الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيها المتفقه ..
العلم صناعة القلب وشغلُه، فما لم تتفرغ لصناعته، وشغلهِ لم تنله، والقلب له وجهة واحدة، فإذا وُجِّهَتْ إلى اللذات والشهوات، انصرفت عن العلم، ومن لم يُغَلِّب لذة إدراك العلم وشهوته على لذة جسمه وشهوة نفسه: لم ينل درجة العلم أبداً، فإذا صارت شهوته في العلم ولذته في إدراكه فإنَّه يُرجى له أن يكون من جملة أهله.
علامات الهمة العالية
ولعلو الهمَّة علامات، فنقِّب عنها في نفسك، وتحلَّ بها تفز بمرادك، فأول ذلك:
1) طلب المعالي من الأمور
.
يقول ابن الجوزي: " غير أنَّ للطالب المرزوق علامة، وهو أن يكون مرزوقاً علو الهمة، وهذه الهمة تولد مع الطفل، فتراه من زمن طفولته يطلب معالي الأمور، كما يروى أنه كان لعبد المطلب مفرش في الحِجر، فكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يأتي وهو طفل فيجلس عليه، فيقول عبد المطلب: إن لابني هذا شأناً.
فلابد لك من أنفة من كل خسيس تافه، تبرأ بنفسك أنْ تخوض فيه ككل ناعق، ترى الأمور على حقائقها، فكل ما كان لله يعلق قلبك به، فلا تنظر لأدنى بل اربط قلبك بسبب إلى السماء، لا ترضى بالدونية.
قال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله تعالى جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها "(1)
2) ومن علامات الهمة العالية " الحرص " فاحرص على الطلب فإنَّه من أعظم القُرب.
قال صلى الله عليه وسلم: " احرص على ما ينفعك "(2)
وأعظم ما تحرص عليه وتجود بنفسك لأجله: " طلب العلم "، والحرص أمارة تعظيم القلب، ولذلك أنصحك باستفراغ الوسع في " طلب العلم ".
قال الإمام النووي في وصيته لطالب العلم: " ينبغي أن يكون حريصًا على
…
التعلم، مواظبًا عليه في جميع أوقاته، ليلاً ونهارًا، وسفرًا وحضرًا، ولا يذهب من أوقاته شيئًا في غير العلم إلا بقدر الضرورة لأكل ونوم قدرًا لابد له منه ونحوهما، كاستراحة يسيرة لإزالة الملل، وشبه ذلك من الضروريات، وليس بعاقل من أمكنه درجة ورثة الأنبياء ثمَّ فوتها " (3)
وسأضرب لك الأمثال؛ لتستنفر همتك فتعلو من حضيض الدنايا الدنيوية، إلى قمم المنن الإلهية، فقد كان سلفنا رحمهم الله يحرصون على العلم وجمعه حرصاً ليس له نظير.
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط وصححه الألباني في صحيح الجامع (1743).
(2)
جزء من حديث أخرجه مسلم (2664) ك البر والصلة والآداب، باب في الأمر بالقوة وترك العجز. والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله.
(3)
المجموع شرح المهذب (1/ 37) ط دار الفكر.
قال ابن أبى حاتم: سمعت المزني يقول: قيل للشافعي كيف شهوتك للعلم؟
قال: أسمع بالحرف ـ أي بالكلمة ـ مما لم أسمعه، فتود أعضائي أن لها سمعًا تتنعم به، مثل ما تنعمت به الأذنان.
فقيل له: كيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال.
فقيل له: فكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدَها ليس لها غيره.
وقد كان ابن عباس رضي الله عنه يأتي أبواب الصحابة في حرِّ الظهيرة يسألهم عن الحديث.
فروى الخطيب البغدادى وابن عبد البر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: " إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتى بابه، وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح علىَّ من التراب، فيخرج فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟!! ألا أرسلت إلىَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث ".
وهذا ابن معين ـ رحمه الله تعالى ـ خلف له أبوه ألف ألف درهم، فأنفقها كلها على تحصيل الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه، وكان حريصاً على لقاء الشيوخ والسماع منهم خشية أن يفوتوه ..
قال عبد بن حميد: سألني يحيى بن معين عن حديث أوَّلَ ما جلس إليَّ، فقلت: حدثنا حماد بن سلمة. فقال لو كان من كتابك، فقمت لأخرج كتابي، فقبض على ثوبي، ثم قال: أمله عليَّ، فإنَّي أخاف أن لا ألقاك، فأمليته عليه، ثمَّ أخرجت كتابي فقرأته عليه.
ومن أئمة التابعين مكحول الشامي (ت 112 هـ) رحمه الله يقول: أعتقت بمصر فلم أدع بها علمًا إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق، ثمَّ المدينة فلم أدع بهما علمًا إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها.
يا سبحان الله، انظر إلى علو الهمة، والطواف بالبلاد والتجوال، وجمع العلم وإحرازه، ويا لعجبي من " فغربلتها " !!
وقد بلغ حرصهم على الطلب أنَّ أحدهم كان ينزل به الهم والحزن، ويصيبه المرض، إذا فاته شيء من العلم.
فقد ذكروا حديثًا لشعبة لم يسمعه، فجعل يقول:" واحزناه!! " وكان يقول: إنِّي لأذكر الحديث يفوتني فأمرض.
فما يحزن القلب إلا إذا فاته عظيم عنده، محبوب لديه، لمَّا جاء إخوة يوسف ليأخذوه ليلعب قال أبوهم:" إنِّي ليحزنني أن تذهبوا به "[يوسف / 13] فكذلك كل محبوب يحزن القلب لفراقه، فإذا فاتك من العلم شيء فلم تحزن لفواته فاتَّهم
…
نيتك، واعلم أنَّ بالقلب من العلائق ما قد حال بينك وبين أبواب العلم.
أيها المتفقه:
أين حرصك على طلب العلم، وصبرك على تحصيله، وإن كلفك ذلك الغالي والنفيس، أين تبكيرك لمجالس العلم؟ تالله إنَّك ترى من يبكر لحضور درس قبل وقته بساعة أو ساعتين يظل يراشقك بنظراته ممتنًا عليك أنَّه أتى مبكرًا لحضور الدرس، وما كان هذا حال سلفنا.
هذا جعفر بن درستويه يقول: كنا نأخذ المجلس في مجلس عليّ بن المديني وقت العصر، اليوم لمجلس غدٍ، فنقعد طول الليل، مخافة أن لا نلحق من الغد موضعًا نسمع فيه.
3) ومن علامات علو الهمة: بذل الغالي والنفيس.
أيها المتفقه ..
من خطب الحسناء لم يُغله المهر، وأنت ـ تالله ـ طالب لنعيم الدنيا والآخرة فلا تكلَّ ولا تملَّ فدونك رياحين الجنَّة، " من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنَّة "(1)
يقول ابن الجوزى: " تأملت عجباً، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله، فإنَّ العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار، وهجر اللذات
(1) أخرجه مسلم (2699) ك الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.
والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة ولا أقدر، لأنَّ وقت بيعها وقت سماع الدرس
…
".أهـ
ولذلك قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: " وأما سعادة العلم فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع، وصدق الطلب، وصحة النية "(1)
فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة، ولا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد.
قال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن كثير: " لا ينال العلم براحة الجسم ".
وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة.
يقول الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: " حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار منه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراكه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه ".
أيها المتفقه ..
اعلم أنَّ علوم الإسلام العظيمة لم تُدَوَّن على ضفاف الأنهار، وتحت ظلال الأشجار والأثمار، وإنما دونت باللحم والدم، وظمأ الهواجر، وسهر الليالي على السراج الذي لا يكاد يضيء نفسه، وفي ظل العرى والجوع وبيع الثياب، وانقطاع النفقة في بلد الاغتراب، والرحلة المتواصلة الملاحقة، والمشاق الناصبة
(1) مفتاح دار السعادة (1/ 108) ط دار الكتب العلمية.
المتعانقة، والصبر على أهوال الأسفار، وملاقاة الخطوب والأخطار، والتيه في البيد، والغرق في البحار، ولفقد الكتب العزيزة الغالية والأسفار، وحلول الأمراض والأسقام، مع البعد عن الأهل والزوجة والأولاد والدار، ومع فرقة الأقارب والأحباب والأصحاب وفقد الاستقرار، فما أثر كل ذلك في أمانة علم أهلها، وما نقص من متانة دينهم، وما وهن من قوة شكيمتهم، وما خضعتهم الضائقة الخانقة مع قوتها إلى قبول الذل والهوان.
علو همَّة السلف في الرحلة في طلب العلم (1)
ومن تمثل سير سلفنا الصالح، ونظر في معاناتهم في طلب العلم هانت عليه كل شدة، واحتقر نفسه أمامهم، فقد كابدوا من الصعاب ما يفوق التخيل، وتركوا البلاد والأولاد وهجروا اللذات والشهوات، وجابوا مشارق الأرض ومغاربها سعيًا وراء حديث واحد، أو لقاء شيخ أو معرفة مسألة، وأنت
…
ـ اليوم ـ تجزع من قراءة ساعة، وتتكاسل عن سبر صفحات قليلة، وتتوافر لك سبل المعرفة فما تمد لها يدًا، فحالك ـ تالله ـ حال عجيبة، فانظر إلى هؤلاء الأفذاذ كيف طلبوا العلم عساك تنتفع بذلك.
(1) وقد صنَّف كثير من أهل العلم في أهمية الرحلة منها " كتاب الرحلة " للخطيب البغدادي، يقول الشيخ أبو غده عنه: وكتاب الرحلة للخطيب كتاب نافع مهماز للمتخلفين عن الرحلة، فاقرأه لعلك ترحل. [صفحات من صبر العلماء ص 44]
قيل للإمام أحمد: رجلٌ يطلب العلم يلزم رجلاً عنده علم كثير أو يرحل؟
قال: يرحلُ، يكتب عن علماء الأمصار، فيشامُّ النَّاس، ويتعلم منهم.
وقيل له مرةً: أيرحلُ الرجل في طلب العلم؟
فقال: بلى والله شديدًا، لقد كان علقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي، ـ وهما من أهل الكوفة بالعراق ـ يبلغهما الحديث عن عمر فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه ـ إلى المدينة المنورة ـ فيسمعانه منه "
قال ابن خلدون في المقدمة: " إنَّ الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة: مزيد كمال في التعليم، والسبب في ذلك أنَّ البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما يتحلون به من المذاهب والفضائل، تارة: علمًا وتعليمًا ولقاءً. وتارةً: محاكاة وتلقينًا بالمباشرة. إلا أنَّ حصول الملكات عن المباشرة والتلقين، أشدُّ استحكامًا وأقوى رسوخًا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها ـ وتفتحها ـ
والاصطلاحات أيضًا في تعليم العلوم مخلِّطة على المتعلم، حتى لقد يظنُّ كثير منهم أنَّها جزء من العلم، ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين.
فلقاء أهل العلوم، وتعدد المشايخ: يُفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها، فيُجرِّد العلم عنها، ويعلم أنَّها أنحاء تعليم وطرق توصيل، وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات، ويصحح معارفه ويميزها عن سواها، مع تقوية ملكته بالمباشرة
والتلقين، وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم، وهذا لمن يسَّر الله عليه طرق العلم والهداية.
فالرحلة لابد منها في طلب العلم، لاكتساب الفوائد والكمال، بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال، " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم "[البقرة / 213](1)
أيها المتفقه ..
شأن الرحلة قديم تليد، بداية من رحلة نبي الله موسى الكليم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، وقد قصَّ الله خبر رحلته في القرآن الكريم، مع عبده الخضر وما كان في رحلته من العوائق والغرائب، فبقيت الرحلة سنة نبوية وشعار طلبة العلم إلى يوم الدين.
وهؤلاء صحابة الرسول منهم من قطع مئات الأميال ليلقاه ويتثبت من صدق نبوته، ومنهم من سافر إليه من البلاد البعيدة ليسأله عن مسألة وقعت له.
فهذا عقبة بن الحارث سافر من مكة إلى المدينة ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن مسألة رضاع وقعت له.
فعن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج.
(1) المقدمة ص 542 ط دار القلم.