الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الإمام الشاطبي: " وإنْ كان النَّاس قد اختلفوا هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا؟
فالإمكان ُمَسلَّم، ولكن الواقع في مجارى العادات أن لابد من المعلم، وهو متفق عليه في الجملة .. " ثم قال:" وقد قالوا إنَّ العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال، وهذا الكلام يقضى بأن لا بد في تحصيله من الرجال "(1)
أيها المتفقه:
لابد من معلم، قال الإمام الشافعي: شر البلية تشيخ الصحيفة " يعني الذين تلقوا علمهم من الصحف ـ أي الكتب ـ.
وقال بعض السلف: من كان الشيخ كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه.
وقال أبو زرعة رحمه الله: لا يفتي الناس صحفي، ولا يقرئهم مصحفي. وكان ثور بن يزيد يقول: لا يفتي الناس الصحفيون. (2)
فلابد لك من شيخ متقن، ومرب حاذق، وصاحب ناصح، فهذه ثلاثة لو اجتمعت في واحد لكان خيرًا لك، وإن كانا اثنين، وإلا فلزوم الثلاثة هو المحتم.
(1) الموافقات (1/ 92).
(2)
الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 97).
وذهبوا إلى شرط العالم أن يكون ممن لازم أهل العلم، وتربى على أيديهم، وعُرف باقتدائِه بهم، وتأدبِه بأدبِهم.
قال الإمام الشاطبي في صفة العالمِ المتحققِ بالعلمِ: أن يكون ممَّن رباه الشيوخ في ذلك العلم (1)؛ لأخذه عنهم، وملازمته
…
لهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا كان شأن السلف الصالح، فأول ذلك ملازمة الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذهم بأقواله وأفعاله، واعتمادهم على ما يرد منه، كائنا ما كان، وعلى أي وجه صدر.
فهم فهموا مغزى ما أراد به أولاً، حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذي لا يُعارض، والحكمة التي لا ينكسر قانونها، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها، وإنما ذلك بكثرة الملازمة، وشدة المثابرة.
وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية حيث قال: يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل؟
قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار.
قال: بلى. قال: ففيم نعطى الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟
قال: يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولم يضيعني الله أبدا.
فانطلق عمر، ولم يصبر متغيظا، فأتى أبا بكر فقال له مثل ذلك.
(1) وإنِّي لأقف مليًا أمام عبارة الشاطبي " ربَّاه الشيوخ " وأتأسف على حال شباب الصحوة، فيا عبد الله اتقِ الله وخذ العلم كما أخذه السلف، وإلا فهيهات أنْ تجني لبذرك ثمرة حقيقية.
فقال أبو بكر: إنه رسول الله، لم يضيعه الله أبدا.
قال: فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه.
فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟!
قال: نعم فطابت نفسه ورجع. (1)
فهذا من فوائد الملازمة، والانقياد للعلماء، والصبر عليهم في مواطن الإشكال، حتى لاح البرهان للعيان.
وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: " أيها الناس!! اتهموا رأيكم؛ والله لقد رأيتني يوم أبى جندل ولو أنِّي أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته "(2)
وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال، وإنما نزلت سورة الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر، ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن، فزال الإشكال والالتباس.
وصار مثل ذلك أصلاً لمن بعدهم، فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى فقهوا، ونالوا ذروة الكمال في العلوم
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري (3182) ك الجزية، باب إثم من عاهد ثم غدر، ومسلم (1785) ك الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية.
(2)
متفق عليه أخرجه البخاري (3181) ك الجزية، باب إثم من عاهد ثم غدر، ومسلم في الموضع السابق.
الشرعية، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك.
وقلما وجدت فرقًة زائغًة، ولا أحدًا مخالفًا للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف.
…
وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم " أهـ
والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه
كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم، واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرن، وبهذا الوصف امتاز مالك عن إضرابه، أعنى بشدة الاتصاف به، وإلا فالجميع ممن يهتدي به في الدين، كذلك كانوا، ولكن مالكًا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى ".
فلما تُرك هذا الوصف (أي اقتداء كل تلميذ بشيخه تمامًا في نعته ووصفه وطريقته وسمته) رفعت البدع رؤوسها؛ لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك أصله اتباع الهوى
…
"
وتأمل معي ـ أخي في الله ـ هذه الفقرة للإمام مالك رضي الله عنه في الاتباع فإنَّها نافعة:
" كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه فقيل له يومًا في ذلك: فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم
علَّي ما ترون ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدًا إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زمانًا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال إما مصليًا، وإما صامتًا، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله عز وجل، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبًة منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ولقد كنت آتي عمر بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع؛ ولقد رأيت الزهري وكان من أهنأ الناس وأقربهم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته؛ ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه " (1). اهـ
هذا تأسيهم بمن قبلهم وإنما استفادوا ذلك من طول الملازمة وحسن التأسي.
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 42).