الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف متقدمى الباطنية من تفسير القرآن الكريم
علمت أن الغرض الأول الذى تقوم عليه دعوة الباطنية وتتركز فيه: هو العمل على هدم الشرائع عموماً، وشريعة الإسلام على الخصوص. فكان لزاماً عليهم وقد قاموا يحاربون الإسلام - أن يُعمِلوا معاول الهدم فى ركن الإسلام المكين، وهو القرآن الكريم، وقد عجموا معاولهم كلها فلم يجدوا مِعْوَلاً أصلب ولا أقوى على تنفيذ غرضهم من مِعْوَل التأويل والميل بالآيات القرآنية إلى غير ما أراد الله.
كتب عبيد الله بن الحسن القيروانى إلى سليمان بن الحسن بن سعيد الجنانى رسالة طويلة جاء فيها: ".. وإنى أوصيك بتشكيك الناس فى القرآن والتوراة والزبور والإنجيل، وتدعوهم إلى إبطال الشرائع، وإلى إبطال المعاد والنشور من القبور، وإبطال الملائكة فى السماء، وإبطال الجن فى الأرض، وأوصيك أن تدعوهم إلى القول بأنه قد كان قبل آدم بشر كثير، فإن ذلك عون لك على القول بقِدَم العالَم".
رأى هذا الزعيم الباطنى أن التشكيك فى القرآن خير معوان لهم على تركيز عقائدهم، ورأى رأيه أهل الباطن جميعاً فقالوا: "للقرآن ظاهر وباطن، والمراد منه باطنه دون ظاهره العلوم من اللُّغة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللُّب إلى القشر، والمتمسك بظاهره معذَّب بالشقشقة فى الكتاب، وباطنه مُؤدِّ إلى ترك العمل بظاهره، وتمسكوا فى ذلك بقوله تعالى فى الآية [13] من سورة الحديد:{فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} .
فانظر إليهم كيف وضعوا هذه القاعدة لفهم نصوص القرآن الكريم، ثم اعجب ما شاء لك أن تعجب من استدلالهم بهذه الآية الكريمة على قاعدتهم التى قَعَّدوها؟ ولستُ أدرى ما صلة هذه الآية بتلك القاعدة والآية واردة فى شأن من شئون الآخرة ينساق إلى فهمه كل مَن يمر بالآية بدون كلفة ولا عناء.
* *
* من تأويلات الباطنية القدامى:
على هذه القاعدة السابقة جرى القوم فى شرحهم لكتاب الله تعالى، فكان من تأويلاتهم ما يأتى:
"الوضوء" عبارة عن موالاة الإمام، و "التيمم" هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذى هو الحُجَّة، و "الصلاة" عبارة عن الناطق الذى هو الرسول بدليل قوله تعالى فى
الآية [45] من سورة العنكبوت: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} .. و "الغُسْل، تجديد العهد ممن أفشى سراً من أسرارهم من غير قصد، وإفشاء السر عندهم على هذا النحو هو معنى "الاحتلام". و "الزكاة" عبارة عن تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين.. و "الكعبة" النبى. و "الباب" علىّ. و "الصفا" هو النبى. و "المروة" علىّ. و "الميقات" الإيناس. و "التلبية" إجابة الدعوة. و "الطواف بالبيت سبعاً" موالاة الأئمة السبعة. و "الجنة" راحة الأبدان من التكاليف. و "النار" مشقتها بمزاولة التكاليف.
وتأوَّلوا أنهار الجنة فقالوا: "أنهار من لبن" أى معادن العلم؛ اللبن العلم الباطن، يرتفع به أهلها، ويتغذون به تغذياً تدوم به حياتهم اللطيفة، فإن غذاء الروح اللطيفة بارتضاع العلم من المعلم، كما أن حياة الجسم الكثيف بارتضاع اللبن من ثدى الأم. "وأنهار من خمر" هو العلم الظاهر. "وأنهار من عسل مصفى" هو علم الباطن المأخوذ من الحجج والأئمة.
كذلك نجد الباطنية يرفضون المعجزات، ولا يعترفون بها للرسل، وينكرون نزول ملائكة من السماء بالوحى من الله، بل وزادوا على ذلك فأنكروا أن يكون فى السماء مَلَك وفى الأرض شيطان، وأنكروا آدم والدجَّال، ويأجوج ومأجوج، ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام آيات من القرآن تُكذِّب دعواهم هذه، فتخلَّصوا منها بمبدائهم الذى ساروا عليه فى تفسيرهم وهو إنكار الظاهر والأخذ بالباطن، وأوَّلوا هذه الآيات بما يتفق ومذهبهم، فتأوَّلوا "الملائكة" على دعاتهم الذين يدعون إلى بدعتهم. وتأوَّلوا "الشياطين" على مخالفيهم. وتأوَّلوا كل ما جاء فى القرآن من معجزات الأنبياء عليهم السلام، فقالوا:"الطوفان" معناه الطوفان العلم
…
أغرق به المتمسكون بالسُّنَّة، و "السفينة" حرزه الذى تحصن به مَن استجاب لدعوته. و "نار إبراهيم" عبارة عن غضب نمروذ عليه لا النار الحقيقية. و "ذبح إسحاق" معناه أخذ العهد عليه. و "عصا موسى" حُجَّته التى تلقفت ما كانوا يأفكون من الشُبه لا الخشب. "وانفلاق البحر" افتراق علم موسى فيهم عن أقسام. و "البحر" هو العلم. و "الغمام الذى أظلمهم" معناه الإمام الذى نصبه موسى لإرشادهم وإفاضة العلم عليهم. و "الجراد والقُمَّل والضفادع" هى سؤالات موْسى والتزاماته التى سُلِّطت عليهم. و "المن والسلوى" علم نزل من السماء لداع من الدعاة هو المراد بالسلوى. و "تسبيح الجبال" معناه تسبيح رجال شداد فى الدين راسخين فى اليقين. و "الجن الذين ملكهم سليمان بن داود" باطنية ذلك الزمان. و "الشياطين" هم الظاهرية الذين كُلِّفوا بالأعمال الشاقة. و "عيسى" له
أب من حيث الظاهر، وإنما أراد بالأب المنفى: الإمام، إذ لم يكن له إمام، بل استفاد العلم من الله بغير واسطة، وزعموا - لعنهم الله - أن أباه يوسف النجار و "كلامه فى المهد" اطلاعه فى مهد القالب قبل التخلص منه على ما يَطِّلِع عليه غيره بعد الوفاة والخلاص من القالب. و "إحياء الموتى من عيسى" معناه الإحياء بحياة العلم عن موت الجهل بالباطن. و "إبراؤه الأعمى:" عن عمى الضلالة. و "الأبرص" عن برص الكفر ببصيرة الحق المبين. و "إبليس وآدم" عبارة عن أبى بكر وعلىّ، إذ أُمِرَ أبو بكر بالسجود لعلىّ
والطاعة له فأبى واستكبر. و "الدجال" أبو بكر، وكان أعوراً إذ لم يبصر إلا بعين الظاهر دون عين الباطن. و "يأجوج ومأجوج" هم أهل الظاهر".
بل بالغوا فقالوا: "إن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة، فساسوا العامة بالنواميس والحيل، طلباً للزعامة بدعوة النبوة والإمامة.
هذا.. وإن مما زعمته الباطنية: أن مَن عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها وتأولَّوا فى ذلك قوله تعالى فى الآية [99] من سورة الحِجْر: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} .. وحملوا اليقين على معرفة التأويل.
كذلك استحل الباطنية نكاح البنات والأخوات وجميع المحارم، بحجة أن الأخ أحق بأُخته، والأب أولى بابنته
…
وهكذا: ولست أدرى على أى وجه وتأوَّلوا آية النساء الى حرَّمت ذلك، ومنعته منعاً باتاً!!
ويقول القيروانى فى رسالته التى أرسلها إلى سليمان بن الحسن: ".. وينبغى أن تحيط علماً بمخاريق الأنبياء ومناقضاتهم فى أقوالهم، كعيسى ابن مريم، قال لليهود: لا أرفع شريعة موسى، ثم رفعها بتحريم الأحد بدلاً من السبت، وأباح العمل فى السبت، وأبدل قِبْلة موسى بخلاف جهتها..
وبذلك قتلته اليهود لما اختلفت كلمته، ولا تكن كصاحب الأُمَّة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال:{الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] لما لم يحضره جواب المسألة، ولا تكن كموسى فى دعواه التى لم يكن عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعوذة، ولما لم يجد المحق فى زمانه عنده برهاناً قال له:{لَئِنِ اتخذت إلاها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الشعراء: 29]، وقال لقومه:{أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] لأنه كان صاحب الزمان فى وقته".
ثم قال فى آخر هذه الرسالة: ".. وما العجب من شئ كالعجب من رجل يدَّعى العقل، ثم يكون له أُخت أو بنت حسناء وليس له زوجة فى حُسْنها، فيُحَرِّمها على نفسه ويُنكحها من أجنبى، ولو عقل الجاهل لعلم أنه أحق بأُخته، وبنته من الأجنبى؛ وما وجه ذلك إلا أن صاحبهم حرَّم عليهم الطيبات وخوَّفهم بغائب لا يُعقل، وهو الإله
الذى يزعمونه، وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبداً من البعث من القبور، والحساب، والجنَّة، والنار، حتى استعبدهم بذلك عاجلاً وجعلهم له فى حياته، ولذُرِّيته بعد وفاته خولاً، واستباح بذلك أموالهم بقوله:{لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَاّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] .
فكان أمره معهم نقداً وأمرهم معه نسيئة، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون، وهل الجنَّة إلا هذه الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنَصَب فى الصلاة والصيام والجهاد والحج"؟
ثم قال لسليمان بن الحسن فى هذه الرسالة: ".. وأنت وإخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، وفى هذه الدنيا ورثتم نعيمها ولذَّاتها محرَّمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع أصحاب النواميس، فهنيئاً لكم ما نلتم منْ الراحة عن أمرهم".
ومن جملة تأويلاتهم الباطلة التى يتوصلون بها إلى هواهم النفسى، ومأربهم الشخصى، أنهم بعد أن يلقوا على المدعو ما يشككونه به، وتتطلع إلى معرفته من جهتهم نفسه، ويقولون له: لا نظهره إلا بتقديم خير عليه، فيطلبون مائة وتسعة عشر درهماً من السبيكة الخالصة. ويقولون: هذا تأويل قوله تعالى: {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} [المزمل: 20] .. فالحاء والسين والنون والألف إذا جُمِع عددها بحساب الجُمَّل يكون مبالغه مائة وتسعة عشر".
ومن ذا الذى قال إن القرآن يخضع فى تفسيره وفهم معانيه إلى حساب الجُمَّل؟.. اللهم إن هذا لا يصدر إلا عن مُخرِّف أو زنديق يريد أن يضل الناس ويحتال على سلب أموالهم بدعوى يدعيها على كتاب الله!!
كذلك نجد الباطنية يحرصون على نفى وجود الإله الحق، والنبى المرسل محمد صلى الله عليه وسلم، ليتوصلوا بذلك إلى رفع التكاليف، فنراهم يقولون للمبتدئ: "إن الله خلق الناس واختار منهم محمداً صلى الله عليه وسلم ، فيستحسن المبتدئ هذا الكلام، ثم يقول له: أتدرى مَن محمد؟ فيقول: نعم، محمد رسول الله، خرج من مكة، وادَّعى النبوة، وأظهر الرسالة، وعرض المعجزة. فيقول له: ليس هذا الذى تقول إلا كقول هؤلاء الحمير - يعنون به المؤمنين من أهل الإسلام - إنما محمد أنت. فيستعيذ السامع ويقول: ليست أنا محمداً، فيقول له: الله تعالى وصفه فى هذا القرآن فقال: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
[التوبة: 128] .. وهؤلاء الحمير يقولون: من مكة.. فيقول له الغر الغمر: على أى معنى تقول أنا محمد؟ فيقول: خلقك وصوَّرك خلقة محمد، فالرأس بمنزلة الميم، واليدان بمنزلة الحاء، والسُرَّة بمنزلة الميم، والرجلان بمنزلة الدال، وكذلك أنت علىّ أيضاً، عينك هى العين، والأنف هى اللام، والفم الياء".
وبهذا يوهمه أنه هو محمد الذى جاء ذكره فى القرآن، أما ما يدعى من وجود رسول اسمه محمد، فهذا ظاهره غير مراد.
ولأجل أن يوهمه أيضاً بأنه لا إله موجود على الحقيقة، وما جاء فى القرآن من ذلك فظواهر غير مرادة، نجده يقول للمبتدئ: إن المراد بإثبات الذات يرجع إلى نفسك، ويُؤوِّلون عليه قوله تعالى:.. {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هاذا البيت} [قريش: 3] ويقولون: الرب هو الروح والبيت هو البدن.
ولقد وصل الغلو ببعض الباطنية إلى ادعاء أُلوهية محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وأنه هو الذى كلَّم موسى بقوله:{إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ} [طه: 12] .. وفى هذا يروى لنا البغدادى صاحب الفَرْق بين الفِرَق قصة رجل دخل فى دعوة الباطنية، ثم وفقه الله لتركها والرجوع لرشده.. يحكى هذا الرجل قصته للبغدادى فيقول:"إنهم لما وثقوا بإيمانه قالوا له: إن المسمين بالأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وكل مَن ادَّعى النبوة: كانوا أصحاب نواميس ومخاريق، وأحبوا الزعامة على العامة، فخدعوهم بنيرنجات، واستعبدوهم بشرائعهم - قال الحاكى للبغدادى: ثم ناقض الذى كشف لى هذا السر بأن قال: ينبغى أن تعلم أن محمد ابن إسماعيل بن جعفر هو الذى نادى موسى بن عمران من الشجرة فقال له: {إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ} .. ثم قال: فقلت: سخنت عينك! تدعونى إلى الكفر برب قديم خالق للعاَلم، ثم تدعونى مع ذلك إلى الإقرار بربوية إنسان مخلوق، وتزعم أنه كان قبل ولادته إلهاً مرسلاً لموسى؟ فإن كان موسى عندك كاذباً، فالذى زعمتَ أنه أرسله أكذب، فقال: إنك لا تفلح أبداً، وندم على إفشاء أسراره إلىَّ وتُبْتُ من بدعتهم".
فانظر إليهم - لعنهم الله - كيف يصرفون القرآن عن أن يكون الله هو المتكلم به، ويدَّعون أنه كلام إلههم المزعوم محمد بن إسماعيل!!.. أليس هذا غلواً فى الإلحاد؟ وإغراقاً فى الكفر والعناد؟
وبين أيدينا كتاب أسرار الباطنية، وهو يكشف لنا عن نواياهم ويفضح أسرارهم وخباياهم. وهو لمحمد بن مالك اليمانى أحد علماء القرن الخامس الهجرى، ولا أريد
أن أُطيل على القارئ بذكر ما فيه من مخازى القوم، ولكن أكتفى بذكر نبذة من الكتاب. ضمنها المصنِّف ما شهده بنفسه من ضلالهم وإضلالهم، وذلك حين اندس بينهم متظاهراً بدخوله فى زمرتهم، ليقف بنفسه على ما بلغه عنهم من أباطيل وأضاليل، وإنما اخترت هذه النبذة بالذات، لأنها تعطينا فكرة واضحة عن مقدار تلاعب الباطنية بكتاب الله تحت ستار التأويل. وعن مبلغ استهزائهم بعقول العامة الذين وقعوا فيما نصبوه لهم من الأحابيل!!
* *
* مقالة محمد بن مالك اليمانى فى الباطنية:
يقول محمد بن مالك اليمانى: "أول ما أشهد به وأشرحه، وأُبيِّنه للمسلمين وأُوضِّحه، أن له - يريد علىّ بن محمد الصليحى زعيم باطنية اليمن فى وقته - نواباً يسميهم الدعاة المأذونين، وآخرين يلقبهم المُكَلبين، تشبيهاً لهم بكلاب الصيد، لأنهم ينِصبون للناس الجبائل، ويكيدونهم بالغوائل، وينقبضون عن كل عاقل، ويُلبِّسون على كل جاهل، بكلمة حق يُراد بها الباطل، ويحضونه على شرائع الإسلام، من الصلاة والزكاة والصيام، كالذى ينثر الحب للطير ليقع فى شِرْكه، فيقيم أكثر من سنة يمعنون به، وينظرون صبره، ويتصفحون أمره. ويخدعونه بروايات عن النبى صلى الله عليه وسلم مُحرَّفة، وأقوال مزخرفة، ويتلون عليه القرآن على غير وجهه، ويُحرِّفون الكَلم عن مواضعه، فإذا رأوا منه الانهماك والركون والقبول والإعجاب بجميع ما يُعلِّمونه، والانقياد بما يأمرونه، قالوا حينئذ: اكشف عن السرائر ولا ترض لنفسه ولا تقنع بما قنع به العوام من الظواهر، وتدبر القرآن ورموزه، واعرف مُثله وممثوله، واعرف معانى الصلاة والطهارة، وما روى النبى صلى الله عليه وسلم بالرموز والإشارة، دون التصريح فى ذلك والعبارة، فإنما جميع ما عليه الناس أمثال مضروبة، لممثولات محجوبة، فاعرص الصلاة وما فيها، وقف على باطنها ومعانيها، فإن العمل بغير علم لا ينفع به صاحبه. فيقول: عَمّ أسأل؟ فيقول: قال الله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} [البقرة: 43] .. فالزكاة مفروضة فى كل عام مرة، وكذلك الصلاة، مَن صلاها مرة فى السنة فقد أقام الصلاة بغير تكرار، وأيضاً فالصلاة والزكاة لهما باطن لأن الصلاة صلاتان، والزكاة زكاتان، والصوم صومان، والحج حجان، وما خلق الله سبحانه من ظاهر إلا وله باطن، يدل على ذلك:{وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120]، و {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] .. ألا ترى أن البيضة لها ظاهر وباطن؟ فالظاهر ما تساوى به الناس، وعرفه الخاص والعام، وأما الباطن فقصر علم الناس به عن العلم به، فلا يعرفه إلا القليل، من ذلك قوله: {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ
إِلَاّ قَلِيلٌ} [هود: 40]، وقوله:
{وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: 24]، وقوله:{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] .. فالأقل من الأكثر الذين لا عقول لهم.
و"الصلاة" و "الزكاة" سبعة أحرف دليل على محمد وعلىّ صلى الله عليهما، لأنهما سبعة أحرف، فالَمعْنِىُ بالصلاة والزكاة ولاية محمد وعلىّ، فمن تولاهما فقد أقام الصلاة وآتى الزكاة، فيوهمون على مَن لا يعرف لزوم الشريعة والقرآن وسنن النبى صلى الله عليه وسلم، فيقع هذا من ذلك المخدوع بموقع الاتفاق والموافقة، لأن مذهب الراحة والإباحة يريحهم مما تُلزمهم الشرائع من طاعة الله، ويبيح لهم ما حُظِرَ عليهم من محارم الله، فإذا قبل منهم ذلك المغرور هذا قالوا له: قرِّب قُرباناً ليكون لك سلما ونجوى، ونسأل لك مولانا يحط عنك الصلاة، ويضع عنك هذا الإصر، فيدفع اثنى عشر ديناراً، فيقول ذلك الداعى: يا مولانا؛ إن عبدك فلاناً قد عرف الصلاة ومعانيها، فاطرح عنه الصلاة وضع عنه هذا الإصر، وهذا نجواه إثنا عشر ديناراً، فيقول اشهدوا أنى قد وضعت عنه الصلاة ويقرأ له:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . فعند ذلك يقبل إليه أهل هذه الدعوة ويهنئونه ويقولون: الحمد لله الذى وضع عنك وزرك، الذى أنقض ظهرك. ثم يقول له ذلك الداعى - الملعون - بعد مدة: قد عرفت الصلاة وهى أول درجة، وأنا أرجو أن يُبلِّغك الله إلى أعلى الدرجات، فأسأل وابحث، فيقول: عمّ أسأل؟ فيقول له: سل عن الخمر والميسر، اللذين نهى الله تعالى عنهما: هما أبا بكر وعمر لمخالفتهما على علىّ، وأخذهما الخلافة دونه، فأما ما يُعمل من العنب والزبيب والحنطة وغير ذلك فليس بحرام، لأنه مما أنبتت الأرض، ويتلو عليه:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} [الأعراف: 32]
…
إلى آخر الآية، ويتلو عليه:{لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} [المائدة: 93] .. إلى آخر الآية، والصوم: الكتمان، فيتلو عليه:{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] يريد كتمان الأئمة فى وقت استتارهم خوفاً من الظالمين، ويتلو عليه:{إِنِّي نَذَرْتُ للرحمان صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} [مريم: 26] فلو كان عَنِىَ بالصيام ترك الطعام لقال: فلن أُطعم اليوم
شيئاً، فدل على أن الصيام الصموت، فحينئذ يزداد ذلك المخدوع طغياناً وكفراً، وينهمك إلى قول ذلك الداعى الملعون، لأنه أتاه بما يوافق هواه، والنفس أمَّارة بالسوء.. ثم يقول له: ادفع النجوى تكن لك سلماً ووسيلة حتى نسأل مولانا يضع عنك الصوم، فيدفع اثنى عشر ديناراً، فيمضى به إليه فيقول: يا مولانا؛ عبدك فلان قد عرف معنى الصوم على الحقيقة، فأبح له الأكل فى رمضان، فيقول له: قد وثَّقته وأمَّنته على سرائرنا؟ فيقول له: نعم، فيقول: قد وضعتُ عنه ذلك، ثم يقيم بعد ذلك مدة، فيأتيه ذلك الداعى الملعون فيقول له: قد عرفتَ ثلاث درجات، فاعرف الطهارة ما هى، ومعنى الجنابة ما هى فى التأويل، فيقول له: فسِّر لى ذلك، فيقول له: اعلم أن معنى الطهارة طهارة القلب، وأن المؤمن طاهر بذاته، والكافر نجس لا يطهره الماء ولا غيره، وأن الجنابة هى موالاة الأضداد، أضداد الأنبياء والأئمة، فأما المِنَى فليس بنجس، منه خلق الله الأنبياء، والأولياء، وأهل طاعته، وكيف يكون نجساً وهو مبدأ خلق الإنسان، وعليه يكون أساس البنيان؟ فلو كان التطهير منه من أمر الدين لكان الغُسْل من الغائط والبول أوجب، لأنهما نجسان، وإنما معنى:{وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} [المائدة: 6] معناه: وإن كنتم جهلة بالعلم الباطن فتعلَّموا واعرفوا العلم الذى هو حياة الأرواح، كالماء الذى هو حياة الأبدان، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] .. وقوله: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 5-6] .. فلما سمَّاه الله بهذا دَلَّ على طهارته، ويوهمون ذلك المخدوع بهذه المقالة، ثم يأمره ذلك الداعى أن يدفع اثنى عشر ديناراً، ويقول: يا مولانا، عبدك فلان قد
عرف معنى الطهارة حقيقة وهذا قربانه إليك، فيقول: اشهدوا أنى قد حللت له ترك الغُسل من الجنابة، ثم يقيم مدة فيقول له هذا الداعى الملعون: قد عرفتَ أربع درجات، وبقى عليك الخامسة، فاكشف عنها، فإنها منتهى أمرك وغاية سعادتك، ويتلو عليه:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] فيقول له: ألهمنى إياها ودلنى عليها، فيتلو
عليه: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هاذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22] .. ثم يقول له: أتحب أن تدخل الجنة فى الحياة الدنيا؟ فيقول: وكيف لى ذلك؟ فيتلو عليه: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى} [الليل: 13] . ثم يتلو عليه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} [الأعراف: 32] .. والزينة ههنا: ما خفى على الناس من أسرار النساء التى لا يَطَّلع عَلِيها إلا المخلصوصون بذلك، وذلك قوله:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] .. والزينة مستورة غير مشهورة، ثم يتلو عليه:{وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 22-23] .. فمن لم ينل الجنة فى الدنيا لم ينلَها فى الآخرة، لأن الجنة مخصوص بها ذوو الألباب، وأهل العقول دون الجُهَّال، لأن المستحسن من الأشياء ما خفى، ولذلك سميت الجنَّة جَنّة لأنها مستجنة، وسميت الجِن جِنا لاختفائهم عن الناس، والمجنة المقبرة لأنها تستر مَن فيها، والترس المجن لأنه يُستتر به، فالجَنَّة ههنا: ما استتر عن هذا الحق المنكوس الذين لا علم لهم ولا عقول،
فحينئذ يزداد هذا المخدوع انهماكاً، ويقول لذلك الداعى الملعون: تَلَطَّف فى حالى، وبَلِّغنى إلى ما شوَّقتنى إليه، فيقول: ادفع النجوى اثنى عشر ديناراً تكون لك قرباناً وسلماً، فيمضى به فيقول: يا مولانا؛ إن عبدك فلاناً قد صَحَّت سريرته، وصفت خبرته وهو يريد أن تُدخله الجنة، وتُبلغه حد الأحكام، وتزوِّجه الحور العين، فيقول له: قد وثَّقته وأمَّنته؟ فيقول: يا مولانا؛ قد وثَّقته وأمَّنته وخبرته فوجدته على الحق صابراً، ولأنعمك شاكراً، فيقول: عِلْمُنا صعب مستعصب لا يحمله إلا نبى مرسل، أو مَلك مُقرَّب، أو عبد امتحن الله قلبه بالإيمان، فإذا صح عند حاله فاذهب به إلى زوجتك فاجمع بينه وبينها، فيقول: سمعاً وطاعة لله ولمولانا، فيمضى به إلى بيته، فيبيت مع زوجته، حتى إذا كان الصباح قرع عليهما الباب وقال: قوما قبل أن يعلم نبأنا هذا الخلق المنكوس،
فيشكر ذلك المخدوع ويدعو له، فيقول له: ليس هذا من فضلى، هذا من فضل مولانا، فإذا خرج من عنده تسامع به أهل هذه الدعوة الملعونة، فلا يبقى منهم أحد إلا بات مع زوجته كما فعل ذلك الداعى الملعون، ثم يقول له: لا بد لك أن تشهد هذا المشهد الأعظم عند مولانا، فادفع قربانك، فيدفع اثنى عشر ديناراً ويصل به ويقول: يا مولانا؛ إن عبدك فلاناً يريد أن يشهد المشهد الأعظم، وهذا قربانه، حتى إذا جن الليل، ودارت الكؤوس، وحميت الرؤوس، وطابت النفوس، أحضر جميع أهل هذه الدعوة الملعونة حريمهم، فيدخلن عليهم من كل باب، وأطفأوا السراج والشموع، وأخذ كل واحد منهم ما وقع عليه فى يده، ثم يأمر المقتدى زوجته أن تفعل كفعل الداعى الملعون وجميع المستجيبين، فيشكره ذلك المخدوع على ما فعل له، فيقول له: ليس هذا من فضلى، هذا من فضل مولانا أمير المؤمنين فاشكروه ولا تكفروه على ما أطلق من وثاقكم، ووضع عنك أوزاركم، وحَطَّ عنكم آصاركم، ووضع عنكم أثقالكم، وأحلَّ لكم بعض الذى حرَّم عليكم جُهَّالكم {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلَاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] .
قال محمد بن مالك - رحمه الله تعالى - هذا ما اطلعت عليه من كفرهم وضلالتهم، والله تعالى لهم بالمرصاد، والله تعالى علىّ شهيد بجميع ما ذكرته مما اطلعتُ عليه من فعلهم وكفرهم وجهلهم، والله يشهد علىّ بجميع ما ذكرته، عالِم به، ومَن تَكلَّم عليهم بباطل فعليه لعنة الله، ولعنة اللاعنين، والملائكة، والناس أجمعين، وأخزى الله مَن كذب عليهم، وأعدّ لهم جهنم وساءت مصيراً، ومَن حكى عنهم بغير ما هم عليه فهو يخرج من حَوْل الله وقوته إلى حَوْل الشيطان وقوته.. "
وبعد.. ألستَ ترى معى أن تأويلهم للقرآن تأويل فاسد لا يقوم على أساس ولا يستند إلى برهان، وإنما هى أوهام وأباطيل، غروراً بها ضعاف العقول ليسلخوهم من الدين، وليدخلوهم فى زمرة الملحدين وحزب الشياطين؟ أعتقد ذلك، وأظن أن سؤالاً يدور بخلد القارئ هو: كيف نجزم بنسبة هذه التأويلات كلها إلى الباطنية مع وجود التناقض والاختلاف بين بعض المعانى التى نُقِلتْ عنهم للفظ الواحد؟ أليس هذا دليلاً على عدم صحة كل ما يُنسب إليهم؟.. والحق أن السؤال وارد، ولكنه مدفوع بما ذكره الغزالى من أن سر هذا الاضطراب راجع إلى أنهم كانوا لا يخاطبون الخلق بمسلك واحد، بل غرضهم الاستتباع والاحتيال، فلذلك تختلف كلمتهم، ويتفاوت نقل المذهب عنهم.
* * *