المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة فضيلة الشيخ / محمد صفوت نور الدين

- ‌فضل العلم وبيان أهميته

- ‌ماذا نعني بالعلم؟ وكيف يطلب

- ‌حقيقة الإخلاص

- ‌زبدة الكلام وخلاصة الختام

- ‌فائدة مهمة

- ‌المنطلق الثانيعلو الهمة

- ‌علامات الهمة العالية

- ‌1) طلب المعالي من الأمور

- ‌من نوادر الرحلات

- ‌ومن أخبار الرحَّالة المشائين للطلب

- ‌كيفية علو الهمة

- ‌أسباب شتات الهمَّ

- ‌المنطلق الثالثماذا نتعلم

- ‌نصيحة غالية

- ‌ أولاً:التوحيد

- ‌ثانياً: الفقه

- ‌ثالثاً: أعمال القلوب:

- ‌المنطلق الرابعالتَّزكية

- ‌حقيقة التزكية

- ‌فصل: التلطف بالنفس

- ‌فصل العلم والعمل

- ‌ ما هي العقيدة

- ‌أبرز قضايا العقيدة السلفية

- ‌خصائص أهل السنة والجماعة وسماتهم

- ‌كيف نطلب علم الفقه

- ‌قواعد وتنبيهات على أصول الأحكام

- ‌حكم التقليد

- ‌هل يستحسن ذكر الدليل للمستفتي

- ‌دعوة سلفية محضة

- ‌خلاصة الكلام

- ‌المنطلق السابعمِمَّن نطلبُ العلم

- ‌ علامةُ أولي العلمِ ممن يَشْتَبِه بهم

- ‌1 - رسوخُ القَلَمِ فى مواطنِ الشُّبَهِ

- ‌2 - أنَّهم يُعرفون بنُسُكهم وخشيتهم لله تعالى

- ‌3 - أنهم أكثرُ النَّاس استعلاءً على الدنيا وحظوظِها

- ‌4 - ثناء جماهير النَّاسِ عليهم، وشهرتُهم في الآفاقِ

- ‌5 - أن يكون ممن تربى على أيدي الشيوخِ

- ‌أيها المتفقه:

- ‌6 - يقول الإمام الشاطبي: " وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات

- ‌7 - ظهورُ أثرِ علمِهم من خلالِ دروسِهم وفتاويهم ومؤلفاتِهم:

- ‌فصلفي التفريقِ بين العلماءِ ومَنْ دونَهم

- ‌ طرق التعلم

- ‌الطريق الثاني:

- ‌ذكر طائفة من سلفنا ممَّن كثرت شيوخه

- ‌المنطلق الثامن: الأدب

- ‌آداب طالب العلم

- ‌أولا: طهارة القلب

- ‌ثانيُا: الرضا باليسير

- ‌ثالثًا: التواضع للعلم والعلماء

- ‌رابعًا: أداء حقوق معلمك عليك

- ‌خامسًا: التحلي بآداب مجلس العلم

- ‌سادسًا: أدب سؤال العالم

- ‌سابعًا: عدم التسويف واغتنام الأوقات

- ‌قواعد في التعامل مع العلماء

- ‌القاعدةُ الأولى: موالاةُ العلماءِ ومحبتُهم:

- ‌القاعدةُ الثانيةُ: احترامُ العلماءِ وتقديرُهم:

- ‌القاعدةُ الثالثةُ: السَّعيُ إلى العلماءِ والرحلةُ إليهم طلبًا لعلمِهم:

- ‌القاعدةُ الرابعةُ: الصبرُ على العلماءِ وشدتِهم أحيانًا:

- ‌القاعدةُ الخامسةُ: رعايةُ مراتبِ العلماءِ:

- ‌ومن مراعاةِ مراتبِ العلماءِ:

- ‌القاعدةُ السَّادسةُ: حَذَارِ من القدحِ في العلماءِ:

- ‌القاعدةُ السابعة: احذرْ من تخطئةِ العلماء بدونِ علمٍ:

- ‌القاعدةُ الثامنةُ: التمس للعالمِ العُذْرَ:

- ‌القاعدةُ التَّاسعةُ: الرجوعُ إلى العلماءِ والصُّدورُ عن رأيهم خصوصًا في الفتنِ:

- ‌القاعدةُ العاشرةُ: ليس أحدٌ إلا وتُكُلِّم فيه؛ فتثبَّتْ:

- ‌القاعدةُ الحاديةَ عشر: الاعتبارُ في الحكمِ بكثرةِ الفضائلِ:

- ‌القاعدةُ الثانيةَ عشر: احذرْ من زلاتِ العلماءِ:

- ‌القاعدةُ الثالثةَ عشرَ: كلامُ الأقرانِ يُطْوَى ولا يُرْوَى:

- ‌أيها المتفقه:

- ‌القاعدةُ الرابعةَ عشرَ: العَدْلُ والإنصافُ شرطٌ لازمٌ للحُكمِ على أهلِ العلمِ والاجتهادِ:

- ‌فيا أيها المتفقه:

- ‌القاعدةُ الخامسةَ عشرَ: ثِقْ في أهلِ العِلْمِ، فإنهم أئمةُ الهُدى ومصابيحُ الدُّجَى:

- ‌فيا أيها المتفقه

- ‌المنطلق التاسعتكوين الملكة الفقهية

- ‌ الملكة الفقهية

- ‌كيف يمكن تنمية هذه الملكة

- ‌آفات الملكة الفقهية

- ‌المنطلق العاشر(من أين نبدأ

- ‌منهج للمبتدئين في التربية

- ‌أولاً: القرآن الكريم

- ‌ثانياً: الصلاة

- ‌1 - الفرائض:

- ‌2 - النوافل:

- ‌عبودية المال

- ‌المنهج في طلب العلوم الشرعية

- ‌الجدول العلمي في كل فن

- ‌أولاً: القرآن الكريم

- ‌ أحكام التلاوة والتجويد

- ‌ أصول التفسير

- ‌ كتب التفسير

- ‌ثانيًا: علوم السنة

- ‌دواوين السنة

- ‌ مصطلح الحديث

- ‌ثالثًا: علم التوحيد أو العقيدة

- ‌ بعض المباحث المهمة:

- ‌رابعًا: الفقه

- ‌خامسًا: أصول الفقه

- ‌كيف تطلب علم الأصول

- ‌سادسًا: علوم اللغة

- ‌أيها المتفقه

الفصل: ‌كيفية علو الهمة

ويشهد المراقب للحال العلمية اليوم: كثرة متزايدة في الجامعيين والجامعات، وفقرًا متزايدًا في العلم وأهله، وضحالة في الفهم والمعرفة، ونقصًا كبيرًا مشهودًا في العمل بالعلم! وهذه مصيبة من أدهى المصائب! والله المرجو أن يُلهم المنوط بهم أمور التعليم في البلاد الإسلامية أن يتبصروا بالأمر، ويتداركوا هذا الخطر قبل تأصُّله وإزمانه، واستفحال آثاره.

يقول: ولا أتحدث طويلاً عن المبتعثين والراحلين اليوم من شبابنا، إلى بلاد الغرب والشرق من بلاد الكفار والأعداء للإسلام وأهله، فإنَّ الناجي من براثن مكايدهم الخفية والظاهرة في العقيدة والخلق والتفكير والسلوك قليل، وكم من أبنائنا وشبابنا من وقع في حبائلهم، وذهب في سبلهم، ورضيهم قادة وسادة، ونزع ـ بالتالي ـ من ديار الإسلام إليهم، وتوطن بلادهم مسكنًا ودارًا، واختارهم على أهله أهلاً وجارًا، وهو يظن بنفسه أنَّه يحسن صنعًا، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الكفر بعد الإيمان " (1)

‌كيفية علو الهمة

فإن قلت: كيف علو الهمة في عصرنا؟ والمعوِّقات قد أحاطت بنا فكيف لنا بعلو الهمة؟ وإذا وجدت الهمة ولم أُرزق فما الحيلة؟

قلت: جوابك حاضر والحمد لله، فلا تعجل، اصطبر وتدبر.

(1) صفحات من صبر العلماء ص 109 - 110 ط مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب.

ص: 133

يقول ابن القيم: " قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنِّي لا أحمل همَّ الإجابة ولكنْ همَّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإنَّ الإجابة معه، وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله تنزل علي العباد علي قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك، فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به، والخذلان في مواضعه اللائقة به، هو العليم الحكيم.

وما أُتي من أُتي إلا من قبل إضاعة الشكر، وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر، وصدق الافتقار والدعاء، وملاك ذلك الصبر، فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس فلا بقاء للجسد " أهـ (1)

فهذه وصايا لتحصيل علو الهمة وحصول التوفيق:

1) اشكر نعمة ربك عليك.

فكم من نعمة وهبها الله لك وأنت لا توافي شكرها، فلا تصرفها إلى ما خلقت له، فتمتنع عنك هذه المنن، كما هو حال الأذكياء وذوي

(1) الفوائد ص (185).

ص: 134

الألباب من النَّاس ممن يُعملون عقولهم فيما لا طائل من ورائه، ومن النَّاس من وهبه الله نعمة " الحفظ " فتراه لا يصرفها فيما فيه فلاحها من حفظ القرآن والسنَّة ومتون العلم، ومنهم من وهبه الله ملكة الفهم والتدبر فلا تراه يستخدمها في تدبر آي الذكر الحكيم والنصوص الشرعية وفق منهج سلفنا، وهكذا تجد النَّاس لا يشكرون الله على نعمائه، فيمحق الله عنهم تلك النِّعم.

2) وصدق الافتقار والدعاء.

كان الرجل من سلفنا الكرام إذا استشكلت عليه مسألة أو غمض عليه أمر من الأمور يسارع بصلاة ركعتين في جوف الليل المظلم يناجي ربه ويسأله أن يبصِّره بالحق، يقول: اللهم يا معلم إبراهيم علَّمني، ويا مفهم سليمان فهِّمني، ويظل هكذا حتى يفتح الله عليه، ولا مثيل للافتقار في استمطار رحمات الرب تبارك وتعالى، " إنَّما الصدقات للفقراء والمساكين .. "[التوبة/60]

3) وملاك الأمر في الصبر، فصبرًا على شدائد الطلب صبرًا

أيها المتفقه ..

فلابد لعلو همة من صبر فبدونه ينقطع بك السبيل، ولا ترجع حتى بخفي حنين، ولعمر الله إنَّ شدائد الطلب لهينة يسيرة، وهي أحلى على قلوب المخلصين من لذات الدنيا ومباهجها؛ ولذلك ابن الجوزى يقول: " ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما أطلب وأرجو،

ص: 135

كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء.، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أنى عُرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول

صلى الله عليه وسلم وأحوالِه وآدابه، وأحوال الصحابة وتابعيهم. أهـ (1)

أيها المتفقه ـ حبيبي في الله ـ

لابد لك من خليل موافق لا يفارقك في زمان الطلب، ألا وهو " الصبر" فإنَّه ملاك ذلك الأمر كله، فيا أقدام الصبر احملي فقد بقى القليل.

يقول ابن القيم: " فإن كان يأجوج الطبع ومأجوج الهوى، قد كانوا في أرض القلوب فأفسدوا فيها، فأعينوا الملك بقوة يجعل بينكم وبينهم ردمًا، أجمعوا له من العزائم ما يشابه زبر الحديد، ثم تفكروا فيما أسلفتم؛ ليثور صعد الأسف فلا يحتاج إلى أن يقول لكم: انفخوا، شدوا بنيان العزم بهجر المألوفات والعوائد، وقد استحكم البناء فحينئذ أفرغوا عليه قطر الصبر، وهكذا بنى الأولياء قبلكم فجاء العدو فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا "(2)

فالصبر خِلٌ لطالب العلم إن فارقه استوحش في البوادي القفار، وإن لازمه أنس وأدلج، ولا تستقيم النفوس إلا به إذ طبعها الكسل

(1) صيد الخاطر ص (276) ط مكتبة الكليات الأزهرية.

(2)

بدائع الفوائد (3/ 756)

ص: 136

والمهانة والإخلاد إلى الأرض، فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق، فإنَّ الله جعل الصبر جوادًا لا يكبو، وصارمًا لا ينبو، وجندًا لا يهزم، وحصنًا لا يهدم، ولا يثلم، فهو والنصر أخوان شقيقان، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد، ومحله من الظفر محل الرأس من الجسد.

قال تعالى: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون "[السجدة /24]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنَّما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين.

والصبر خير لصاحبه ألم يقل الله تعالى: " ولئن صبرتم لهو خير للصابرين "

[النحل /126]

والصابر ينال خيري الدنيا والآخرة فقد بشره الله تعالى فقال: " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنَّا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون "[البقرة /155 - 157]

قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟!!

قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب.

ص: 137

وهذا خيثمة بن سليمان القرشي (ت 343هـ) خرج لسماع الحديث من بلدته فركب البحر، فإذا بقطاع للطريق يطاردونهم ويأخذون مركبهم.

يقول خيثمة: ولمَّا ضُربت سكرت ـ يعني أصابته غشية من شدة ألم الضرب ـ ونمت، فرأيت كأني أنظر إلى الجنة، وعلى بابها جماعة من الحور العين.

فقالت إحداهن: يا شقي، أيش فاتك؟

قال الأخرى: أيش فاته؟ قالت: لو قتل كان في الجنة مع الحور العين.

قالت لها: لأن يرزقه الله الشهادة في عز من الإسلام وذل من الشرك خير له، ثمَّ انتبهت.

قال: ورأيت كأنَّ من يقول لي: اقرأ " سورة براءة " فقرأت إلى قوله تعالى:

" فسيحوا في الأرض أربعة أشهر "[التوبة / 2]. قال: فعددت من ليلة الرؤيا أربعة أشهر، ففكَّ الله أسري. (1)

أيها المتفقه:

أتراك مضيعًا عمرك سدى إنْ أنفقته في الطلب؟ أتراك تفوت من الدنيا ما تضن به لأجل العلم؟ فما تعدل لذات الدنيا ما

(1) تذكرة الحفاظ (3/ 858)

ص: 138

يجده طالب العلم من النعيم؟ فالعلم يرفعك أقرب ما تكون إلى رب السماء، والدنيا تشدك إلى درك البلاء، فاغتنم وقتك في الطلب قبل حسرة الفوت.

ورحم الله ابن الجوزي حين يقول: " ومن أنفق عصر الشباب في العلم، فإنَّه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئًا بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم، هذا مع وجود لذاته في الطلب الذي كان تأمَّل به إدراك المطلوب، وربما كانت تلك الأعمال أطيب مما نيل منها "

ثمَّ قال: " ولقد تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصبوة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه، ثمَّ تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يقوَّم.

فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك؟!

فقلت له: أيها الجاهل، تقطيع الأيدي لا وقْع له ـ أي لا يذكر وليس بشيء ـ عند رؤية " يوسف "، وما طالت طريق أدت إلى صديق " أهـ

وهذا ـ لعمر الله ـ من الفوائد الجليات لطلب العلم، ومن صبر ظفر.

ص: 139

" ومن المعلوم أنَّه لابد لنيل كل مرغوب محبوب من تنازل عن مرغوب محبوب دونه، والعلم مرغوب سامٍ، ومحبوب غالٍ، وشرف رفيع، ومطلب صعب المسالك، كثير العقبات، لا يمكن بلوغه إلا بتنازلات كثيرة، وتضحيات كبيرة، في المال، والوقت، والراحة، وأنس الأهل والأصحاب، وسائر المتع المشروعة، ولهذا قيل: العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ". (1)

فيا أيها المتفقه:

صبرًا على هجر اللذات، صبرًا على ترك المألوفات والعادات، صبرًا على مكابدة الصعوبات، فإنَّ من وراء ذلك بلوغ الغايات.

قال أسد بن الفرات رحمه الله: أجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، واصبروا على شدته، فإنكم تنالون به خيري الدنيا والآخرة.

كان بعضهم لا ينام الليل في مذاكرة العلم، وإذا نام فعلى فراش القلق من اشتغال الذهن.

قال محمد بن أبي حاتم ورَّاق الإمام البخاري رحمه الله: كان أبو عبد الله ـ أي البخاري ـ إذا كنت معه في سفر، يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ أحيانًا، فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القدَّاحة، فيوري نارًا ويسرج،

(1) صفحات من صبر العلماء ص (111).

ص: 140

ثمَّ يخرج أحاديث فيعلم عليها، ثمَّ يضع رأسه، وكان يصلي وقت السحر ثلاث عشرة ركعة، وكان لا يوقظني، في كل ما يقوم.

فقلت له: إنَّك تحمل على نفسك، في كل هذا ولا توقظني.

قال: أنت شاب، ولا أحب أن أفسد عليك نومك.

أيها المتفقه:

ما عذرك؟! بماذا تخادع نفسك؟ حتَّام تركن إلى الدعة والبطالة؟ تستثقل سويعات تقضيها في المذاكرة والطلب ـ وأنت منعم ـ!! توفرت لك الوسائل وسهِّلت عليك الصعاب وما زلت تخلد إلى الأرض، ثمَّ تقول: العلم .. العلم فهيهات هيهات.

قال يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي: دخلت على أبي في الصيف الصائف وقت القائلة، وهو في بيت كتبه، وبين يديه السراج ـ لظلمة الحجرة التي هو فيها في وسط النهار!! ـ

فقلت: يا أبة، هذا وقت الصيف، ودخان هذا السراج بالنهار ـ يضرك ـ! فلو نفست عن نفسك؟

فقال لي: يا بني تقول لي هذا؟!

وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أصحابه والتابعين؟! "

ص: 141

أيها المتفقه:

أين أنت ممن كان يبيت وأثر الحصير في جنبيه ـ صلى الله عليه

وسلم ـ؟

أين أنت ممن كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع خوفًا ووجلاً؟ أين أنت ممن عمروا الليالي بطاعة الله، فمنعهم العلم من النوم، ولم يلتفتوا إلى زخرف الدنيا الزائل، فحفظ الله ذكرهم بين الناس إلى يوم يقوم الأشهاد؟!!

هذا الإمام الطبراني الذي ملأ حديثه البلاد، وزادت مؤلفاته عن خمس وسبعين مؤلفًا، فسئل مرةً عن كثرة حديثه.

فقال: كنت أنام على البواري ـ أي الحصر ـ ثلاثين سنة. (1)

أيها المتفقه:

اصبرْ على مضضِ الإِدلاجِ في السحرِ، وفي الرواحِ إِلى الحاجاتِ والبكرِ، فإنَّه قلَّ من جدَّ في أمرٍ يطلبُهُ فاستصحبَ الصبرَ إِلا فازَ بالظفرِ، فإنَّ للصبرِ عاقبةً محمودةَ الأثرِ.

قال هارون بن موسى: كنَّا نختلف إلى أبي علي ـ القالي ـ البغدادي رحمه الله، وقت إملائه " النوادر " بجامه الزهراء ـ في قرطبة ـ، ونحن في فصل الربيع.

فبينما أنا ذات يوم في بعض الطريق، إذ أخذتني سحابة، فما وصلت إلى مجلسه رحمه الله إلا وقد ابتلت ثيابي كلها! وحوالي أبي

(1) تذكرة الحفاظ (3/ 912، 915)

ص: 142

علي أعلام أهل قرطبة، فأمرني بالدنو منه، وقال لي: مهلاً يا أبا نصر، لا تأسف على ما عرض لك، فذا شيء يضمحل عنك بسرعةٍ، بثياب غيرها تبدلها.

وقال أبو علي: قد عرض لي ما أبقى بجسمي ندوبًا تدخل معي في قبري!

ثمَّ قال: كنت أختلف إلى ابن مجاهد رحمه الله، فأدلجتُ إليه ـ أي ذهبت إليه من آخر الليل قبل الفجر ـ لأتقرب منه.

فلما انتهيت إلى الدرب الذي كنت أخرج منه إلى مجلسه ن ألفيته مغلقًا وعسُر عليَّ فتحه.

فقلت: سبحان الله! أبكر هذا البكور، وأغلب على القرب منه!!

فنظرت إلى سرب ـ حفير تحت الأرض ـ بجنب الدار فاقتحمته، فلمَّا توسطته ضاق بي، ولم أقدر على الخروج، ولا على النهوض، فاقتحمته أشد اقتحام، حتى نفذت بعد أن تخرقت ثيابي واثَّر السرب في لحمي حتى انكشف عظمي، ومنَّ الله عليَّ بالخروج، فوافيت مجلس الشيخ على هذه الحال، فاين أنت مما عرض لي؟!! وأنشدنا:

دببت للمجد والساعون قد بلغوا

جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا

وكابدوا المجد حتى ملَّ أكثرهم

وعانق المجد من أوفى ومن صبرا

لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

ص: 143

أيها المتفقه:

وصيتي الجامعة لك قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون "[آل عمران /200] فما فلاح في دون تلك الأربع.

" فاصبر " مع نفسك فألجمها، واعلم أنَّ هداها في مخالفتها، فاصب صبر الكرام لا صبر اللئام، ممن يرغمون على الصبر فيتجرعون مرارته في الآجل

والعاجل.

" وصابر" عدوك، وليس عدوك من قاتلك، بل من الأعداء ما يخفى، وشر أعدائك نفسك والشيطان والدنيا والهوى، وشر أعدائك من ضيَّع وقتك، وشغلك عن مطلبك، فاهجر خلان الدنيا فإنهم يقتلونك من حيث لا تدري.

" ورابط " فالثبات حتى الممات شعارك، وتجهز دائمًا لموعودك، وأعدَّ عدتك، وكلما استزدت زودت، فلا تفتر.

و" اتقِ الله " فالزم تقوى الله تعالى في السر والعلانية، فدونها تتهتك الآمال، وتضيع الأعمار، ويصبح عملك هباءًا منثورًا.

ص: 144

4) جمع الهم.

أيها المتفقه ..

الوصية الرابعة لعلو الهمَّة " جمع الهم "، ولا ريب أنَّ طاعة الله تعالى تفتقر إلى " جمع الهم "، وأنَّ شتات الهم من أكبر المعوقات عن طلب العلم.

قال صلى الله عليه وسلم: " من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أيِّ أوديتها

هلك " (1).

قال ابن الجوزي: وقيل لأبى حنيفة: بمَ يستعان على حفظ الفقه؟ قال: بجمع الهم.

وقال حماد بن سلمة: بِقلِة الغمِّ.

وقال مكحول: من نَظَّف ثوبَه قَلَّ همُّه، ومن طابت ريحُهُ زاد عقلهُ، ومن جمع بينهما زادت مروءته.

(1) أخرجه ابن ماجه (257) في المقدمة، بَاب الانتفاع بالعلم والعمل بِه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6189).

ص: 145

طالب العلم والزواج

فلابد لطالب العلم من جمع الهمَّ، ومن ذلك ألا يشغل ذهنه بالزواج، لاسيما مع ضيق ذات اليد، فإنَّه يستتبع من شتات الذهن ما يمنعه عن بلوغ القصد، وإلا فلا يُلجأ إليه إلا عند الضرورة، كأنْ يخشى على نفسه الفتنة، فيتزوج من باب أخف الضررين.

قال ابن الجوزي: وأختار للمبتدئ في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن، فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعون سنة، وهذا لأجل جمع الهم، فإن غلب عليه الأمر تزوج واجتهد في المدافعة بالفعل؛ لتتوفر القوة على إعادة العلم.، ثم لينظر ما يحفظ من العلم، فإن العمر عزيز، والعلم غزير " (1)

يقول صاحب مختصر منهاج القاصدين قال: " ينبغي لطالب العلم قطع العلائق

الشاغلة، فإن الفكرة متى توزعت قصرت عن إدراك الحقائق.، وقد كان السلف يؤثرون العلم على كل شيء.

فروىَ عن الإمام أحمد رحمه الله أنه لم يتزوج إلا بعد الأربعين. .

وأهديت إلى أبى بكر الأنباري جارية، فلما دخلت عليه تفكر في استخراج مسألة فعزبت عنه، فقال: أخرجوها إلى النخاس، فقالت: هل من ذنب؟ قال: لا، إلا أن قلبي اشتغل بك، وما قدر مثلك أن يمنعني علمي". (2)

(1) صيد الخاطر ص (211)

(2)

مختصر منهاج القاصدين صـ 21.

ص: 146

يقول ابن الجوزي: " هيهات أن يجتمع الهم مع التلبس بأمور الدنيا، خصوصًا الشاب الفقير الذي قد أَلِفَ الفقر؛ فإنَّه إذا تزوج وليس له شيء من الدنيا، اهتم بالكسب، أو بالطلب من الناس فتشتت همته، وجاء هـ الأولاد فزاد الأمر عليه، ولا يزال يرخص لنفسه فيما يحصل إلى أن يتلبس بالحرام.، ومن يفكر أنَّه أسير ضرورات لا يجدها فهمته ما يأكل وما يأكله أهله، وما ترضى به الزوجة من النفقة والكسوة، وليس له ذلك، فأي قلب يحضر له؟ وأيُّ هم يجتمع؟ هيهات!!

والله لا يجتمع الهم والعين تنظر إلى الناس، والسمع يسمع حديثهم، واللسان يخاطبهم، والقلب متوزع في تحصيل ما لا بد منه ..

فإن قال قائل: فكيف أصنع؟!

قلت: إن وجدت ما يكفيك من الدنيا، أو معيشة تكفك فاقنع بها، وانفرد في خلوة عن الخلق مهما قدرت، وإن تزوجت فبفقيرة تقنع باليسير، وتصبر أنت على صورتها وفقرها، ولا تترك نفسك تطمح إلى من تحتاج إلى فضل نفقته.

فإن رزقت امرأة صالحة جمعت همك فذاك، وإن لم تقدر فمعالجة الصبر أصلح لك من المخاطرة.

وإياك والمستحسنات، فإن صاحبنهن إذا سلم كعابد صنم، وإذا حصل بيده شيء فأنفق بعضه، فبحفظ الباقي تحفظ شتات قلبك ..

ص: 147