الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
25) ومن فضل العلم: أنَّه لا يُحَدُّ نفعه.
- قال ميمون بن مهران: إنَّ مثل العالمِ في البلد كمثل عين عذبة في البلد (1).
- وقال بعضهم: مثل العلماء مثل الماء حيثما سقطوا نفعوا (2).
- وقال الإمام أحمد في وصف الشافعي رحمه الله: كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للنَّاس، فهل لهذين من خلف، أو منهما عوضٌ (3).
فهذا غيض من فيض في هذا الباب، وأنصحك بمطالعة كتاب " مفتاح دار السعادة " فقد عقد ابن القيم فيه فصلاً ماتعًا عن فضل العلم وشرفه، ناهيك عمَّا سطره ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " فاغتنمهما.
ماذا نعني بالعلم؟ وكيف يطلب
؟
أيها المتفقه ..
حين نقول العلم، فإنما نريد أن تعلم الأمة، كل الأمة، جميع الأمة، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، حكاماً ومحكومين، فكل أفراد الأمة على التعيين عليهم
(1)"جامع بيان العلم وفضله"(1/ 54).
(2)
المصدر نفسه (1/ 60).
(3)
"سير أعلام النبلاء"(10/ 45).
أنْ يعرفوا الله: الله جل وعلا الذي يعبدونه، الله الذي استسلموا له بالإسلام، أن يعرفوا الله. من خلال عقيدة صحيحة صافية سليمة نقية واضحة.
وأن يعرفوا رسوله: فيعرفوه معرفة حقيقية؛ ليتبعوه، وليحبوه، وليوالوه، وليقتدوا ويتأسوا به، ولا يتركوا شيئاً من سنته وعمله إلا عملوه.
وأن يعرفوا ما تلزم معرفته من أمر الدنيا والدين إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وللوسائل حكم المقاصد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " طلب العلم فريضة على كل مسلم" ـ وفي رواية " على كل مؤمن "(1)، وتأتى هذه الأهمية بعد قضية الإيمان بالله عز وجل، فأول واجب على كل مسلم الإيمان بالله تعالى، ويليه العلم؛ لأنَّك بالتعلم تصحح إيمانك وعقيدتك، وتصحح عملك، فالتعلم هو الوسيلة التي يتمكن بها المكلف من تصحيح إيمانه، ومن تصحيح عمله.
والتعلم له طريقان بحسب طاقة الناس:
1) فمن كان قادراً على تلقى العلم من شيوخه بالجلوس عند ركبهم، ودراسة العلوم عليهم، وجب عليه أن يتعلم الحد الواجب من العلوم بهذه الطريقة.
(1) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (10/ 240)، والصغير (1/ 16)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (10/ 375، 11/ 424) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3913).
2) ومن لم يكن قادراً على ذلك فليتعلم بطريقة السؤال؛ يسأل أهل الذكر وأهل العلم عن المسائل الضرورية التي يصحح بها عمله، ويصحح بها إيمانه ..
قال الله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إنْ كنتم لا تعلمون "[النحل /43]
وقال صلى الله عليه وسلم " فإنَّما شفاء العي السؤال "(1)
وقد سلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا المسلكين، كلٌ على قدر طاقته، وعلى قدر إمكاناته، فالمهاجرون والأنصار الذين كانوا معه في المدينة النبوية المباركة أكثرهم تلقوا العلم من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يسمعه من فمه صلى الله عليه وسلم يسمعه عمن سمعه منه صلى الله عليه وسلم،. وكانوا يتناوبون على سماع العلم منه صلى الله عليه وسلم.
في الصحيحين عن عبد الله بن عباس عن عمر رضي الله عنهما قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك .. " (2)
وكثير من المسلمين في عهده الذين لم يستطيعوا التعلم بهذه الطريقة تلقوه بطريق السؤال، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل حدب
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري (89) ك العلم، باب التناوب في العلم، ومسلم (1479) ك الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء.
وصوب يسألون عن الضروري من أمور دينهم، فيجيبهم صلى الله عليه وسلم بأوجز وأبلغ عبارة، فيفهمون المراد، ويرجعون إلى بلادهم وأقوامهم، يبادرون إلى العمل.
فهذا رجل من ثقيف يأتي بعد أن امتن الله على قبيلته فدخلت في الإسلام لكن ذلك كان في فترة متأخرة، فيرغب في الخير الذي حصَّله من سبقه، فيسأل النبي سؤالاً جامعًا، ويجيبه النبي بإجابة بليغة وجيزة.
عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ـ وفي رواية "غيرك " ـ قال: قل آمنت بالله فاستقم " (1)
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفرحون بمجيء أحد من الأطراف، خاصة إذا كان من البادية؛ لأنهم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل كان الصحابة يتهيبون من سؤاله صلى الله عليه وسلم عنها.
ولذلك قال أنس: كنا نهاب أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء،
وكان يعجبنا أن يأتيه الرجل من أهل البادية فيسأله، ونحن نستمع. (2)
وذلك بعد أن أنزل الله تعالى قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"[المائدة/101]
(1) أخرجه مسلم (38) ك الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام.
(2)
أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/ 80).
بل وحتى النساء كن يحرصن على سؤاله صلى الله عليه وسلم، وتعلم أمور الدين منه صلى الله عليه وسلم، فكانت المرأة من الصحابيات إذا استحيت أن تسأله مباشرة، سألته بواسطة بعض أمهات المؤمنين إذا كان الأمر يتعلق بشيء مما يستحي منه النساء، وأما في غير ذلك فيسألنه صلى الله عليه وسلم، ويحرصن على تلقي العلم منه.
في صحيح مسلم عن عائشة أنَّ أسماء رضي الله عنهما سألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها فقالت أسماء: وكيف تطهر بها!! فقال: سبحان الله تطهرين بها.
فقالت عائشة: كأنها تخفي ذلك تتَّبعين أثر الدم.
وسألته عن غسل الجنابة فقال: تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء.
فقالت عائشة نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في
…
الدين. (1)
(1) أخرجه مسلم (332) ك الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيضة فرصة من مسك.
وانظر إلى حرص النساء على تعلم العلم منه صلى الله عليه وسلم، جاءته أسماء بنت يزيد بن السكن رضى الله عنها وهو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، واعلم ـ نفسي لك الفداء ـ أنه ما من امرأة كانت في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع إلا وهي على مثل رأيي، أنَّ الله بعثك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك وبإلهك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم، ومفضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمع، والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجًا أو معتمرًا أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفما نشارككم في هذا الخير يا رسول الله؟!!
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها عن أمر دينها من هذه!!
قالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا.
…
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها، ثمَّ قال: انصرفي أيتها المرأة، واعلمي من ورائك من النساء أنَّ حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله.
قال: فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا. (1)
(1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/ 363 - 364)، (29/ 66).
فهذه طريقتهم في طلب العلم وحرصهم عليه وحسن سؤالهم عن شئونهم الحقيقية، وتوصيفهم الصحيح لواقعهم بعد فهمهم الدين، فلم يكونوا يفترضون الأمثلة، ولا يطرحون الأمثلة للترف العلمي والفكري، فتعلموا ونقلوا الدين بأمانة، فوصلنا الدين من خلال هؤلاء الصحابة العلماء الأجلاء كاملاً مكملاً، فلا تجد ثغرة في ديننا ولا مسألة إلا وعندك منها علمًا، فجزى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عنَّا وعن أمة الإسلام خير الجزاء، وجزى صحابته خير الجزاء، وإنما أعرضوا عمَّا لا ينفع، وهذا ما علمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما جاءه رجل يقول: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها.
فأحاله على ما ينفع، ودله على أن يسأل عمَّا يفيده في دينه، وينفعه في آخرته، فأين اليوم أنت ـ أخي طالب العلم ـ من هؤلاء، وكيف تطلب؟ وعمَّ تسأل؟ وفيم تبحث؟!!!
ـ إخوتاه أحبتي في الله ـ
إنَّ قضية التعلم اليوم، قد دخلها دخن كثير، وشابتها شوائب كثيرة، ما بين خرافات موروثة من التاريخ، نقلها أهل الزيغ والعناد لا أهل العلم المتخصصون، وما بين انحرافات صنعتها أصابع معاصرة، أصابع مشبوهة، غير مخلصة، لها أغراض مريبة،
فما بين الخرافات الموروثة من ركام التاريخ، وما بين انحرافات المعاصرين وقع المتفقهون في تعب وحيرة، إذ بغيتهم وغايتهم معرفة الله عز وجل، وعبادته بما شرع على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذه يجب أن تكون غاية كل مسلم يريد التفقه.، ولكن الطريق فيه كثير من المكاره والعقبات، خاصة بعد أن دخلها هذا الدخن في عصرنا الحاضر.
فهناك حاجة ماسة للمتفقهين إلى معرفة معالم الطريق الصحيح للتفقه في دين الله عز وجل. فهاك عشرة منطلقات على طريق التعلم عسى أن تكون ومضات تضئ طريق الطلب، أو علامات تصحح السير.
المنطلق الأول
البواطن البواطن
…
النيات النيات
…
الإخلاص الإخلاص
فإن عليكم من الله عيناً ناظرة.
المنطلق الأول
(الإخلاص وصدق النية)
قال تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء "[البينة /5].
وقال صلى الله عليه وسلم: "بشر هذه الأمة بالسناء والتمكين في البلاد، والنصر والرفعة في الدين، ومن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من
…
نصيب " (1)
فانظر ـ أخي في الله وحبيبي ـ إلى هذا الربط الخطير بين التمكين والإخلاص فبه تعلم ما سبب تأخر التمكين.
إنَّ من أخطر الأسباب التي تحول بين الأمة وبين التمكين في هذا العصر الذي يعاني فيه المسلمون من الهوان: " فساد النية "
يا أيها العامل لنصر الدين، الآمل حصول التمكين، أخلص النية لله تعالى، وإلا فالنار النار.
أيها المتفقه
…
لماذا نتعلم؟ لماذا نتفقه؟ لماذا نطلب العلم؟
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 134)، وابن حبان (2/ 132) برقم (405)، والحاكم في المستدرك (4/ 346) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (2825).
قال صلى الله عليه وسلم:" من طلب العلم ليباهي به العلماء، ويمارى به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار "(1).
فهذا الحديث الخطير قاضٍ بأنَّ على طالب العلم أن يصحح نيته في طلبه، فلا يكون إلا لله وحده، يبتغى عنده الرضوان، ويرجو لديه الثواب، لا ليرتفع به في أعين الناس، ويعلو به فوق أعناقهم، ويركب به أكتافهم، ولكن:
كيف يصحح طالب العلم نيته؟ أو بمعنى آخر ماذا ينوي؟
قال ابن جماعة: حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى والعمل به، وتنوير قلبه، وتحلية باطنه، والقرب من الله تعالى يوم القيامة، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه، وعظيم فضله.
…
قال سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نيتي.
…
ولا يقصد به الأغراض الدنيوية؛ من تحصيل الرياسة والجاه والمال، ومباهاة الأقران، وتعظيم الناس له، وتصديره في المجالس ونحو ذلك، فيستبدل الأدنى بالذي هو خير.
قال أبو يوسف رحمه الله: يا قوم أريدوا بعملكم الله تعالى، فإني لم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلساً قط أنوي
…
فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح.
(1) أخرجه ابن ماجة (253) في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6158).
والعلم عبادة من العبادات، وقربة من القرب، فإنْ خلصت فيه النية قُبِل وزكَّا، ونمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله تعالى حبط وضاع، وخسرت صفقته، وربما تفوته تلك المقاصد، ولا ينالها فيخيب قصده، ويضيع سعيه " أهـ (1)
فيا أيها المتفقه:
أخلص نيتك، وطهر قلبك من الرياء، واقصد وجه الله بتوجهك تكسب خيري الدنيا والآخرة، وإلا فالخسار والدمار وخراب الديار.
عن أبي أمامة قال: قال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته "(2)
انتبه ـ أيها المتفقه ـ فإنَّك تطلب الخير من الله، وما عند الله لا ولن ينال إلا بطاعته.
قال صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات ـ وفي رواية مسلم " بالنية " ـ وإنما لكل امرئ ما نوى"(3)
(1) تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم ص (69،70).
(2)
أخرجه أبو نعيم في الحلية وصححه الألباني في صحيح الجامع (2085).
(3)
متفق عليه. أخرجه البخاري (1) ك بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسلم (1907) كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:" إنما الأعمال بالنية "، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال.
فالنية هي الأصل، والله الحسيب والرقيب، مطلع على السرائر والضمائر، لا تخفي عليه خافية،. وكم من عمل يتصور بصورة أعمال الدنيا فيصير بحسن النية من أعمال الآخرة، وكم من عمل يتصور بصورة أعمال الآخرة فيصير بسوء النية من أعمال الدنيا فلتحذر.
قال عبد الله الأنطاكي: من طلب الإخلاص في أعماله الظاهرة، وهو يلاحظ الخلق بقلبه، فقد رام المحال؛ لأنَّ الإخلاص ماء القلب الذي به حياته، والرياء يميته.
فلا بد إذاً للنجاة في الآخرة، وللانتفاع بالعلم في الدنيا، والنفع به، من الإخلاص، رزقنا الله وإياكم إياه.
ولكن الإخلاص عزيز.
قال بعض السلف: أعز شئ في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر.
وكان من دعائهم: اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه ثم عدت فيه، واستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لم أف لك به، واستغفرك مما زعمت أنى أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت.
ومن أجل تلك العزة والندرة للإخلاص أحذر إخواني.
فيا أيها المتفقه ..
احذر أن تكون منافقاً، وأنت لا تشعر، مرائياً من حيث لا تعلم، احذر الشهوة الخفية، فإنَّ كثيراً من طلاب العلم سقطوا لمَّا
غفلوا عن تلك الشهوات الخفية، وهي عند الله من الكبائر، ولعلها أكبر من الزنى وشرب الخمر، وهذه الشهوات الخفية تهجم على قلب المتعلم صغيراً كان أو كبيراً، مشهوراً كان أو مغموراً، فتفسد عمله، وتخيِّب قصده، عافانا الله وإياكم منها. .
إنها شهوة الترفع وحب الظهور، شهوة كسب الاحترام والتوقير.، شهوة طلب الشهرة وأن يشار إليه بالبنان.، إنها مصيبة اتخاذ العلم وسيلة لنيل غرض من أغراض الدنيا؛ لبناء الأمجاد الشخصية، والعلو على الناس، والاستعظام عليهم، واحتقار الآخرين وازدرائهم، وعيبهم والتشنيع عليهم، شهوة حب التصدر، وأن ينشغل الناس به، وينقادوا إليه، ثم تكون النتيجة: الكبر.، الغرور.، العجب.، الأنانية، وحب الذات،. وعبادة النفس، والانتصار لها، والغضب لها،. وعبادة الهوى.
وهذه ـ والله ـ بليات نعوذ بالله منها، تسقط بسببها سماء إيمانك على أرضه، فلا تقوم للقلب قائمة، وواللهِ إنَّ القلب ليقشعر من مجرد تعديد هذه الأمراض، عافانا الله وإياكم منها.
ولعمر الله إنَّ قضية الرياء والشهوة الخفية لهي الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى، فشوب النيات يورث الرياء والشرك، والرياء مدخل النفاق، والمعصية بريد الفسق، وهما دهليز الكفر.
ولكن تُرى: كيف تدخل هذه الأمراض على القلوب؟
يقول أبو الحسن الماوردى: " وقلما تجد بالعلم معجباً، وبما أدرك مفتخراً، إلا من كان فيه مقلاً مقصراً؛ لأنه قد يجهل قدره، ويحسب أنه نال بالدخول فيه أكثره.، فأما من كان فيه متوجهاً، ومنه مستكثراً، فهو يعلم من بعد غايته والعجز عن إدراك نهايته ما يصده عن العجب به. (1)
وقد قال الشعبي: العلم ثلاثة أشبار: فمن نال شبراً منه شمخ بأنفه، وظن أنَّه ناله، ومن نال منه الشبر الثاني صغرت إليه نفسه، وعلم أن لم ينله، وأما الشبر الثالث فهيهات لا يناله أحداً أبداً.
هكذا بان لك ـ أخي في الله ـ السبب الحقيقي لهذا الداء العضال والمرض الخطير، ويرحم الله علماء السلف فقد كانوا أعلم الناس بأسباب النجاة، نعم
…
ـ والله ـ أُتِىَ المعجب من جهله، ونعوذ بالله من الجهل وأهله.
وأنا إذ أحذرك من تلك الشهوة الخفية فلا بد أن أذكر لك ـ حبيبي في الله ـ بعض مظاهرها؛ لأنها قد تخفي على الكثير إلا من وفقه الله.
فمن مظاهر هذه الشهوة الخفية:
1.
أن يشتغل المتفقه بفرض الكفاية عن فرض العين؛ وأن يشتغل بعلوم الاجتهاد قبل أن يتفقه في دين الله عز وجل.
فتجد المسكين بلا عقيدة صحيحة، ولا معرفة صادقة بأسماء الله وصفاته، ولا إلمام بتصحيح العبادات الظاهرة والباطنة، ومع ذلك هو
(1) أدب الدنيا والدين ص (81).
عاكف على علوم الآلات، ويهجم على النصوص ويستنبط ويرجح بين الأقوال، ويرد على العلماء ويتعصب، ويغضب لنفسه ورأيه، لا لدين الله عز وجل، فهذا هو الخذلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال في مختصر منهاج القاصدين: " وأنت تجد الفقيه يتكلم في الظهار واللعان والسبق والرمي، ويفرع التفريعات التي تمضي الدهور ولا يحتاج إلى مسألة منها، ولا يتكلم في الإخلاص، ولا يحذر من الرياء، وهذا عليه فرض عين؛ لأنَّ في إهماله هلاكه، والأول فرض كفاية، ولو أنَّه سئل عن علة ترك المناقشة للنفس في الإخلاص والرياء لم يكن له جواب "(1)
2) ومن المظاهر كذلك: الجرأة على الفتوى وتعجل التدريس.
قال الله تعالى: " آلله أذن لكم أم على الله تفترون "[يونس/59]
ومن تأمل سير السلف يعرف حقًا كيف كان هؤلاء الأكابر أكثر الناس علمًا وورعًا، فكانوا يهابون مما يقتحمه المتعالمون في هذه الأيام، ومما يقع فيه علماء السوء من شواذ المسائل.
قال أبو داود في مسائله: ما أحصى ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول لا أدري.
قال: وسمعته يقول ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه، كان أهون عليه أن يقول لا أدري.
(1) مختصر منهاج القاصدين ص (27).
وقال عبد الله ابنه في مسائله سمعت أبي يقول وقال عبد الرحمن بن مهدي سأل رجل من أهل الغرب مالك ابن أنس عن مسألة فقال لا أدري فقال يا أبا عبد الله تقول لا أدري قال نعم فأبلغ من ورائك أني لا أدري.
وقال عبد الله: كنت أسمع أبي كثيرًا يسأل عن المسائل فيقول: لا أدري، ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف، وكثيرا ما كان يقول: سل غيري فإن قيل له من نسأل قال سلوا العلماء ولا يكاد يسمي رجلا بعينه.
يقول ابن القيم: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى. (1)
قال عبد الرحمن ابن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراه قال: في المسجد، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وقال سحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه
(1) إعلام الموقعين لابن القيم (1/ 33،34)، المدخل لابن بدران (1/ 120) ط مؤسسة الرسالة.
فأين هؤلاء الأصاغر المتعالمون من أدب سلفنا الصالح، ولكنها الشهوة الخفية، وأين هؤلاء من الشروط والأسس التي وضعها سلفنا لحفظ جناب الدين من المتفيقهين.
قال الإمام أحمد: " لا ينبغي للرجل أن يعرض نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
إحداها:: أن تكون له نية، أي أنْ يخلص في ذلك لله تعالى، ولا يقصد رياسة ولا نحوها، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور، إذ الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة، وإلا لم يتمكن من فعل ما تصدى له من بيان الأحكام الشرعية.
الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته، وإلا فقد عرض نفسه لعظيم.
الرابعة:: الكفاية وإلا أبغضه الناس، فإنه إذا لم تكن له كفاية احتاج إلى الناس، وإلى الأخذ مما في أيديهم فيتضررون منه.
الخامسة: معرفة الناس. (1)
ولعلك إن فتشت فيمن حولك عمن تنطبق فيه تلك الأوصاف لا يسعفك عد عشرة على أصابع اليدين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(1) كشاف القناع للبهوتي (6/ 299) ط دار الفكر.
فحذار حذار من فتنة التصدر، وطلب الشهرة والجاه، فإنها ـ لعمر الله ـ قتالة للقلب، مفسدة له، دالة على سوء النوايا، وإنما من ابتلي بذلك صبر، ومن استراح من هذا شكر لو تعلمون.
2.
ومن العلامات أنه يشتهي المناظرة، ويبحث عن الجدل، ويكثر الكلام، ويهرف بما لا يعرف
قال الله تعالى: " وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً "[الكهف /54]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ في رَبَضِ الْجَنّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقاّ، وَبِبَيْتٍ في وَسَطِ الْجَنّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كان مَازِحاً، وَبِبَيْتٍ في أعْلَى الْجَنّةِ لِمَنْ حَسّنَ خُلُقَهُ " (1)
قال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شرا فتح عليهم الجدل، ومنعهم العمل.
قال معروف بن فيروز الكرخي: إذا أراد الله بعبد خيرًا فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرًا فتح له باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل. (2)
وقال بعض السلف: إذا رأيت الرجل لجوجًا مماريًا معجبًا برأيه فقد تمَّت خسارته.
وإنما يعطى الجدل الفتانون، فما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل، وما يشتهي المناظرة إلا الباحثون عن أعراض الدنيا الزائلة،
(1) أخرجه أبو داود (4800) ك الأدب، باب في حسن الخلق، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (4015).
(2)
اقتضاء العلم العمل ص (79).
وإنما كان الرجل من السلف لا يقع في المناظرة إلا اضطرارًا، وما زلَّ من زلَّ في هذا الباب إلا بسبب الرياء والسمعة، وإنما كان همُّ الأوائل الأعمال لا الأقوال، وصار قصارى همُّ بعضنا الآن الكلام طلبًا للظهور.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فان من ورائكم أياما الصبر فيهن القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم."(1)
وهذه وصية نبوية غالية، تشير إلى أمراض خطيرة، وأوبئة دوية:
شح مطاع، هوى متبع، دنيا مؤثرة، عجب وإعجاب بالرأي
فيا لها من أمراض قتَّالة، وأوبئة فتَّاكة، تفتك بالدين، وتقتل الإخلاص، وإنَّما المرض العضال الحامل على كل هذا والمؤدي إليه: حب الظهور، وشهوة التصدر، والرغبة في الشهرة، والعلو على الأقران، فنسأل الله العافية من أمراض القلوب، ونسأله هو العلي القدير أنْ يرزقنا الإخلاص، وأنْ يجمعنا على الصالحين من عباده في الدنيا والآخرة.
عن عبد الله بن المبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟!!
(1) أخرجه الترمذي (3058) ك التفسير، باب ومن سورة المائدة، وقال: حسن غريب.
قال: لأنَّهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق.
قال أبو قلابة لأيوب السختياني: يا أيوب إذا أحدث الله لك علمًا فأحدث لله عبادة، ولا يكونن همك أن تحدث به الناس.
قال الحسن البصري: همة العلماء الرعاية، وهمة السفهاء الرواية.
فإذا لم تجد القول موافقًا للعمل فاعلم أنه نذير النفاق.
قال عبد الله بن المعتز: علم المنافق في قوله، وعلم المؤمن في عمله.
وحكى الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ عن أبى الحسن القطان ـ رحمه الله تعالى ـ قوله: أُصبت ببصري، وأظن أنى عوقبت بكثرة كلامي أيام الرحلة.
قال الذهبي: " صدق والله، فقد كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً يخافون
…
من الكلام، وإظهار المعرفة. واليوم يكثرون الكلام مع نقص العلم،
…
وسوء القصد ثم إن الله يفضحهم، ويلوح جهلهم وهواهم واضطرابهم فيما علموه فنسأل الله التوفيق والإخلاص. أهـ
وعن معمر بن راشد قال: إنَّ الرجل يطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله.
قال الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ: " نعم يطلبه أولاً، والحامل له حب العلم، وحب إزالة الجهل عنه وحب الوظائف، ونحو ذلك، ولم يكن عَلِم وجوب الإخلاص فيه،
…
ولا صدق النية، فإذا علم حاسب نفسه، وخاف من وبال قصده، فتجيئه النية الصالحة كلها أو بعضها، وقد يتوب من نيته الفاسدة، ويندم، وعلامة ذلك أنه يُقْصِر من الدعاوى وحب المناظرة، ومن قَصْدِ التأثير بعلمه، ويُزْري على نفسه، فإن تَكَثَّر
…
بعلمه، أو قال أنا أعلمُ من فلان فبعداً له ".
قال الأصبهاني:
اعمل بعلمك، تغنم أيها الرجل
…
لا ينفع العلم إن لم يحسن العمل
والعلم زين، وتقى الله زينته
…
والمتقون لهم في علمهم شغل
وحجة الله يا ذا العلم بالغة
…
لا المكر ينفع فيها لا ولا الحيل
تعلم العلم واعمل ما استطعت به
…
لا يلهينك عنه اللهو والجدل
4) ومن العلامات الولع بالغرائب وتعمد البحث عن المهجور من الأقوال.
فبمجرد أن يتصيد مسألة من هنا أو هناك، سمعها في مجلس، أو من شريط، أو قرأها في صحيفة، أو في كتاب، يوالي ويعادى على تلك
المسألة.، وأكثر الناس اليوم لا علم له إلا ببعض المسائل، وليتها بالنافعة، وإنما شواذ المسائل، وغريب الآراء، والمهجور من الأقوال، وكأن الشعار "خالف تُعرف" فالخلاف عنده أشهى من الاتفاق.
كنت في صحبة شيخنا العلامة ابن عثيمين، وسألته عن مسألة يدندن حولها الكثيرون، فغضب الشيخ وأخذ يقول: من ذا الذي يحيي هذه المسائل بعد أن ماتت؟ وأخذ يردد ذلك.
فالولع بالغريب والشاذ من الأقوال، وإحياء المسائل المهجورة والتي حسمها أهل العلم منذ زمن بعيد، كل ذلك ـ إن كان عن عمد ـ يدل على خلل واضح، وسوء قصد بين، لا سيما إذا كان الأمر زلَّ فيه عالم من العلماء، ومن هنا حذر أهل العلم من تتبع هذه المسائل التي أسموها بـ " الطبوليات " إذ قيل:" زلة العالم مضروب لها الطبل ". (1)
3.
ومن المظاهر الشغب على المخالف والزهو بالمتبع.
فإنك تراه يشغب على من خالفه، ويعاديه، وينفر منه، ويفرح بالمدح، ويزهو بكثرة الاتباع، وبالضد تتميز الأشياء، وتلك من نتاج العصبيات والحزبيات، لعدم تحقيق عقيدة الولاء والبراء فيصير الولاء للمتبع، والبراء للمخالف، وما كان هذا هدي السلف في الخلاف، لا سيما في الفروع، ومن أهم علامات الصادق استواء المدح والذم عنده، فإن لم يكن كذلك فليتهم نفسه.
(1) حلية طالب العلم ص (7) للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد.
قال الإمام الذهبي ـ رحمه الله تعالى ورضى عنه ـ في سير أعلام النبلاء (1): عن عبد الرحمن بن مهدى عن طالوت: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: ما صدق الله عبد أحب الشهرة.
قلت (أي الذهبي رحمه الله: علامة المخلص الذي قد يحب الشهرة، ولا يشعر بها، أنه إذا عوتب في ذلك لا يحرد، ولا يبرئ نفسه، بل يعترف ويقول: رحم الله من أهدى إلىَّ عيوبي، ولا يكن معجباً بنفسه، لا يشعر بعيوبها، بل يشعر أنه لا يشعر، فإن هذا داء مزمن " أهـ
وما أغلاه من كلام، وصدق من قال: الذهبي ذهبي الكلام، حقاً إنه كلام أغلى من الذهب، فالمخلص إذا اتهم لم يكابر، لم يشمخ بأنفه، ولم تأخذه العزة بالإثم فيقول: أنا .. أنا .. أنا، وإنما يخضع ويذعن، ويخاف ويخشى، ويتهم نفسه، ويسيء الظن بها، ويقول: ويلى، وويل أمي، إنْ لم يرحمني ربى.
وعن الفضيل بن عياض قال: يا مسكين، أنت مسيء وترى أنَّك محسن، وأنت جاهل وترى أنَّك عالم، وتبخل وترى أنَّك كريم، وأحمق وترى أنَّك عاقل، أجلك قصير، وأملك طويل.
قال الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ: " قلت: إي والله صدق، وأنت ظالم وترى أنَّك مظلوم، وآكل للحرام وترى أنَّك متورع، وفاسق وتعتقد أنَّك عدل، وطالب العلم للدنيا وترى أنَّك تطلبه لله ". (2)
(1) سير أعلام النبلاء (7/ 393)
فائدة: وهذا الكتاب من أفضل كتب التربية بعد كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودائمًا ما ننصح طلبة العلم بالنظر فيه، وتتبع أخبار السلف، ومحاولة التأسي بهم ،
(2)
سير أعلام النبلاء (8/ 440).
نماذج من أقوال السلف
كان الحسن البصري كثيرًا ما يعاتب نفسه ويوبخها فيقول: تتكلمين بكلام الصالحين القانتين العابدين، وتفعلين فعل الفاسقين المنافقين المرائين، والله ما هذه صفات المخلصين.
وكان يوسف بن أسباط يقول: ما حاسبت نفسي قط إلا وظهر لي أنني مراءٍ خالص.
كان سفيان الثوري يقول: كل شئ أظهرته من عملي فلا أعده شيئاً؛ لعجز أمثالنا عن الإخلاص إذا رآه الناس.
وكان الفضيل بن عياض يقول: إذا كان يُسأل الصادقين عن صدقهم، مثل إسماعيل وعيسى عليهما السلام، فكيف بالكاذبين أمثالنا؟!!
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: من أراد أن يأكل الخبز بالعلم فلتبك عليه البواكي.
وقال الذهبي رحمه الله: ينبغي للعالم أن يتكلم بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت، وإن أعجبه الصمت فلينطق، ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء.
وقال على بن بكار البصري الزاهد (ت 207 هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ: " لأن ألقى الشيطان أحب إليَّ من أن ألقى حذيفة المرعشي، أخاف أن أتصنع له، فأسقط من عين الله ".
وفي ترجمة هشام الدستوائي قال عون بن عمارة: سمعت هشاما الدستوائي
…
يقول: والله ما أستطيع أن أقول أنِّي ذهبت يومًا قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل.
قلت ـ أي الذهبي ـ: والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولا لا لله، وحصلوه ثم استفاقوا، وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق.
كما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم، وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعدُ.
وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله.
فهذا أيضًا حسن، ثم نشروه بنية صالحة.
وقوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا، وليثنى عليهم، فلهم ما نووا.
قال صلى الله عليه وسلم: من غزا ينوي عقالاً فله ما نوى. (1)
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/ 315) والنسائي (6/ 24) والحاكم في المستدرك (2/ 109)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6401).
وترى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله تعالى.
وقوم نالوا العلم، وولوا به المناصب فظلموا، وتركوا التقيد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش فتبًا لهم، فما هؤلاء بعلماء!!
وبعضهم لم يتق الله في علمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار.
وبعضهم اجترأ على الله، ووضع الأحاديث فهتكه الله، وذهب علمه، وصار زاده إلى النار. وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئًا كبيرًا، وتضلعوا منه في الجملة، فخلف من بعدهم خلف بان نقصهم في العلم والعمل، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر، ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير، أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يدر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخًا يقتدى به في العلم، فصاروا همجًا رعاعًا، غاية المدرس منهم أنْ يحصل كتبا مثمنة يخزنها، وينظر فيها يوما ما، فيصحف ما يورده، ولا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو، كما قال بعضهم: ما أنا عالم، ولا رأيت عالمًا. (1)
وفي ترجمة ابن جريج: قال الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وابن جريج: لمن طلبتم العلم؟!! كلهم يقول: لنفسي. غير أنَّ ابن جريج فإنَّه قال: طلبته للناس.
(1) سير أعلام النبلاء (7/ 152 - 153).