الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والنجاة، والإشارات، والقانون، وغير ذلك من كتبه القيمة، التى انتفع الناس بها كثيراً.
ولقد جمع أبو علىّ ابن سينا إلى شهرته العلمية شهرة أخرى سياسية، إذ أنه كان يتقلد مع والده الأعمال للسلطان، ولما اضطربت أُمور الدولة أُخرج أبو علىّ من بخارى، وطوَّف ببلاد كثيرة حتى وصل إلى همدان، وهناك تقلَّد الوزارة لشمس الدولة. ثم ثار الجند عليه، وأغاروا على داره، ونهبوها، وقبضوا عليه، وسألوا شمس الدولة قتله فامتنع، ثم أُطلق فتوارى، ثم أعاده شمس الدولة وزيراً بعد ذلك، ولما مات شمس الدولة توجَّه إلى أصبهان، ثم أدركه مرض شديد مات على أثره، وكانت وفاته بهمدان سنة 428 هـ (ثمان وعشرين وأربعمائة من الهجرة) ، ودفن بها، فرحمه الله.
* *
مسلك ابن سينا فى التفسير
ابن سينا كمسلم يدين بالقرآن، وفيلسوف محب للفلسفة حريص على سلامة ما فيها من آراء، كان حريصاً كل الحرص على أن يوفق بين الدين والفلسفة، حتى يُرضى ناحيته الدينية والفلسفية. وكان طبيعياً - والقرآن هو الدعامة الأولى من دعائم الإسلام - أن يوفق ابن سينا بين نصوص القرآن والنظريات الفلسفية التى تبدو معارضة لها، وفعلاً قام بهذه العملية التى كانت - فيما أعتقد - شراً على الدين، وإبطالاً لحقائق القرآن الصريحة الثابتة.
نظر ابن سينا إلى القرآن، ونظر إلى الفلسفة، فحكَّم النظريات الفلسفية فى النصوص القرآنية، فشرحها شرحاً فلسفياً بحتاً، وكانت طريقته التى يسلكها فى شرحه غالباً هى شرح الحقائق الدينية بالآراء الفلسفية، وذلك لأنه كان يعتقد أن القرآن ما هو إلا رموز رمز بها النبى صلى الله عليه وسلم لحقائق تدق على أفهام العامة، عجزت أفهامهم عن إدراكها، فرمز إليها النبى بما يمكنهم أن يدركوه، وأخفى عنهم ما يعجز عن إدراكه عامة الناس إلا الخواص منهم، وهو يقول:"إن المشترط على النبى أن يكون كلامه رمزاً، وألفاظه إيماءً، وكما يذكر أفلاطون فى كتاب النواميس: إنَّ مَن لم يقف على معانى رموز الرسل لم ينل الملكوت الإلهى، وكذلك أجِلَّة فلاسفة يونان وأنبياؤهم كانوا يستعملون فى كتبهم الرموز والإشارات، التى حشوا فيها أسرارهم، كفيثاغورس وسقراط وأفلاطون.. وما كان يمكن النبى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يوقف على العلم أعرابياً جافياً، ولا سيما البَشر كلهم، إذ كان مبعوثاً إليهم كلهم".
وعلى هذا الأساس نظر ابن سينا إلى نصوص القرآن كرموز لا يعرف حقيقتها إلا
الخواص أمثاله، ففسَّرها تفسيراً حكَّم فيه ما لديه من نظريات فلسفية، فكان فى عمله هذا فاشلاً، وبعيداً عن حقيقة الدين، وروح القرآن الكريم.
وإليك بعض ما قاله ابن سينا فى بعض نصوص القرآن الكريم، لتقف على مقدار تهافته، وبُعْده عن حقائق القرآن الثابتة:
عرض ابن سينا لشرح قوله تعالى فى الآية [17] من سورة الحاقة: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} .. ففسَّر العرش بأنه الفلك التاسع الذى هو فلك الأفلاك، وفسَّر الملائكة الثمانية التى تحمل العرش بأنها الأفلاك الثمانية التى تحت الفلك التاسع. وإليك عبارته بنصها:
قال: "وأما ما بلَّغ النبى صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل من قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} "فنقول: إن الكلام المستفيض فى استواء الله تعالى على العرش من أوضاعه: أن العرش نهاية الموجودات المبدعة الجسمانية، وتدَّعى المشبهة من المتشرعين أن الله تعالى على العرش لا على سبيل حلول. هذا، وأما فى كلام الفلسفى فإنهم جعلوا نهاية الموجودات الجسمانية الفلك التاسع الذى هو فلك الأفلاك، ويذكرون أن الله تعالى هناك، وعليه لا على حلول، كما بيَّن أرسطو فى آخر كتاب سماع الكيان. والحكماء المتشرعون أجمعوا على أن المعنَّى بالعرش هو هذا الجُرْم. هذا.. وقد قالوا: إن الفلك يتحرك بالنفس، لأن الحركات إما ذاتية وإما غير ذاتية. والذاتية إما طبيعية، وإما نفسية، ثم بيَّنوا أن نفسها هو الناطق الكامل الفعَّال، ثم بيَّنوا أن الأفلاك لا تفنى ولا تتغير أبد الدهر، وقد ذاع فى الشرعيان أن الملائكة أحياء قطعاً، لا يموتون كالإنسان الذى يموت، فإذا قيل إن الأفلاك أحياء ناطقة لا تموت، والحى الناطق الغير الميت يسمى مَلَكاً، فالأفلاك تُسمى ملائكة. فإذا تقدم هذه المقدمات وضح أن العرش محمول على ثمانية، ووضح تفسير المفسِّرين أنها ثمانية أفلاك. والحمل يقال على وجهين: حمل بَشرى، وهو أولى باسم الحمل كالحجر المحمول على ظهر الإنسان، وحمل طبيعى كقولنا: الماء محمول على الأرض، والنار على الهواء. والمعنى هنا الحمل الطبيعى لا الأول. وقوله: يومئذ، والساعة، والقيامة، فالمراد بها ما ذكره الشارع: أن مَن مات قامت قيامته. ولما كان تحقيق النفس الإنسانية عند المفارقة آكد جعل الوعد والوعيد، وأشباههما إلى ذلك الوقت".
كذلك نجد ابن سينا يُفسِّر الجنَّة والنار والصراط تفسيراً فلسفياً بعيداً عن المأثور الثابت الصحيح، فيقسم العوالم إلى ثلاثة أقسام: عالَم حِسِّى، وعالَم خيالى وهمى، وعالَم عقلى، والعالَم العقلى عنده هو الجنَّة، والعالَم الخيالى هو النار، والعالَم الحِسِّى
هو عالَم القبور. أما الصراط فيقول فى شرحه: "اعلم أن العقل يحتاج فى تصور أكثر الكليات إلى استقراء الجزئيات، فلا محالة أنها تحتاج إلى الحس الظاهر، فتعلم أنه يأخذ من الحس الظاهر إلى الخيال إلى الوهم، وهذا هو من الجحيم طريق وصراط دقيق صعب حتى يبلغ ذاته العقل، فهو إذن يرى كيف الحد صراطاً وطريقاً فى عالَم الجحيم، فإن جاوزه بلغ عالَم العقل، فإن وقف فيه وتخيل الوهم عقلاً، وما يشير إليه حقاً، فقد وقف على الجحيم، وسكن فى جهنم، وهلك وخسر خسراناً مبيناً".
كذلك يُفسِّر ابن سينا قوله تعالى فى الآية [30] من سورة المدثر: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} تفسيراً فلسفياً بعيداً عن هدف القرآن، فيقرر أن النفس الحيوانية هى الباقية الدائمة فى جهنم، وهى منقسمة إلى قسمين: إدراكية، وعملية. والعملية: شوقية، وغضبية، والعلمية: هى تصورات الخيال المحسوسات بالحواس الظاهرة، وتلك المحسوسات ستة عشر، والقوة الوهمية الحاكمة على تلك الصور حكماً غير واجب واحدة - ذاتيان، وستة عشر، وواحدة تسعة عشر.. ثم يقول:"وأما قوله: {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلَاّ مَلَائِكَةً} [المدثر: 31] ؛ فمن العادة فى الشريعة تسمية القوى اللطيفة الغير المحسوسة ملائكة".
كما يُفسِّر أبواب الجنَّة الثمانية، وأبواب النار السبعة تفسيراً فلسفياً صرفاً، فيقول:"وأما ما بلَّغ النبى محمد عن ربه عز وجل أن للنار سبعة أبواب، وللجنة ثمانية أبواب، فإذ قد عُلِم أن الأشياء المدركَة إما مُدركة للجزئيات كالحواس الظاهرة وهى خمسة، وإدراكها الصور مع المواد، أو مُدركَة متصورة بغير مواد كخزانة الحواس المسماة بالخيال، وقوة حاكمة عليها حكماً غير واجب وهو الوهم، وقوة حاكمة واجباً وهو العقل، فذلك ثمانية. فإذا اجتمعت الثمانية جملة أدت إلى السعادة السرمدية، والدخول فى الجنَّة وإن حصل سبعة منها لا تتسم إلا بالثامن أدت إلى الشقاوة السرمدية. والمستعمل فى اللُّغات أن الشىء المؤدى إلى الشىء يسمى باباً، فالسبعة المؤدية إلى النار سميت أبواباً لها، والثمانية المؤدية إلى الجنة سميت أبواباً لها".
ويُفسِّر ابن سينا قوله تعالى فى الآية [35] من سورة النور: {الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَاّ شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ
تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} ..
فيقول: "النور اسم مشترك لمعنيين: ذاتى ومستعار، والذاتى هو كمال المشف من حيث هو مشف كما ذكرها أرسطاطاليس، والمستعار على وجهين: إما الخير، وإما السبب الموصل إلى الخير، والمعنّى ههنا هو القسم المستعار بكلى فى قسميه
…
أعنى أن الله تعالى خير بذاته وهو سبب لكل خير، كذلك الحكم فى الذاتى وغير الذاتى. وقوله:{السماوات والأرض} عبارة عن الكل. وقوله: {كَمِشْكَاةٍ} فهو عبارة عن العقل الهيولانى والنفس الناطقة، لأن المشكاة متقاربة الجدران جيدة التهئ للاستضاءة، لأن كل ما يقارب الجدران كان الانعكاس فيه أشد، والضوء أكثر. وكما أن العقل بالفعل مشبه بالنور، كذلك قابله مشبه يقابله وهو المشف، وأفضل المشفات الهواء، وأفضل الأهوية هو المشكاة، فالمرموز بالمشكاة هو العقل الهيولانى الذى نسبته إلى العقل المستفاد كنسبة المشكاة إلى النور، والمصباح هو عبارة عن العقل المستفاد بالفعل، لأن النور كما هو كمال للمشف كما حدّ به الفلاسفة ومُخرِج له من القوة إلى الفعل، ونسبة العقل المستفاد إلى العقل الهيولانى كنسبة المصباح إلى المشكاة. وقوله:{فِي زُجَاجَةٍ} لما كان بين العقل الهيولانى والمستفاد مرتبة أخرى وموضع آخر نسبته كنسبة الذى بين المشف والمصباح، فهو الذى لا يصل فى العيان المصباح إلى المشف إلا بتوسط وهو المسرجة، ويخرج من المسارج الزجاجة لأنها من المشفات القوابل للضوء. ثم قال بعد ذلك:{كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ليجعلها الزجاج الصافى المشف، لا الزجاج الذى لا يستشف، فليس شىء من المتلونات يستشف، {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} يعنى به القوة الفكرية التى هى موضوعة ومادة للأفعال العقلية، كما أن الدهن موضوع ومادة للسراج.. " وهكذا استمر ابن سينا فى شرح هذه الآية فارجع إليه إن شئت، وسترى أن شرحه هذا مزيج من فكرتى أفلاطون وأرسطو حيث جمع فيه بين ما يُعرف لأفلاطون من التعبير بـ "الخير" و "الكل"، وما يُعرف لأرسطو من أقسام العقل.
ويقول فى تفسير قوله تعالى فى الآية [4] من سورة الفلق: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} : "قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} إشارة إلى القوة النباتية: فإن النباتية موكلة بتدبير البدن ونشوه ونموه، والبدن عقد حصلت من عقد بين العناصر الأربعة المختلفة المتنازعة إلى الانفكاك، لكنها من شدة انفعال بعضها عن بعض صارت بدناً حيوانياً. والنفاثات فيها هى القوى النباتية، فإن النفث سبب لأن يصير