الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالموقفُ الرشيدُ حينئذٍ التثبتُ، وذلك بتمحيصِ الخبرِ والتحققِ من صدقِه قبلَ إفشائِه وإذاعتِه.
قال اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
فعلى العاقلِ ألا يغترَّ بكلامٍ يتناقلُه جماهيرُ النَّاسِ دونَ تثبتٍ أو تمحيصٍ، إذ عادةُ هؤلاءِ السُّرعةُ في إساءةِ الظنِّ قبلَ إحسانهِ، وقد نُهينا عن الظنِّ الذي لا يُغني من الحقِّ شيئًا.
فعليك -أيها المتفقه- أن تتثبتَ سندًا ومتنًا، فتنظر فيمن ينقلُ، وهل هو من الثقاتِ العدولِ المشهودِ لهم بالديانةِ واستقامةِ الحالِ، ثمَّ فيما يُنقَلُ هل يحتمل وجوهًا فتردُّها إليها، فتسلمُ ويَسْلَمُ قلبُك. وخُذْها عن أهلِ الجرح والتعديل: كل رجلٍ ثبتت عدالتُه لم يُقبلْ فيه تجريحُ أحدٍ إلا بأمرٍ بَيَنٍ (1).
القاعدةُ الحاديةَ عشر: الاعتبارُ في الحكمِ بكثرةِ الفضائلِ:
فالعلماءُ على الجملةِ عُدولٌ ثقات، وهم خيرُ البريةِ، وصفوةُ الأمَّةِ، وإذا كان الأمرُ كذلك فينبغي أن يُغتفَر قليلُ خطأِ العالمِ بالنسبةِ لكثيرِ صوابِه، والنَّادرُ لا حُكمَ له، والعبرةُ على الغلبةِ لا على النُّدرةِ.
(1)"الرفع والتكميل"(ص 429).
قال سعيدُ بنُ المسيبِ: ليس مِن عالمٍ ولا شريفٍ ولا ذي فضلٍ إلا وفيه عَيْبٌ، ولكنْ مَن كان فضلُه أكثرَ من نقصِه وَهِبَ نقصُه لفضلِه، كما أن مَن غَلَب عليه نقصانُه ذَهبَ فضلُه (1).
قال ابنُ القيمِ رحمه الله: ومَن له علمٌ بالشرع والواقعِ يعلمُ قطعًا أنَ الرجلَ الجليلَ الذي له في الإسلامِ قدمٌ صالح وآثارٌ حسنةٌ، وهو من الإسلامِ وأهلِه بمكانٍ، قد تكونُ منه الهفوةُ والزلةُ هو فيها معذورٌ بل مأجورٌ لاجتهادِه، فلا يجوزُ أن يُتبعَ فيها، ولا يجوزُ أن تهدرَ مكانتُه وإمامتُه في قلوبِ المسلمين (2).
وقال أيضًا: فلو كان كلُّ مَن أخطأ أو غَلِط تُرِك جملةً وأُهْدِرَتْ محاسنُه لفسدتِ العلومُ والصناعاتُ والحكم وتعطلتْ معالمها (3).
ويقول ابنُ رجبٍ رحمه الله: والمُنصفُ مَن اغتفر قليلَ خطأِ المرءِ في كثيرِ صوابِه (4).
ويقولُ الإمامُ الذهبي: "نحبُّ السُّنةَ وأهلَها، ونحبُّ العالمَ على ما فيه من الاتباعِ والصفاتِ الحميدةِ، ولا نحبُّ ما ابتدع فيه بتأويلٍ سائغٍ، وإنما العبرةُ بكثرةِ المحاسنِ"(5).
(1)"جامع بيان العلم"(2/ 48).
(2)
"إعلام الموقعين"(3/ 283).
(3)
"مدارج السالكين"(2/ 39).
(4)
"القواعد" لابن رجب (ص 3).
(5)
"سير أعلام النبلاء"(20/ 46).
ولو أنَّ كل مَن أخطأ في اجتهاده مع صحةِ إيمانِه، وتَوَخِّيه لاتباعِ الحق أهدرناه وبَدَّعناه، لَقَل مَن يسلمُ من الأئمةِ من ذلك.
يقول الإمامُ الذهبي رحمه الله: " ثم إن الكبير من أئمةِ العلمِ إذا كَثُر صوابُه، وعُلِم تحريه للحق، واتسع علمُه، وظَهَر ذكاؤُه، وعُرِف صلاحُه وورعُه واتباعُه، يغفرُ له زللُه، ولا نضللُه ونطرحُه وننسى محاسنَه، نعم ولا نقتدي به في بدعتِه وخطئِه، ونرجو له التوبةَ من ذلك"(1).
وقال رحمه الله: وإنما يُمدحُ العالمُ بكثرةِ ما لَه مِن الفضائلِ، فلا تُدفنُ المحاسنُ لورطةٍ، ولعله رَجَع عنها، وقد يغفرُ له باستفراغِه الوسعَ في طلبِ الحق، ولا قوةَ إلا باللهِ (2).
فهذه القاعدةُ الذهبيةُ سلفيةُ المشربِ في وزنِ الرجالِ من حيثُ كثرةُ الفضائلِ أو المساوئِ، أما تَرَى الرسولَ صلى الله عليه وسلم يعفو عن حاطبِ بنِ أبي بلتعة في شأنِ مراسلتِه للكفارِ لأنه شَهِد بدرًا (3)، ويقولُ في شأنِ عثمانَ لما جَهَّز جيشَ العُسْرَةِ: ما ضَر ابنَ عفانَ ما عَمِل بعدَ اليومِ (4).
(1)"السير"(5/ 271).
(2)
المصدر نفسه.
(3)
انظر قصة حاطب في "الصحيحين"، رواها البخاري (3007) ك: الجهاد، باب: الجاسوس، ومسلم (1941) ك: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر.
(4)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 63)، والترمذي (3701) ك: المناقب، باب: مناقب عثمان ابن عفان وقال: حسن غريب من هذا الوجه، وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي"(2920).
ويؤصِّلُ ابنُ القيمِ رحمه الله هذه القاعدةَ الذهبيةَ بكلام نفيسٍ فخذْه هنيئًا مريئًا، يقول -رحمه الله تعالى-:
من قواعدِ الشرعِ والحكمةِ أيضًا أنَّ مَن كثُرَتْ حسناتُه وعَظُمَت، وكان له في الإسلامِ تأثيرٌ ظاهرٌ، فإنه يُحتملُ له ما لا يُحتملُ لغيرِه، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيرِه، فإنَّ المعصيةَ خَبَثٌ، والماءُ إذا بَلَغ قلتينِ لم يحمل الخَبَثَ، بخلافِ الماءِ القليلِ فإنه يحملُ أدنى خَبَثٍ،
…
ثم يقولُ: وهذا موسى كليمُ الرحمنِ عز وجل ألقى الألواحَ التي فيها كلامُ اللهِ الذي كتبه له، ألقاها على الأرضِ حتى تكسرتْ، ولَطَم عينَ مَلَكِ الموتِ ففقأها، وعاتب ربَّه ليلةَ الإسراءِ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم
…
وأَخَذ بلحيةِ هارونَ وجَرَّه إليه، وهو نبيُّ اللهِ، وكل هذا لم ينقصْ من قَدْرِه شيئًا عند ربِّه، وربُّه يكرمُه ويُحبُّه، فإنَّ الأمرَ الذي قام به موسى، والعدوَ الذي بَرَز له، والصبرَ الذي صبره، والأذى الذي أوذيه في اللهِ أمرٌ لا تؤثرُ فيه أمثالُ هذه الأمورِ، ولا تغيرُ في وجهِه، ولا تخفضُ منزلتَه، وهذا أمرٌ معلومٌ عندَ النَّاسِ مستقرٌّ في فطرِهم، أنَّ مَنْ له ألوفٌ من الحسناتِ فإنَّه يُسامح بالسيئةِ والسيئتينِ ونحوِها، حتى إنه ليختلجُ داعي عقوبتِه على إساءتِه، وداعي شكرِه على إحسانِه، فيغلبُ داعي الشكرِ لداعي العقوبةِ.
كما قيل:
وإذا الحَبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ
…
جاءتْ محاسنُه بألفِ شفيعِ