الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واختلفوا فى النفاق على ثلاثة أقوال:
فريق يرى أن النفاق براءة من الشرك والإيمان معاً، ويحتج بقوله تعالى فى الآية [143] من سورة النساء:{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لَا إلى هاؤلاء وَلَا إِلَى هاؤلاء} ..
وفريق يرى أن كل نفاق هو شرك، لأنه ينافى التوحيد.
وفريق ثالث يرى أن النفاق لا يُسمى به غير القوم الذين سمَّاهم الله تعالى منافقين.
وهناك مخالفة لبعض الإباضية فى بعض المسائل. لا نعرض لها هنا، مخافة التطويل.
هذه هى أهم فِرَق الخوراج، وهذه هى أهم ما لهم من تعاليم وعقائد، نضعها بين يدى القارئ قبل أن نتكلم عن موقفهم من التفسير، ليكون على علم بها، وليعلم بعد ذلك مقدار الصلة بينها وبين ما لهم من تفسير.
* *
مواقف الخوارج من تفسير القرآن الكريم
تعددت فِرَق الخوارج، وتعددت مذاهبهم وآراؤهم، فكان طبيعياً - وهم ينتسبون إلى الإسلام، ويعترفون بالقرآن - أن تبحث كل فرقة منهم عن أُسس من القرآن الكريم، تبنى عليها مبادئها وتعاليمها، وأن تنظر إلى القرآن من خلال عقيدتها، فما رأته فى جانبها - ولو ادعاءً - تمكست به، واعتمدت عليه. وما رأته فى غير صالحها حاولت التخلص منه بصرفه وتأويله، بحيث لا يبقى متعارضاً مع آرائها وتعاليمها.
* *
سلطان المذهب يغلب على الخوارج فى فهم القرآن
والذى يقرأ تاريخ الخوارج، ويقرأ ما لهم من أفكار تفسيرية، يرى أن المذهب قد سيطر على عقولهم، وتحكَّم فيها، فأصبحوا لا ينظرون إلى القرآن إلا على ضوئه، ولا يدركون شيئاً من معانيه إلا تحت تأثير سلطانه، لا يأخذون منه إلا بقدر ما ينصر مبادئهم ويدعو إليها.
فمثلاً نرى أن أكثر الخوارج يُجمعون على أن مرتكب الكبيرة كافر، ومخلَّد فى نار جهنم، ونقرأ فى الكتب التي تكلمت عن الخوارج فنجد ابن أبي الحديد - وهو ممن تعرض لهم فى كتابه "شرح نهج البلاغة" - يسوق لنا أدلتهم التى أخذوها من القرآن، وبنوا عليها رأيهم فى مرتكب الكبيرة، كما نجده يناقش هذه الأدلة، ويفندها دليلاً بعد دليل. ونرى أن نمسك عن مناقشة ابن أبى الحديد لهذه الأدلة، ويكفى أن نسوق للقارئ الكريم هذه الآيات التى استندوا إليها، ووجهة نظرهم فيها، فهى التى تعنينا في هذا البحث، وهى التى ترينا إلى أى حد تأثر الخوارج بسلطان العقيدة فى فهم نصوص القرآن.. فمن هذه الأدلة ما يأتى:
قوله تعالى فى الآية [97] من سورة آل عمران: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} .. قالوا: فجعل تارك الحج كافراً.
ومنها قوله تعالى فى الآية [87] من سورة يوسف: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلَاّ القوم الكافرون} .. قالوا: والفاسق - لفسقه وإصراره عليه - آيس من روح الله، فكان كافراً.
ومنها قوله تعالى فى الآية [44] من سورة المائدة: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولائك هُمُ الكافرون} .. قالوا: وكل مرتكب للذنوب فقد حكم بغير ما أنزل الله.
ومنها قوله تعالى فى الآيات [14-16] من سورة اللَّيل: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى * لَا يَصْلَاهَآ إِلَاّ الأشقى * الذي كَذَّبَ وتولى} .. قالوا: وقد اتفقنا مع المعتزلة على أن الفاسق يصلى النار، فوجب أن يُسمى كافراً.
ومنها قوله تعالى فى الآية [106] من سورة آل عمران: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} .. قالوا: والفاسق لا يجوز أن يكون ممن ابيضت وجوههم، فوجب أن يكون ممن اسودت، ووجب أن يُسمى كافراً، لقوله:{بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ..
ومنها قوله تعالى فى الآيات [38] وما بعدها إلى آخر سورة عبس: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أولائك هُمُ الكفرة الفجرة}
…
قالوا: والفاسق على وجهه غبرة، فوجب أن يكون من الكفرة الفَجَرة.
ومنها قوله تعالى فى الآية [17] من سورة سبأ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلَاّ الكفور} .. قالوا: والفاسق لا بد أن يُجازى، فوجب أن يكون كفوراً.
ومنها قوله تعالى فى الآية [42] من سورة الحِجْر: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَاّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} ، وقال فى الآية [100] من سورة النحل:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} .. قالوا: فجعل الغاوى الذى يتبعه مشركاً.
ومنها قوله تعالى فى الآية [20] من سورة السجدة: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .. قالوا: فجعل الفاسق مُكَذِّباً.
ومنها قوله تعالى في الآية [33] من سورة الأنعام: {ولاكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} .. قالوا: فأثبت الظالم جاحداً، وهذه صفة الكفار.
ومنها قوله تعالى فى الآية [55] من سورة النور: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولائك هُمُ الفاسقون} .
ومنها قوله تعالى فى الآيات [102-105] من سورة المؤمنون: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولائك هُمُ المفلحون * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولائك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} .. قالوا: فنص سبحانه على أن مَن تخف موازينه يكون مكذِّباً، والفاسق تخف موازينه فكان مكذِّباً، وكل مكذِّب كافر.
ومنها قوله تعالى فلا الآية [2] من سورة التغابن: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} . قالوا: وهذا يقتضى أن مَن لا يكون مؤمناً فهو كافر، والفاسق ليس بمؤمن، فوجب أن يكون كافراً.
هذه بعض الآيات التى تمسَّك بها الخوارج فى موقفهم من مرتكب الكبيرة الذى لم يتب، والتى حسبوا أنها حجج دامغة لمذهب مخالفيهم من المسلمين. ولا يسع الذى يعرف سياق هذه الآيات وسباقها، ويعرف الآيات والأحاديث الواردة فى شأن عصاة المؤمنين، ويتأمل قليلاً فى هذه التخريجات والاستنتاجات التى يقولون بها، لا يسعه بعد هذا كله: إلا أن يحكم بأن القوم متعصبون، ومندفعون بدافع العقيدة، وسلطان المذهب.
وهناك نصوص من القرآن استغلها أفراد من الخوراج، لتدعيم مبادئهم التى يشذون بها عمن عداهم من بعض فِرَق الخوارج، وهى فى مظهرها التفسيرى أكثر تعصباً، وأبلغ تعنتاً، فمن ذلك: أن نافع بن الأزرق كان لا يرى جواز التقية التى هى فى الأصل من مبادئ الشيعة، ويستدل على حُرْمتها بقوله تعالى فى الآية [77] من سورة النساء:{.. إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله} ..
ويرى نجدة بن عامر جواز التقية، ويستدل على ذلك بقوله تعالى فى الآية [28] من سورة غافر:{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} .
وأظهر من هذا: أن نجدة بن عامر كان لا يُصَوِّب نافع بن الأزرق فيما يقول به من إكفار القَعَدة، واستحلال قتل أطفال مخالفيه، وعدم رد الأمانات إلى مخالفيه، وغير ذلك من آرائه التى شذَّ بها، فأرسل نجدة إلى نافع رسالة يقول له فيها: ".. وأكفرتَ الذين عذرهم الله تعالى فى كتابه من قعدة المسلمين وضعفتهم. قال الله عز وجل وقوله الحق ووعده الصدق: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلَا على المرضى وَلَا عَلَى
الذين لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} ، ثم سماهم - تعالى - أحسن الأسماء فقال:{مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} . ثم استحللتَ قتل الأطفال وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وقال الله جَلَّ ثناؤه:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} ، وقال سبحانه فى القَعَدة خيراً فقال:{وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً} ، فتفضيله المجاهدين على القاعدين لا يدفع منزلة مَن هو دون المجاهدين أَوَ ما سمعت قوله تعالى:{لَاّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر} .. فجعلهم من المؤمنين، ثم إنك لا تؤدى الأمانة إلى مَن خالفك، والله تعالى قد أمر أن تُؤدَى الأمانات إلى أهلها، فاتق الله فى نفسك، واتق يوماً لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، فإن الله بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل. والسلام".
فرد عليه نافع بكتاب جاء فيه: ".. وعِبتَ ما دِنْتُ به من إكفار القَعَدة وقتل الأطفال، واستحلال الأمانة من المخالفين، وسأفسر ذلك إن شاء الله..
أما هؤلاء القَعَدة.. فليسوا كمن ذكرت ممن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلاً، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقاً، وهؤلاء قد تفقهوا فى الدين وقرأوا القرآن والطريق لهم نهج واضح، وقد عرفتَ ما قاله الله تعالى فيمن كان مثلهم إذ قالوا:{كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض} [النساء: 97]، فقال:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} [النساء: 97]، وقال سبحانه:{فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ الله وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} [التوبة: 81]، وقال:{وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} [التوبة: 90] .. فأخبر بتعذيرهم، وأنهم كذبوا الله ورسوله، ثم قال:{سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 90] . فانظر إلى أسمائهم وسماتهم.
وأما الأطفال.. فإن نوحاً نبى الله كان أعلم بالله منى ومنك، وقد قال:{رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يلدوا إِلَاّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 26-27] .. فسمَّاهم بالكفر وهم أطفال وقبل أن يُولدوا، فكيف كان ذلك فى قوم نوح ولا نقوله فى قومنا.. والله تعالى يقول:{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزبر} .. وهؤلاء كمشركى العرب لا يُقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام.