المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة فضيلة الشيخ / محمد صفوت نور الدين

- ‌فضل العلم وبيان أهميته

- ‌ماذا نعني بالعلم؟ وكيف يطلب

- ‌حقيقة الإخلاص

- ‌زبدة الكلام وخلاصة الختام

- ‌فائدة مهمة

- ‌المنطلق الثانيعلو الهمة

- ‌علامات الهمة العالية

- ‌1) طلب المعالي من الأمور

- ‌من نوادر الرحلات

- ‌ومن أخبار الرحَّالة المشائين للطلب

- ‌كيفية علو الهمة

- ‌أسباب شتات الهمَّ

- ‌المنطلق الثالثماذا نتعلم

- ‌نصيحة غالية

- ‌ أولاً:التوحيد

- ‌ثانياً: الفقه

- ‌ثالثاً: أعمال القلوب:

- ‌المنطلق الرابعالتَّزكية

- ‌حقيقة التزكية

- ‌فصل: التلطف بالنفس

- ‌فصل العلم والعمل

- ‌ ما هي العقيدة

- ‌أبرز قضايا العقيدة السلفية

- ‌خصائص أهل السنة والجماعة وسماتهم

- ‌كيف نطلب علم الفقه

- ‌قواعد وتنبيهات على أصول الأحكام

- ‌حكم التقليد

- ‌هل يستحسن ذكر الدليل للمستفتي

- ‌دعوة سلفية محضة

- ‌خلاصة الكلام

- ‌المنطلق السابعمِمَّن نطلبُ العلم

- ‌ علامةُ أولي العلمِ ممن يَشْتَبِه بهم

- ‌1 - رسوخُ القَلَمِ فى مواطنِ الشُّبَهِ

- ‌2 - أنَّهم يُعرفون بنُسُكهم وخشيتهم لله تعالى

- ‌3 - أنهم أكثرُ النَّاس استعلاءً على الدنيا وحظوظِها

- ‌4 - ثناء جماهير النَّاسِ عليهم، وشهرتُهم في الآفاقِ

- ‌5 - أن يكون ممن تربى على أيدي الشيوخِ

- ‌أيها المتفقه:

- ‌6 - يقول الإمام الشاطبي: " وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات

- ‌7 - ظهورُ أثرِ علمِهم من خلالِ دروسِهم وفتاويهم ومؤلفاتِهم:

- ‌فصلفي التفريقِ بين العلماءِ ومَنْ دونَهم

- ‌ طرق التعلم

- ‌الطريق الثاني:

- ‌ذكر طائفة من سلفنا ممَّن كثرت شيوخه

- ‌المنطلق الثامن: الأدب

- ‌آداب طالب العلم

- ‌أولا: طهارة القلب

- ‌ثانيُا: الرضا باليسير

- ‌ثالثًا: التواضع للعلم والعلماء

- ‌رابعًا: أداء حقوق معلمك عليك

- ‌خامسًا: التحلي بآداب مجلس العلم

- ‌سادسًا: أدب سؤال العالم

- ‌سابعًا: عدم التسويف واغتنام الأوقات

- ‌قواعد في التعامل مع العلماء

- ‌القاعدةُ الأولى: موالاةُ العلماءِ ومحبتُهم:

- ‌القاعدةُ الثانيةُ: احترامُ العلماءِ وتقديرُهم:

- ‌القاعدةُ الثالثةُ: السَّعيُ إلى العلماءِ والرحلةُ إليهم طلبًا لعلمِهم:

- ‌القاعدةُ الرابعةُ: الصبرُ على العلماءِ وشدتِهم أحيانًا:

- ‌القاعدةُ الخامسةُ: رعايةُ مراتبِ العلماءِ:

- ‌ومن مراعاةِ مراتبِ العلماءِ:

- ‌القاعدةُ السَّادسةُ: حَذَارِ من القدحِ في العلماءِ:

- ‌القاعدةُ السابعة: احذرْ من تخطئةِ العلماء بدونِ علمٍ:

- ‌القاعدةُ الثامنةُ: التمس للعالمِ العُذْرَ:

- ‌القاعدةُ التَّاسعةُ: الرجوعُ إلى العلماءِ والصُّدورُ عن رأيهم خصوصًا في الفتنِ:

- ‌القاعدةُ العاشرةُ: ليس أحدٌ إلا وتُكُلِّم فيه؛ فتثبَّتْ:

- ‌القاعدةُ الحاديةَ عشر: الاعتبارُ في الحكمِ بكثرةِ الفضائلِ:

- ‌القاعدةُ الثانيةَ عشر: احذرْ من زلاتِ العلماءِ:

- ‌القاعدةُ الثالثةَ عشرَ: كلامُ الأقرانِ يُطْوَى ولا يُرْوَى:

- ‌أيها المتفقه:

- ‌القاعدةُ الرابعةَ عشرَ: العَدْلُ والإنصافُ شرطٌ لازمٌ للحُكمِ على أهلِ العلمِ والاجتهادِ:

- ‌فيا أيها المتفقه:

- ‌القاعدةُ الخامسةَ عشرَ: ثِقْ في أهلِ العِلْمِ، فإنهم أئمةُ الهُدى ومصابيحُ الدُّجَى:

- ‌فيا أيها المتفقه

- ‌المنطلق التاسعتكوين الملكة الفقهية

- ‌ الملكة الفقهية

- ‌كيف يمكن تنمية هذه الملكة

- ‌آفات الملكة الفقهية

- ‌المنطلق العاشر(من أين نبدأ

- ‌منهج للمبتدئين في التربية

- ‌أولاً: القرآن الكريم

- ‌ثانياً: الصلاة

- ‌1 - الفرائض:

- ‌2 - النوافل:

- ‌عبودية المال

- ‌المنهج في طلب العلوم الشرعية

- ‌الجدول العلمي في كل فن

- ‌أولاً: القرآن الكريم

- ‌ أحكام التلاوة والتجويد

- ‌ أصول التفسير

- ‌ كتب التفسير

- ‌ثانيًا: علوم السنة

- ‌دواوين السنة

- ‌ مصطلح الحديث

- ‌ثالثًا: علم التوحيد أو العقيدة

- ‌ بعض المباحث المهمة:

- ‌رابعًا: الفقه

- ‌خامسًا: أصول الفقه

- ‌كيف تطلب علم الأصول

- ‌سادسًا: علوم اللغة

- ‌أيها المتفقه

الفصل: ‌ الملكة الفقهية

السنن الربانية والفهم عن الله تبارك وتعالى، فقه الحياة بشتى صورها، وليس المقصود بـ " التأويل " التفسير والبيان كما اعتدنا فهمه، بل التأويل يعني البصر بالعواقب والنتائج والمآلات، إنه إدراك للسنن الفاعلة في الحياة وتحولاتها الاجتماعية وقانونها الرباني.

فهذا ما نعنيه بالفقه أعني " الفقه الحضاري "، الفقه الذي يغطي جوانب الحياة، الفقه الذي يتماشى مع شمولية الدين، وصلاحيته لكل زمان ومكان،

" فقه السنة " بمعناها العام الذي يعني الطريقة المطردة والقانون الناظم، أي فقه تقويم الحاضر بقيم الدين في ضوء كل الظروف المحيطة.

وفي ضوء هذا المعنى نحتاج إلى بيان المقصود بـ "‌

‌ الملكة الفقهية

" كمقدمة لمعرفة طرق تكوينها واكتسابها.

الملكة الفقهية

الملكة في معناها اللغوي تدور حول الدلالة على القوة والرسوخ، ومعناها في اصطلاح أهل العلم ليس بمنأى عن ذلك فقالوا: هي " صفة راسخة في النفس "، هذه الصفة تعين الإنسان على سرعة البديهة في فهم الموضوع.

وهذه الصفة هبة من عند الله ومن هذا قول الإمام مالك: ليس الفقه بكثرة المسائل، ولكن الفقه نور يؤتيه الله من يشاء من خلقه.

ص: 324

وهذه الصفة تنمو بالاكتساب عن طريق الإحاطة بمبادئ العلوم والإلمام بقواعده، وهي تبدأ ضعيفة ثمَّ تقوى بالرعاية والتدرج، ولذلك فإنَّ حصول هذه الملكة يحتاج إلى نوع من الدربة والتدرج في التلقين والتعلم.

وعلى هذا فإنَّ صاحب الملكة الفقهية من يكون الفقه له سجية، وعنده قوة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مآخذها.

وهذه الملكة لها أنواع:

فمنها: فقه النفس وهو غريزة لا تتعلق بالاكتساب، وتورث صاحبها شدة الفهم لمقاصد الكلام.

ومنها: القدرة على استحضار الحكم الشرعي العملي في مظنته الفقهية.

ومنها: القدرة على استنباط هذا الحكم الشرعي، عن طريق التضلع بالعلوم الشرعية وعلوم اللغة مما هو ضروري للاجتهاد.

ومنها: القدرة على تخريج الفروع على الأصول والترجيح بين الآراء،.

وقد يعبر عن هذه الملكة بـ " البصيرة " أو " الحكمة " أو " الاجتهاد " وبينهم من التداخل والتباين ما بينهم، والفقيه المطلوب ـ والذي نرجوه ـ هو الذي تجتمع له كل هذه الأنواع من الملكات؛ لأنَّه بحاجة إلى مجموعها،

ص: 325

ففقه النفس يعينه على القيام بأمر الله تعالى في نفسه وأهله، ومن حولهم، وفي فتاويه للنَّاس، فإنَّه يعلم بحاله حالهم، فتكون فتاويه ونصائحه موفقة لا ملفقة.

وملكة القدرة على الاستنباط لأنَّ نصوص الشرع تنحصر والنوازل لا تنحصر، فأحكام الدين تؤخذ بالاستنباط من الأدلة، وهذا هو الفقه الحقيقي، فليست القضية في حفظ النصوص واستحضارها، ولكن في تنزيل هذه الأحكام بفقه النفس وملكة الاستنباط في استخراج الحكم الذي يرضي الله ورسوله، فقد قالوا: أنَّ الفقيه هو الذي أحاط علمًا بالشريعة، فيستخرج الحكم من مجموعها.

وأيضًا ملكة الترجيح بين الآراء ملكة خطيرة، فهو لا يتعصب لمذهب ولا لشخص ولا يحكمه الهوى، فلا يتابع أحدًا في كل أقواله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك هو مجتهد حقيقة، وهذا المجتهد له ملكة حقيقية، تبين له الصحيح من المزيف من الأقوال كالصيرفي الماهر، فهو حين ينظر في أقوال الناس يعرف مآخذ العلماء ويتبين له مشاربهم، فيتوجه الأمر لديه بالترجيح الصحيح بينهم، وقد مر بنا مرارًا قول رسول صلى الله عليه وسلم " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين "(1)

(1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/ 38)، قال في كنز العمال: قال الخطيب سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث وقيل له كأنه كلام موضوع قال لا هو صحيح سمعته من غير واحد.

ص: 326

كيف تتكون هذه الملكة؟

لتكوين الملكة الفقهية شروط هي:

أولاً: الاستعداد العقلي والقلبي والشخصي للمتفقه.

فأما استعداده العقلي فينبغي أن يكون المتفقه ذكيًا، قوي المدارك، يعرف مقتضى الكلام ومعناه، عنده ملكة جيدة في الحفظ والاستذكار، ولذلك كانوا يبدأون بحفظ القرآن لصقل هذه الملكة عند طالب العلم، وليعتاد ذلك منذ الصغر وتقدير مقوماته الإدراكية، فضلاً عن النور الذي يبعثه القرآن في صدره.

وأما استعداده القلبي والخلقي فأعني أن يكون المتفقه صافي النفس من أدران الدنيا وشوائبها، مخلصًا في طلب الحق والمعرفة، عدلا يجتنب المعاصي ويلتزم بالطاعات، متحليًا بصفات المروءة

وقد كان سلفنا الصالح يختبرون المتعلم أولاً، فإن وجدوا فيه خلقًا رديئًا منعوه؛ لئلا يكون آلة فساد، وإن وجدوه مهذبًا علموه، ولا يطلقونه قبل الاستكمال خوفًا على فساد دينه ودين غيره.

أما استعداده الشخصي فإن تكوين الملكة الفقهية يحتاج إلى كبير همة وجد ومثابرة وصبر على ذل التعلم، فالمتفقه لا يترك لحظة دون تعلم واستكثار من ميراث النبوة، وتعاهده بالحفظ، والمذاكرة المستمرة

قالوا: العلم ما ثبت في الخواطر لا ما حوته الدفاتر.

ص: 327

ثانيًا: المعلم الحاذق القدوة

لا شك أنَّ وجود المعلم المربي من أركان هذا البناء، فنحن في حاجة إلى شيخ متقن لعلمه متمكن فيه ملم بآفات النفوس ويحسن تهذيبها، وفي ظل افتقاد الأمة لهذا الرجل القدوة تظل الإشكالية مطروحة، ومن هنا علينا إيجاد هذه النماذج في الأمة، والبحث عنها، والاستكثار منها، وتأهيل القائمين على العملية التعليمية وفق منهج علمي صحيح ليكثر سواد هؤلاء المعلمين.

فمن شرطه:

1) أن يكون معروفًا بالديانة والستر والصيانة، وإلا فإنَّ أخطر وبال على طالب العلم أن يتلقى تعليمه من أهل المعاصي والفسوق، فيشب الفتى متلطخًا بما رباه عليه أستاذه بحاله قبل مقاله.

قال محمد بن سيرين: إنما هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.

2) أن يكون بصيرًا بطريقة التلقين والتعليم بحسب مرحلة الطالب وقدرته، ماهرًا في عرض المادة العلمية، لديه القدرة على الإيضاح بوسائل شتى، عاملاً على صقل مواهب تلاميذه.

ص: 328

ثالثًا: اتباع منهج علمي أصيل

من المقومات الأساسية للملكة الفقهية وجود منهج دراسي أصيل يتلقاه المتفقه في مراحل دراسته، ويتمثل في العلوم الأساسية التي ينبغي له أن يدرسها وهي:

1) معرفة القرآن وعلومه.

فالقرآن أقوى شيء في تكوين الملكة الفقهية، وبناء الأخلاق والنفوس، قال الشاطبي رحمه الله:" إن الكتاب قد تقرر أنَّه كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه لأنه معلوم من دين الأمة، وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة، وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها: أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرًا وعملاً، لا اقتصارا على أحدهما، فيوشك أن يفوز بالبغية، وأن يظفر بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول "(1)

فالقرآن الكريم لا يخلق بكثرة النظر، وكلما نظر الإنسان فيه ازداد علمًا وفقهًا، فعلى المتفقه أن يحفظ القرآن الكريم أولاً وقبل أي شيء

(1) الموافقات (3/ 346)

ص: 329

آخر، ويتقن تلاوته، فيلم بعلم التجويد، ولا يتعجل ويرمي إلى دراسة الفقه وعلومه قبل أن يكون أتم حفظ القرآن الكريم.

ثمَّ ينهل من معين علومه قسطًا فيعرف الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، والقراءات القرآنية.

2) معرفة السنة وعلومها.

فيبدأ بحفظ بعض المتون المختصرة كالأربعين النووية ونحوها ليتسع محصوله من السنة شيئًا فشيئًا بعد ذلك.

ويلم بعلوم الحديث، فيعرف " أسباب ورود الحديث " و" الناسخ

والمنسوخ " و" الجرح والتعديل " يلم من ذلك بطرف.

وثمَّ مسالة مهمة في هذا وجب التنبيه عليها، وهي أنَّ الصحوة لما قامت وبينت أهدافها في لزوم رجوع الأمة إلى المعين الصافي من الكتاب والسنة، واكب ذلك اهتمام عظيم بعلوم السنة بفضل مجدد العصر عليه رحمات الله

الشيخ / محمد ناصر الدين الألباني، وكثر الباحثون في هذا المجال بفضل الله تعالى، ولكن مع ظهور الفهارس العلمية ناهيك عن التقنيات الحديثة الآن دخل في هذا المضمار من ليس أهلاً له، والشيخ رحمه الله شنَّ عليهم حملات متتابعة تشهد بذلك مقدمات مصنفاته الأخيرة، ولكن اختلط الحابل بالنابل، وصار ديدن

ص: 330

البعض لا يخرج عن فلك " مصطلح الحديث " و " تحقيق وتخريج الأحاديث " تحت الزعم بأنَّه نشر للسنة، والواقع يكذب ذلك، ومن ثمَّ لابد من ترشيد طلاب العلم في هذا الجانب، فلا يكون جل اهتمامه في علم واحد، ويترك حفظ القرآن وتعلم أبواب الفقه والإلمام بالأصول وإتقان اللغة، ولعل هذا من واجبات " الجيل الثاني " الذي لم تبدُ بعدُ معالمه منذ رحل العلامة الشيخ الألباني رحمه الله

وعلى طالب العلم أنْ يبدأ في التعرف على كتب السنة وطرق مصنفيها، ليعرف كيفية استخراج الحديث من هذه الكتب، وفي ظل وجود الحاسب الآلي وغيره من التقنيات الحديثة فإني لا أنصح بالتعامل مع هذه الوسائل إلا بعد أن يكتسب طالب العلم مهارة التخريج من الكتب، وهذا ليس من قبيل التعسير، بل هذا من محض التجربة، نعم نحن لا نقلل من هذه التقنيات وأنها وسيلة بحثية جيدة، لكن لا يبدأ بها طالب العلم، وإلا فإنها ستهدم ملكة البحث والتنقيب عنده، والتي لها من المزايا ما لا يدركه إلا من جرب ذلك.

فاجمع بين الأمرين، تدرب جيدًا مع الكتب، ثمَّ استخدم هذه التقنيات بعد أن يرسخ قدمك، فسوف تجد من المنفعة ما لا يعرفه إلا خبير بهذا الشان.

وينبغي أن تمتد صلتك بالمتون إلى الشروح، والانتفاع بما فيها من علم غزير، وعادةً سوف تكون هذه المراجع بغيتك في فترة لاحقة، ولكن في البداية استأنس بها، ثمَّ عندما تستكمل أدواتك فسوف يعظم قدر هذه الكتب عندك بعد ذلك.

ص: 331

3) معرفة علوم اللغة.

ينبغي للمتفقه أن يلم بعلوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وأدب؛ ليتمكن من فهم نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية حق الفهم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " إنَّ تعلم اللغة العربية من الدين، وإنَّه فرض واجب لفهم مقاصد الكتاب والسنة ومراد الشارع من خطابه، فإنَّ فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان غلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب "(1)

أما الشاطبي رحمه الله فيقول: " الشريعة عربية، وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم؛ لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئًا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ولا كان قوله فيها مقبولا، فلا بد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها كالخليل وسيبويه والأخفش والجرمي والمازني ومن سواهم "(2)

(1) اقتضاء الصراط المستقيم ص (207)

(2)

الموافقات (4/ 115).

ص: 332

فالشاطبي رحمه الله جعل مدار علوم الاجتهاد على أمرين:

1) الإلمام بعلوم اللغة

2) البصر بمقاصد الشريعة.

ولكنه يرى أنَّه ينبغي أن يستفرغ المتفقه الوسع في تحصيلهما حتى يصل في اللغة ـ مثلاً ـ كما يقول هو: إلى درجة الخليل وسيبويه والاخفش ونحو من فحول علماء اللغة.

وإن كان في هذا نوع تجوز إلا أنه يفيدنا هنا خطورة دور اللغة وصلتها الوثيقة بالعلوم الشرعية.

وعلى كل حال ينبغي لطالب العلم أن يبدأ بدراسة متن من متون النحو كالأجرومية ثمَّ يثني بكتاب كـ " قطر الندى " أو " شذور الذهب " لابن هشام، ثمَّ يترقى إلى شروح ألفية ابن مالك كشرح ابن عقيل أو الأشموني وحاشية الصبان عليها، إلى أن يصل لدراسة " مغني اللبيب " لابن هشام أيضًا.

وفي الصرف يحفظ الشافية، ويلم بشروحها.

وفي البيان يبدأ بالكتب اليسيرة كالبلاغة الواضحة، وينتقل للمتون كتلخيص المفتاح للخطيب القزويني، ومن اخطر ما كتب في هذا الفن كتب عبد القاهر الجرجاني لا سيما " دلائل الإعجاز " و" أسرار البلاغة "

ص: 333

4) دراسة الفروع الفقهية.

وهي دراسة الفقه بمعناه "التشريعي " بمعرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية في كتاب الله أو سنة رسول الله أو الإجماع أو بالقياس وغيرها من الأدلة الشرعية.

والمتفقه ينبغي أن يحفظ مختصرًا في الفقه على مذهب من المذاهب، يتلقاه على شيخ حاذق، ثمَّ بعد ذلك يبدأ في التوسع مرحليًا، وقد رتب أهل العلم الكتب التي يبدأ بها طالب العلم ثم بماذا يثني في مرحلة التوسط ثمَّ ماذا يقرأ في مرحلة الاستقصاء والانتهاء وهكذا

فمثلاً: في الفقه الحنبلي ألف ابن قدامة رحمه الله " عمدة الأحكام " للمبتدئ ثمَّ " المقنع " لمن هو أعلى منه ثمَّ " الكافي " ثم في النهاية " المغني " وهكذا.

وينبغي على طالب العلم ألا يتعدى مرحلة دون أن يصل إلى رسوخ القدم فيها، ولا عليه أن يتعرض للفقه المقارن في البداية فإنَّه مدعاة لتشويش ذهنه بالخلافيات فتدبر ذلك فكم زلت أقدام بسبب عدم سماع النصيحة في ذلك فإلى الله المشتكى.

5) الإلمام بعلم أصول الفقه والقواعد الفقهية

وهذا أهم العلوم للفقيه، وهو الآلة التي يتوصل بها للاجتهاد، وهذه الدراسة تكون بعد أن يلم طالب العلم

ص: 334

بمختصر من المختصرات الفقهية، وبعد أن يلم بطرف من العلوم اللغوية إذ منهما يستمد.

" واعلم أنَّ هذا الفن طويل عميق، لا تحصل البضاعة منه إلا في مدة متطاولة "(1) وقد أدخل المتأخرون فيه من الكلاميات والجدليات ما جعله يعسر على كثير من شداة هذا الفن، ولكن ثمة جهود تبذل الآن لتنحية مثل هذه الكلاميات عن صلب العلم، وهناك بعض الكتب الجيدة في هذا الباب.

والفائدة التي تعود على المتفقه من تعلمه الأصول أنَّه ينمي ملكته فتبدأ في حصر المتفرقات وضبطها، وتربي عنده ملكة الاستنباط، وتبصره بطريقة التعامل مع النصوص لاستخراج الحكم الفقهي.

6) معرفة مقاصد الشريعة الإسلامية.

ونعني بها المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، ومن المعلوم أن المتفقه لا يدرك ذلك إلا بعد أن يغوص في العلوم الشرعية حتى يبدأ في فهم سنن الله الكونية والدينية ويستصحب ذلك

(1) ترتيب العلوم للمرعشي ص (157) ط دار البشائر الإسلامية.

ص: 335

فتعينه على الترجيح بين الأدلة المتعارضة والجمع بينهما، ورد المتشابه إلى المحكم، وقراءة الواقع وتدبره وفق أصول صحيحة، وكم من مسائل فقهية لا يمكنك أن تنتهي فيها إلى رأي جازم دونما استصحاب هذه المقاصد الشرعية.

ومن البدهي أن نقول: إنَّ الإمام الشاطبي هو فارس هذا الميدان، وقد سطر من بعده الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي بعد الدراسات القيمة أيضًا، لكن ما ينبغي التنبيه إليه أنْ إحاطة المتفقه بهذه المقاصد على الوجه المرجو لا تكون إلى بعد رسوخ قدمه في العلوم الشرعية ـ كما تقدم بيانه ـ فانتبه.

7) فهم الواقع المعاصر.

لابد للمتفقه أن يكون ملمًا بواقعه المعاصر، مدركًا للتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحدث في زمانه، ولا يجوز له بحال من الأحوال تجاهلها، لأنَّه حينئذٍ لن يكون محيطًا بفقه الواقعة فيصعب أن ينزل النص لهذا الواقع الذي يجهله، وهنا تتخبط أقدام، والله المستعان أن يظهر في الأمة من يعوضنا من ذهب من علمائنا الأفذاذ، والذين استقامت عندهم الرؤيتان، وأن ينبت من جيل " الصحوة " علماء في شتى المجالات، حتى تتبين الأمور في ظل هذه

ص: 336