الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنطلق التاسع
تكوين الملكة الفقهية
المنطلق التاسع
تكوين الملكة الفقهية
أيها المتفقه: ـ حبيبي في الله ـ
دائمًا ما أردد أنَّ جهودنا الدعوية التي بذل فيها الغالي والنفيس للأسف الشديد لم تنتج لنا ما كنا نحلم به في جيل الصحوة، فلم نرَ فقيهًا بمعنى الكلمة، ولم نجد المجتهد الذي يتعامل مع الواقع المتغير بمنهجية سلفية محضة، وليس هذا على سبيل التجوز أو الادعاء، وإلا فقد صدق من قال: عالمنا طالب علم عند السلف، وطالب العلم عندنا عامي عندهم.
إننا بحاجة ماسة لوجود هذا الفقيه المنشود، الذي تربى على الأخذ بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، الذي يستطيع التعامل مع واقعنا المعاصر، وأنت تدري حجم الأزمات الفقهية الطاحنة التي يمر بها المسلمون في هذا الزمان، فكلما خرج علينا أهل العلوم التجريبية بنظرية أو اكتشاف ما، وبدا أنه يتعارض مع نصوص الوحي الرباني من جانب تجد صراعًا مريرًا بين الطائفتين، ولك أن تتذكر مثلاً المشكلات الطبية التي ما زالت تحظى بجدل فقهي كبير في هذا العصر
كقضية
…
" نقل الأعضاء "، وقضية " الختان للإناث "، وقضية " الاستنساخ "، ولك أن تنظر إلى الصراع الذي يدور كل عام بين الفلكيين وعلماء الدين حول رؤية هلال رمضان، أضف إلى هذا القضايا الاقتصادية كالتعامل مع البنوك، وشركات التأمين بكل صوره، والتعامل مع بورصة الأوراق النقدية، وغير هذا من القضايا التي تلحظ دائمًا فيها افتقاد الأمة للفقيه الذي يجمع بين الحسنيين، أعني قراءة النص، وقراءة الواقع بفهم سلفي صحيح.
وقد حثنا الله تبارك وتعالى للتفقه في دينه، وجعله من فروض الكفايات، فالأمة كلها تأثم إذا لم يوجد فيها هذا النمط المنشود من الفقهاء.
قال تعالى: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون "[التوبة /122]
وقال صلى الله عليه وسلم: " من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين "(1)
فمحض منة من الله تبارك وتعالى أن يرزق العبد تلك الملكة الفقهية، ولكن تعالوا لنتساءل: ما السبيل إذاً؟ وما هو المطلوب من هذا الفقيه المنشود وسط هذه التحديات؟
فبادئ ذي بدء،
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري (71) ك العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ومسلم (1037) ك الزكاة، باب النهي عن المسالة.
ما هي حقيقة الفقه؟
أيها المتفقه ـ حبيبي في الله ـ:
الفقه الحقيقي هو: امتلاك القدرة على ما يسمى في المصطلح الفقهي بـ " تحقيق المناط "، أو القدرة على تجريد النص من قيد الزمان والمكان، والاجتهاد في تنزيله على واقع الناس، ومعالجته لمشكلاتهم.
فليس الفقه في حفظ كتاب أو سرعة استذكار مسألة مع العجز ـ مثلاً ـ عن إيجاد وتوليد مثال غير مثال الأقدمين، والذي ما زلت تراه في كل كتاب تقرأه، وكأنَّ الفقه صار محصورًا في بعض المسائل القديمة.
وإنما نعني بالفقه الإدراك العميق لمقصود الشرع، والإلمام بالواقع عن طريق معرفة الأسباب، ومعرفة السنن الربانية والكونية، واستيعاب حقائق الماضي، في ظل مواجهة واقعية، فليس بفقيه من عاش بمعزل عن الناس، ولم يبصر ما يعانونه، ولم يدرك الملابسات والتفاصيل التي تحيط بكل منهم.
وقد قال الله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء "[الأنعام /38]
…
فالدين يشمل كل جوانب الحياة، ولعل هذا من أخطر ما يعاني منه المسلمون الآن، أعني إدراك هذه الحقيقة والتعامل من منطلقها في دراسة كل مشكلاتهم، لأنَّه بسبب تيارات " الغزو الفكري " تعرضت لزعزعة هذا الأصل الأصيل في تعاملها مع الواقع، فلم يعد الدين هو صاحب الكلمة الأولى، ولم يعد له الفصل في جميع المسائل،
ومع تقاعس الفقهاء عن اللحاق بمستجدات عصرهم، ظهرت هذه الإشكالية، وصار في الناس من يقسِّم الدين إلى قشور ولباب، فافتقدنا أول الأصول وقاعدة الارتكاز أعني " شمولية الدين ".
إنَّ غياب الرؤية الإسلامية أو الفقه الشامل عن أي موقع وعدم امتداده له يعني وجود الفراغ الذي يسمح بوجود " الآخر " ليصنع للناس رؤيتهم، ومن هنا ينبغي أن نعود لتوسيع معنى الفقه، فلا يقف عند حدود " التشريعات " بل نحن في أمس الحاجة الآن إلى علم أصول فقه:" تربوي " و" اجتماعي " و" سياسي "
…
و" اقتصادي " و" معرفي " بشكل عام؛ ليغطي جميع شعب المعرفة وجوانب الحياة، ولا يقتصر على الجانب التشريعي فقط.
ولعل من قبيل نفس الملاحظة أنَّ الأصوليين عندما تكلموا في شروط المجتهد، ومنها إلمامه بكتاب الله عز وجل، تباينت وجهات نظرهم في هذا الجانب فحصر بعضهم هذا الإدراك في نطاق آيات الأحكام، وهذا ما يمثل
…
" الوقوف عند الجانب التشريعي فحسب " بينما كانت النظرة الأوفق للصواب تدعو لضرورة إلمامه التام بجميع آيات الذكر الحكيم لماذا؟
لأنَّ آيات القرآن كلها آيات أحكام فمنها: أحكام تربوية وأخلاقية، ومنها أحكام اجتماعية، ومنها أحكام سياسية، وهكذا فحصر الفقه في جانب دون آخر يبعدنا عما ننشده في فقيهنا المعاصر، فإنَّ هذا كان موجود في سلفنا، وآراؤهم تشهد بهذا، لكن يوم غاب عنَّا هذا الفهم
الشمولي اختزلت نصوص الشرع لتنأى عن الواقع، وهذا لم ليحدث في أمة شهدت حضارة ضخمة امتدت عبر مئات السنين واتسعت لبيئات مختلفة وأجناس متباينة.
انظر مثلا: لقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار "[الحشر/2] بين الفهم التشريعي والفهم الشمولي، فإنَّ الأصوليين استدلوا بهذه الآية على
…
" القياس " باعتباره أحد أدله الفقه، والآية واضحة في مخاطبة أهل الإيمان بالاسترشاد بسنن الله في الكون، وأخذ العبرة والعظة من حال الأمم السابقة، إنها أصل فيما يمكن تسميته بالفقه السياسي أو الاجتماعي.
كذا قوله تعالى: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون "[التوبة /122] فالفقه هنا لا يقتصر على
…
" الفقه التشريعي " وإنما أعم من ذلك، ولعل من أدلة ذلك التعبير بـ " النفرة " التي تتناسب مع دخول الميدان ودراسة الواقع.
وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم المأثور لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " وأنت تلحظ أنَّ المقصود ليس هو الفقه التشريعي الذي يشمل أبواب العبادات والمعاملات والجنايات ونحوها، وإنما الفقه الذي يشمل فقه