الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعليه ألا يستحي من قول: لم أفهم؛ لأن استثباته واستيثاقه يحصل له مصالح عاجلة وآجلة، فمن العاجلة حفظه المسألة وسلامته من كذب ونفاق بإظهاره فهم ما لم يكن فهمه.
ومنها اعتقاد الشيخ اعتناءه ورغبته وكمال عقله وورعه وملكه لنفسه وعدم نفاقه.
ومن الآجلة: ثبوت الصواب في قلبه دائمًا واعتياده هذه الطريقة المرضية والأخلاق الرضية.
قال الخليل بن أحمد رحمه الله: منزلة الجهل بين الحياء والأنفة.
سابعًا: عدم التسويف واغتنام الأوقات
.
فلا يسوف في اشتغاله ولا يؤخر تحصيل فائدة، فللتأخير آفات، وكفى أنه يضيع عليه من الفوائد ما كان يمكنه الإلمام بها لولا تقصيره وكسله.
قال الربيع: لم أرَ الشافعي آكلاً بنهار ولا نائمًا بليل لاهتمامه بالتصنيف.
فينبغي أن يغتنم التحصيل في وقت الفراغ والنشاط وحال الشباب وقوة البدن ونباهة الخاطر وقلة الشواغل قبل عوارض البطالة وارتفاع المنزلة.
قال عمر رضي الله عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا.
قال الشافعي: تفقه قبل أن ترأس، فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه.
ولعلَّ الباعثَ على توقيرِ مُعَلِّمِك واحترامِه وأداءِ حَقِّه ينبعُ من معرفةِ شأنِ العلماءِ ومنزلتِهم في شريعةِ الإسلامِ، وكثيرٌ يخلطُ بينَ التوقيرِ والتعصبِ، وهذه آفةُ الجهلِ وسوءِ النيةِ، فأنت حين توقرُ مُعَلِّمَك فإنَّما تطيعُ اللهَ ورسولَه، وتلتزمُ بشريعةِ الإسلامِ التي أوجبتْ عليك ذلك، فطاعتُهم ليستْ مقصودةً لذاتِها، بل هي تبَعٌ لطاعةِ اللهِ ورسولهِ صلى الله عليه وسلم.
قال اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: يعني أهلَ الفقهِ والدينِ، وأهلَ طاعةِ اللهِ الذين يُعَلِّمَون الناسَ معاني دينِهم، ويأمرونهم بالمعروفِ، وينهونهم عن المنكرِ، فأوجب اللهُ سبحانَه طاعتَهم على عبادِه" (1).
(1)"تفسير الطبري"(5/ 149).
ورجَّح شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ أنَ "أولي الأمرِ" هم العلماءُ والأمراءُ جميعًا، وكذا الحافظُ ابنُ كثيرٍ، وابنُ القيمِ -رحمهما الله- وغيرُهما.
فطاعةُ العلماء تبَعٌ لطاعةِ اللهِ تعالى، فالعلماءُ بمثابةِ الأَدِلَّاءِ، بهم يُعْرَفُ حكمُ اللهِ، ويستعانُ بفهمِهم لفهم مرادِ اللهِ تعالى ومرادِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، لا أنَّ طاعتَهم مقصودةٌ لذاتِها.
ومن هنا يتبينُ الفرقُ بينَ التَعصُّبِ للآراءِ والأشخاصِ وبينَ الاستعانةِ بفهمِ هؤلاءِ العلماءِ للدلالةِ على الطريقِ، لأنهم الثقاتُ، ورثةُ الأنبياءِ، المشهودُ لهم بالعدالةِ، قال تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
قال ابنُ القيمِ رحمه الله: وفي ضمنِ هذه الشهادةِ الإلهيةِ الثناءُ على أهلِ العلمِ الشاهدين بها وتعديلُهم (1).
ثمَ إنَّ الله اخْتَصَّهم دونَ سواهم بفهمِ آياتهِ، فخَوَاصُّ الأدلةِ -وهي الأمثالُ- تُضربُ للناسِ كلِّهم، ولكنَّ تعقلَها وفهمَها خاصٌّ بأهلِ العلمِ، قال تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
(1)"مدارج السالكين"(3/ 473).
فإذا تقرر هذا الأمرُ، فينبغي أن نعلمَ:
أولًا: أنَّ النَّاس في شأنِ توقيرِ العلمِ والعلماءِ بينَ طَرَفينِ وَوَسطٍ: فقومٌ غُلاةٌ قد جَعَلوا للعلماءِ قَدَاسةً بحيث لا يُسألون عمَّا يفعلون، فمثلُ هؤلاءِ كاليهودِ الذين اتخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أربابًا مِن دونِ اللهِ، أو كالرافضة الذين جعلوا لأئمتِهم منزلةً لا يَصِلُها مَلَكٌ مقربٌ ولا نبيٌّ مرسَلٌ.
وقومٌ أَهْدَروا مكانة العلماءِ، فاسْتَخَفُّوا بأقدارِهم، وسَمَّموا العقولَ تحتَ شعاراتٍ بَرَّاقَةٍ مثل (لا كهنوتَ في الإسلامِ)، (لا قداسةَ لأحدٍ في الإسلامِ)، ومثلُ هؤلاءِ كالخوارجِ الذين لم يرفعوا بساداتِ علماءِ الصحابةِ رأسًا.
وأهلُ الحقِّ بينَ هذينِ الطرفينِ، فحفظوا لأهلِ العلمِ أقدارَهم، وعَرَفوا أنهم أَدِلَّاءُ على حكمِ اللهِ، فلا قداسةَ لهم في ذواتِهم، ولا عصمةَ لأحدٍ سوى لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فعرفوا الرجالَ بالحقِّ، لا الحقَّ بالرجالِ.
قال الإمامُ أحمدُ: رأيُ الأوزاعيِّ، ورأيُ مالكٍ، ورأيُ أبي حنيفةَ، كُلُّه رأيٌ، وهو عندي سواءٌ، وإنَّما الحجةُ في الآثارِ (1).
(1)"جامع بيان العلم وفضله"(2/ 149).
قال الإمامُ الشاطبيُّ:- وهذا لسانُ حالِ الجميعِ، ومعناه أنَّ كل ما يتكلمون به على تحري أنه طَابَقَ الشَّريعةَ الحاكِمةَ، فإنْ كان كذلك فبها ونعمت، وما لا فليس بمنسوبٍ إلى الشريعةِ، ولا هُمْ أيضًا مِمَّن يَرْضَى أن تُنسبَ إليهم مخالفتُها.
ثانيًا: أنَّ الأخذَ عن العلماءِ لا يقتصرُ على مجردِ العلمِ ومسائلهِ، بل يُؤخذُ عنهم الهديُ الظاهرُ والسَّمْتُ، وهذا لا يتأتى دونَ ملازمتِهم والجلوسِ إليهم.
قال ابنُ سيرين: كانوا يتعلمون الهديَ كما يتعلمون العلمَ (1).
ثالثًا: أنَّ هذا القدرَ الواجبَ من التوقيرِ والتقديرِ والاحترامِ والطاعةِ للعالمِ لا يكونُ إلا بالشرعِ، فمتى ما خالف العالمُ الشريعةَ، أو قام بخارمٍ لدينهِ، فإنه لا طاعةَ له، وحَذَارِ هنا مِن أقوالِ الأقرانِ مِن أهلِ العلمِ؛ فإنها تُطْوَى ولا تُرْوَى، بل على طالبِ العلمِ توقيرُ الجميعِ دونَ حطِّ من قدرِ أحدِهم بسببِ خصوماتٍ تحدث بينَ الأقرانِ في كل زمانٍ، أو تحدثُ بسببِ التَّحاسدِ أو الضغائنِ، فإياك وهذه؛ فإنها حالقةُ الدِّينِ.
(1)"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب البغدادي (ص 79).