في قصعةٍ ويصبُّ عليها الماءَ، ثم يأكلها بالملحِ، فهذا طعامُه.
وأرك -أيها المتفقه- ربَّما تهمسُ أو تحدثك نفسُك تقولُ: هؤلاء سَلفُ الأمةِ، وقد تبدَّلَ الزمانُ، فإني آتيك بشهداء من عَصْرك يقيمون عليَّ وعليك الحُجة.
فقد رأيتُ بعيني رأسي شيخَنا العلامةَ ابنَ عثيمين وهو يمشي حافيًا، وهو من هو، وفي أي بلدة كان، وكان يأكل الخبزَ الجافَّ بالماءِ، ويُطعمُ إخوانه اللحمَ.
ومن علاماتهم أيضًا:
4 - ثناء جماهير النَّاسِ عليهم، وشهرتُهم في الآفاقِ
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيميةّ رحمه الله: "ومن له في الأمةِ لسانُ صدقٍ بحيث يُثنى عليه ويحمد في جماهير أجناسِ الأمة، فهؤلاء أئمةَ الهدى ومصابيحُ الدُّجى"(1).
فالمسلمون هم شهداءُ اللهِ في أرضه، وفي الحديث أنَّ صحابةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَروا بجنازةٍ فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"وَجَبَتْ". ثمَّ مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًا فقال: "وَجَبَتْ".
(1)"مجموع الفتاوى"(11/ 43).
فقال عُمر رضي الله عنه: ما وَجَبَتْ؟!!
قال: "هذا أَثنيتُم عليهِ خيرًا فَوَجبَتْ له الجنةُ، وهذا أَثنْيتُم علية شرًّا فوجبتْ له النارُ، أنتم شهداء الله في الأرض".
وفي رواية: "المؤمنون شهداءُ اللهِ في الأرضِ"(1).
ولا شك أنَ المرادَ هنا من ثناءِ النَّاسِ الإشارةُ إلى أهلِ الفضلِ والثقاتِ منهم، إذ قد يُشْكِل على بعضِ القومِ شهرةُ مَن ليس من أهلِ هذا الشأنِ، فالشُّهرةُ مسألةٌ نسبيةٌ، وكم من العلماءِ مَن آثر الخمولَ فلم يَشْتَهِرْ أمرُه، ولكن يأبى اللهُ إلا أن يقيمَ الحجةَ على خلقِه بإظهارِ أولي العلمِ بينهم.
وقد دَأَب علماءُ المسلمين من سَلَفِ هذه الأمةِ ومن تبعهم بإحسانٍ
على عدمِ السماحِ بتصدرِ التلاميذِ حتى يَرَوْا أنَّهم جديرون بذلك، ولذلك ما اشتهر بينهم إلا من يستحقُّ!!
قال الإمامُ مالكٌ: لا ينبغي لرجل يَرَى نفسَه أهلًا لشيءٍ حتى يسألَ مَنْ كان أعلمَ منه، وما أفتيتُ حتى سألتُ ربيعةَ ويحيى بنَ سعيدٍ فأمراني بذلك، ولو نَهَيَاني لانتهيتُ.
(1) متفق عليه أخرجه البخاري (2499) ك: الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، ومسلم (949) ك: الجنائز، باب فيمن يثنى عليه خيرًا أو شرًّا من الموتى.