الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثاني عشر: كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
خصائص أهل السنة والجماعة وسماتهم
فإذا عرفت أصولهم وقواعدهم في النظر والاستدلال، وسمعت الأدعياء ينعتون أنفسهم بأنهم منهم، فاحرص على معرفة خصائصهم وصفاتهم، فإذا وجدتها فقد أبصرت طريق الهدى، وإلا فدعِي لا تلتفت إليه.
أولا: الاهتمام بكتاب الله عز وجل حفظاً وتفسيراً وتلاوة، والاهتمام بالحديث معرفة وفهماً وتمييزاً لصحيحه من سقيمه لأنهما مصدر التلقي.
ثانيًا: العمل بالعلم، فالعلم ليس غاية، وإنما هو وسيلة للعمل به، قال تعالى:" إنما يخشى الله من عباده العلماء "[فاطر/28]
قال ابن مسعود: إنما العلم الخشية، فمن أوتى شيئًا من العلم ولم يؤت مثله من الخشوع فهو مخدوع.
ثالثًا: الدخول في الدين كله، والإيمان بالكتاب كله، فيؤمنون بنصوص الوعد ونصوص الوعيد، وبنصوص الإثبات ونصوص التنزيه، ويجمعون بين الإيمان بقدر الله، وإثبات
إرادة العبد ومشيئته وفعله، كما يجمعون بين العلم والعبادة، وبين القوة والرحمة، وبين الأخذ بالأسباب والزهد ..
رابعًا: الاتباع، وترك الابتداع، ونبذ الفرقة والاختلاف في الدين.
خامسًا: الاقتداء والاهتداء بأئمة الهدى العدول المقتدى بهم في العلم والعمل والدعوة، وهم الصحابة ومن سار على نهجهم، ومجانبة من خالف سبيلهم.
سادسًا: الحرص على جمع كلمة المسلمين على الحق، وتوحيد صفوفهم على التوحيد والاتباع، وإبعاد كل أسباب النزاع والخلاف بينهم.
ومن هنا لا يتميزون على الأمة في أصول الدين والاعتقاد باسم سوى "السنة والجماعة " ولا يوالون ولا يعادون على رابطة سوى الإسلام والسنة.
سابعًا: التوسط.
فهم في الاعتقاد وسط بين فرق الغلو وفرق التفريط، وهم في الأعمال والسلوك وسط بين المفْرطين والمفَرِّطين.
ثامنًا: الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير منكر، والجهاد بمفهومه الواسع الشامل وضوابطه الشرعية،
وإحياء السنة بنشر العلم، وإيجاد القدوة والدعوة إلى ذلك، والعمل لتجديد الدين، وإقامة شرع الله وحكمه في كل صغيرة وكبيرة ..
تاسعًا: الإنصاف والعدل:
فهم يراعون حق الله تعالى لا حق النفس أو الطائفة؛ ولهذا لا يغالون في مُوالٍ، ولا يجورون على معادٍ، ولا يغمطون ذا فضل فضله أيًّا كان.
عاشرًا: التوافق في الأفهام والتشابه في المواقف رغم تباعد الأقطار والأعصار، وهذا من ثمرات وحدة المصدر والتلقي.
حادي عشر: الإحسان والرحمة وحسن الخُلق مع الخَلق كافة.
ثاني عشر: النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
ثالث عشر: الاهتمام بأمور المسلمين ونصرتهم، وموالاتهم وأداء حقوقهم، وكف الأذى عنهم مع دوام الدعاء لهم.
المنطلق السادس
الفقه = الفهم
وفهم السلف أعلم وأسلم وأحكم.
المنطلق السادس
فهم السلف
قال الله عز وجل: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "[الحجر/9]
وقال صلى الله عليه وسلم: " نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ "(1)
بالآية والحديث نفهم، وباستقراء الأحوال والنظر في التاريخ نعلم تصديق كلام ربنا عز وجل وحديث نبينا صلى الله عليه وسلم، فنشهد أن الله قيض لحفظ كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فحولاً جهابذة من أئمة المسلمين، وورثة سيد المرسلين عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم، جعلهم الله وسائط ووسائل بين الناس وبين رسوله صلى الله عليه وسلم، يبلغون الناس ما قال، ويفهمون مراد رسول الله، ويقولون: هذا عهد رسول الله إلينا، ونحن عهدناه إليكم.
هكذا يتلقاه كل خالف عن سالف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين "(2)
(1) أخرجه الترمذي (2656) ك العلم عن رسول الله، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، وقال: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2139).
(2)
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/ 38)، قال في كنز العمال: قال الخطيب سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث وقيل له كأنه كلام موضوع قال لا هو صحيح سمعته من غير واحد.
وفي الصحيح من حديث أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضًا فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به، فعَلِم وعَّلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به "(1)
يقول ابن القيم رحمه الله: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم النَّاس بالنسبة إلى الهدى والعلم ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وهم الذين قاموا بالدين علمًا وعملاً، ودعوة إلى الله عز وجل ورسوله.
فهؤلاء أتباع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه حقًا، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت، فقبلت الماء، فانبتت الكلأ والعشب الكثير، فزكت في نفسها، وزكا النَّاس بها، وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين، والقوة على الدعوة؛ ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم:" واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار"[ص /45] أي البصائر في دين الله
(1) أخرجه البخاري (79) ك العلم، باب فضل من علم وعلَّم، ومسلم (2282) ك الفضائل، باب بيان مثل ما بعث به النبي من الهدى والعلم.
عز وجل، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوى يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه.
فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم في الدين، والبصر بالتأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهمًا خاصًا.
كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟
فقال: لا ـ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ـ إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه.
فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض، وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية، فإنَّها حفظت النصوص، وكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس، وتلقوها منهم، فاستنبطوا منها، واستخرجوا كنوزها، واتجروا فيها، وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات، ووردها كل بحسبه " قد علم كل أناس مشربهم "[البقرة /60]
وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبي: " نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ
…
بِفَقِيهٍ " (1)
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
وهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القران، مقدار ما سمع من النبي لم يبلغ نحو العشرين حديثًا، الذي يقول فيه " سمعت " و" رأيت "، وسمع الكثير من الصحابة، وبورك في فهمه، والاستنباط منه حتى ملأ الدنيا علمًا وفقهًا.
قال أبو محمد بن حزم: وجمعت فتاويه في سبعه أسفار كبار، وهي بحسب ما بلغ جامعها، وإلا فعلم ابن عباس كالبحر، وفقهه واستنباطه وفهمه في القران بالموضع الذي فاق به الناس، وقد سمع كما سمعوا، وحفظ القران كما حفظوه، ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي، وأقبلها للزرع، فبذر فيها النصوص، فانبتت من كل زوج كريم، " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم "[الحديد /21]
وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره، وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق، يؤدي الحديث كما سمعه، ويدرسه بالليل درسًا، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ، وبلغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط، وتفجير النصوص وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها. وهكذا الناس بعده قسمان:
قسم الحفاظ معتنون بالضبط والحفظ، والأداء كما سمعوا، ولا يستنبطون، ولا يستخرجون كنوز ما حفظوه.
وقسم معتنون بالاستنباط، واستخراج الأحكام من النصوص، والتفقه فيها.
فالأول: كأبي زرعة، وأبى حاتم، وابن وارة، وقبلهم كبندار محمد بن بشار، وعمرو الناقد، وعبد الرزاق، وقبلهم كمحمد بن جعفر غندر، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم من أهل الحفظ والإتقان، والضبط لما سمعوه، من غير استنباط وتصرف واستخراج الأحكام من ألفاظ النصوص.
والقسم الثاني: كمالك، والشافعي، والأوزاعي، وإسحق، والإمام أحمد بن حنبل، والبخاري، وأبي داود، ومحمد بن نصر المروزي، وأمثالهم ممن جمع الاستنباط والفقه إلى الرواية.
فهاتان الطائفتان هما أسعد الخلق بما بعث الله تعالى به رسوله، وهم الذين قبلوه، ورفعوا به رأسًا.
وأما الطائفة الثالثة: وهم أشقى الخلق، الذين لم يقبلوا هدي الله، ولم يرفعوا به رأسًا، فلا حفظ، ولا فهم، ولا رواية، ولا دراية، ولا رعاية.
فالطبقة الأولى: أهل رواية ودراية.
والطبقة الثانية: أهل رواية ورعاية، ولهم نصيب من الدراية، بل حفظهم من الرواية أوفر.
والطبقة الثالثة: الأشقياء، لا رواية، ولا دراية، ولا رعاية، " إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا "[الفرقان /44] فهم الذين يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، إنْ همة أحدهم إلا بطنه وفرجه، فإن ترقت همته كان همه ـ مع ذلك ـ لباسه وزينته، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همه في الرياسة والانتصار للنفس الغضبية، فإن ارتفعت همته عن نصرة النفس الغضبية كان همه في نصرة النفس الكلبية، فإن لم يعطها انتقل إلى نصرة النفس السبعية، فلا يعطيها إلا واحد من هؤلاء فإنَّ النفوس: كلبية، وسبعية، وملكية.
فالكلبية تقنع بالعظم والكسرة والجيفة والقذرة.
والسبعية لا تقنع بذلك، بل بقهر النفوس، تريد الاستعلاء عليها بالحق والباطل.
وأما الملكية فقد ارتفعت عن ذلك، وشمرت إلى الرفيق الأعلى، فهمتها العلم والإيمان ومحبة الله تعالى، والإنابة إليه، وإيثار محبته ومرضاته، وانما تأخذ من الدنيا ما تأخذ؛ لتستعين به على الوصول إلى فاطرها وربها ووليها لا لتنقطع به عنه " (1) أهـ
بعد هذا الكلام المتين لابن القيم ـ رحمه الله تعالى وملأ قبره نوراً ـ، علمنا أنَّ النَّاس في العلم صنفان بتصنيف رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حفاظ نقلة.
…
فقهاء مجتهدون.
(1) الوابل الصيب (55، 56).
وقد يجمع الوصفين رجال ـ رضي الله عن الجميع. ـ فهؤلاء حملوا الدين، حملوا العلم من الصحابة فمن بعدهم، حملوه كاملاً مكملاً، وبلغوه كما حملوه، لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة فعلها أو قالها أو أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ونقلوها كما قال، وفهم بعضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله فاستنبطوا الأحكام من النصوص، فهموا معاني الكتاب والسنة تارة من نفس القول، وتارة من معناه، وتارة من علة الحكم، حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك.
وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف عليه فهم الشريعة بعدهم، واحتيج في إيضاحها إليه، ومن تمام العصمة أن جعل الله العلماء أعداداً غفيرة، فإذا أخطأ الواحد في شيء رده الآخر، وأصاب الثالث.، ثم قيض الله من بعدهم تلاميذهم، فتعقبوا أقوالهم، وبينوا ما كان من خطأ، وأثبتوا ما كان من صواب، كل ذلك من حفظ الله لذلك الدين، حتى يكون أهله كما وصفهم الله:" يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"[التوبة/71]
ومن تمام العصمة أن تجد مع هذه الكثرة، منهم الحافظ الضابط العدل، ومنهم الحكيم الفقيه المتقن، ومنهم أهل اللغة، ومنهم أهل القراءات، ومنهم أهل الأصول، ومنهم العلماء بالرجال الخبراء بمراتبهم، والكل يكمل بعضهم بعضاً، ويحيلون أصحاب كل سؤال عن علم إلى عالمه، واقرأ معي هذا الأثر البديع وتأمل ـ لا حرمك الله فقهه ـ آمين.
روى الدارمي في سننه قال: أخبرنا الحكم بن المبارك أخبرنا عمرو بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟
قلنا: لا. فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا.
فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفا أمرًا أنكرته، ولم أر ـ والحمد لله ـ إلا خيرًا.
قال: فما هو؟ فقال: إنْ عشت فستراه.
قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة. فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة. فيهللون مائة، ويقول سبحوا مائة. فيسبحون مائة.
قال: فماذا قلت لهم؟
قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك وانتظار أمرك.
قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم.
ثم مضى، ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم.
فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟
قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح.